|
الإنسان والمفكر
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 11:56
المحور:
قضايا ثقافية
سعاد العلس أديبة وكاتبة يمنية
حين تمّ اختياري للكتابة عن هذا السامق، اجتاحتني ربكة البدايات الصعبة، التي لا تشبه كل البدايات، ماذا أكتب؟ ومن أين أبدأ؟ وخلافاً عن كل الكتابات، هذه تحديداً لا طرف يلوّح بنهايتها. صدقاً الكتابة عنه مرهقة ومؤرقة، مرهقة في تتبع غزارة إنتاجه ونضاله على كافة الأطر، ولاسيّما تلك المتعلّقة بحقوق الإنسان، هذا الباب الذي سُدّ بإحكام عن وعي وإصرار في وجه الإنسان، فكان شعبان هو اليد التي لا تكلّ عن الطَّرْق، علّ أحد الأبواب الصمّاء يُفتح ذات انفراج. ومؤرقة من حيث الوقوف في وجه هذا الفيض في محاولة للسيطرة على اتجاهاته، لذا آثرت الكتابة عنه من خلال تجربتي في العمل معه، من حيث اشتغاله بكتابة مقدمة كتابي عن الدور التنويري والوطني لنساء عدن. باذخ ذاك الوقت الذي قادني إليه لأعرض عليه فكرة كتابي «نساء عدن تنوير وتحرير»، الذي كنت قد شرعت في إعداده عن دور المرأة في عدن إبان الاحتلال البريطاني (1839م /1967م) تنويراً وتحريراً، الدور الذي لم تسبق الكتابة عنه والتطرق إليه ونشره، فظلّ حبيس الذاكرة لكل من عاصر تلك الفترة، وبالتالي أسدلت ستائر العتمة على هذا التاريخ المتوهج. جملة من الصعوبات كانت تعترضني، منها عدم وجود وثائق أو كتب مرجعية لتوثيق دور المرأة، فكان اللجوء إلى المنهج الشفوي هو السبيل الذي سلكته في الكتابة من خلال لقاءاتي بالمناضلات أنفسهن وقياداتهن. وللولوج في هذا الخط الشائك، كان عليّ البحث عن رموز عاشت هذه الفترة، وصولاً إلى ما بعد مرحلة الاستقلال، التي شهدت فيه عدن انفتاحاً على التجربة الاشتراكية التي كانت تموج فيها آنئذ، وكان اسم د.عبد الحسين شعبان في مقدمتهم، هذا الرجل (الكثير) والمهموم بالحق الإنساني المطلق. استوقفني الاسم لكثرة ما تردّد أمامي من خلال ما شاهدت له من لقاءات شتى، تراوحت بين اشتغاله على الكتابة عن رموز أدبية وسياسية واجتماعية، وأخص تحديداً لقاءات الضدّ، تلك التي تتطلّب سياسة النفس الطويل الذي تسِمَهُ، الأمر الذي يسترعي الانتباه إليه حين التحدث معه. كان بالنسبة لي أمر غالى في صعوبته من حيث اقتناعي بالمجازفة بالتواصل معه وعرض فكرة الكتاب واختيار من يكتب التقديم له، في وقت انطفأ فيه بريق (عدن) الحاضنة للتجربة الاشتراكية، أو كما أسماها الشاعر الكبير سعدي يوسف ﺑ»عاصمة الأمل العربي»، لكن فكرة الكتابة عن دور المرأة في التحرير من الاستعمار البريطاني بحدّ ذاته أمر محفوف بالصعب، فليكن التواصل مع د.شعبان فاتحته، و«فاز باللذة الجسور». حين يكون الحديث عفوياً غير مكبل بقيود الديباجية وفواصل الضبط ونقاط الفصل، ولا يلوّح أحد طرفي الحديث بهراوات المنع أو كوابح الكلام تنساب الكلمات ببساطة وعذوبة مما يسهل إقصاء الصعب، هكذا كان الحديث معه من المرة الأولى. وجدت نفسي أتحدث إليه ببساطة عن صعوبات الكتابة في هذا الشأن في وسطٍ خالٍ من أي توثيق أو دراسات تتعلق بتاريخ الثورة إجمالاً، ناهيك عن دور المرأة في النضال الميداني في فترة اندلاع الثورة.. واتخاذي منهج التاريخ الشفوي سبيلاً لتسجيل شهادة المناضلات. من هذه النقطة تحديداً استيقظت أحلام هذا الثائر، الذي كان شاهداً على قطوف النضال في دولة عربية اشتراكية استقطبت كل حركات التحرر العربية. كان بصدق مشجعاً لي على مواصلة الكتابة، رغم العديد من الصعوبات التي واجهتها، لكن قبوله كتابة مقدمة الكتاب، أمدّني بقوة خارقة كي أضاعف همتي لأنتج كتاباً، هو المرجعية الأولى لتاريخ الكفاح النسوي ببصمة الثائر والحقوقي والمفكر د.عبد الحسين شعبان على مقدمته. كان حماسه لكتابة المقدمة قد جاء كجزء لا ينفصم عن اهتمامه بالدفاع عن المرأة بالمطلق وصولاً إلى منحها حياة متساوية مع الرجل خالية من أشكال النقص والتهميش. يملك د.شعبان مقدرة على جعل الأمور الصعبة أكثر مرونة واحتمالاً، وهذا ما لمسته حينما أسررت إليه بمخاوفي في الكتابة بالأسلوب الأدبي الذي اعتدت الكتابة به، فأجابني: فليكن تجربة جديدة وخروجاً عن النمطية، وفوجئت به يشير إلى ذلك في مطلع مقدمته للكتاب «بلغة أنيقة وقلم يسيل منه حبر الأديب تبدأ الكاتبة اليمنية سعاد العلس مشروعها البحثي.. إلخ»، وكأنما كانت هذه العبارة بالنسبة له صكّاً يشرعن لي الكتابة بالتعبير غير المقيد بطبيعة الكتاب. الصعوبة الأخرى التي كانت تؤرقني هي منهج الكتابة، هل سيتقبل القارئ أن يكون المرجع ذاكرة شفوية قابلة للمحو السريع؟ فإذا به يجيبني بوصفة الحوارات التي تمّت مع المناضلات «بالعمل البانورامي»، ووصفه الكتاب بأنه «أول بحث شامل وجاد لتاريخ الحركة النسائية بفسيفسائها الاجتماعية وموزائيكتها الثقافية». وأسمى هذا التاريخ النسوي «بالتاريخ المهمل أو المسكوت عنه والنظر إليه كجزء مكمل في أكثر الأحيان». وهنا يبرز دور د.شعبان الحقوقي المدافع عن الحق الإنساني والمرأة في صدارته، حيث تزدحم كتاباته ولقاءاته بالحديث عن الدفاع عن حق المرأة وحمايتها من العنف والتهميش، كل هذا وجدته في سطور ما خطّه في المقدمة. ملمح آخر لم يغفله -وهو المعايش للتجربة الاشتراكية في جنوب اليمن- هو إشادته «بقانون الأسرة والأحوال الشخصية»، الذي صدر في شهر يناير 1974م، الهمّ الذي اشتغل عليه د.شعبان في معظم كتاباته ومطالباته بتحقيقه، وهو منح المساواة للمرأة عبر تكافؤ الفرص بين المرأة والرجل في جميع مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتحمّل أعباء الحياة، ونفذ د.شعبان إلى عمق قانون الأسرة وتفصيلاته وأشاد به باعتباره من القوانين المتقدمة عربياً، حيث كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية من أوائل الدول العربية التي وقّعت على الاتفاقية الدولية لإلغاء كافة أشكال التميّز ضد المرأة، وهي المعروفة باتفاقية سيداو 1979م. ولم يتوقف في تناوله لمزايا قانون الأسرة على النواحي الدستورية والقانونية، بل كشف أيضاً عن اتخاذه جوانب عملانية ومجتمعية من خلال المنظمات الشعبية والإدارية الحكومية. حقاً تغلغل في تناوله لقانون الأسرة بكونه الحلم الذي أضحى سراباً اليوم، لكن المتتبعَ للنشاط الكتابي والميداني الأكاديمي لـ د.شعبان سيجد أن للمرأة ازدحاماً في أطروحاته، وخصوصاً تلك التي تحمل صبغة حقوقية وقانونية ونضالية، نجده يغرز قلمه في موطن الخلل في القانون، مستعرضاً آثاره السلبية على البنية المجتمعية وعلى وضعية المرأة بدرجة أولى، ذلك الكائن المزدحم بالشقاء الإنساني والكينونة بلا معنى. لمست ذلك من خلال تحمّسه وتشجيعه لي لإكمال بحثي والكشف عن موقع النساء في الحركة الوطنية عبر كتاب يحفظ هذا الدور الوطني كمرجع مكتوب، عوضاً عن حفظه في ذاكرة قابلة للنسيان. كانت مقدمته للكتاب تحتوي على 10 صفحات، شملت كل نقطة تناولها بالطرح المستفيض، لم يترك شاردة ولا واردة إلا وتناولها بالفحص والتمحيص، وهو المعايش لفترة ما بعد الاستقلال، خلته لايزال هناك في عدن لم يبارحها، وما يزال يرعى الحلم العربي بسقيا حرفه المضيء. لم ينته دوره حدّ كتابة المقدمة، بل رافقني في يوم الإشهار 15 فبراير 2023م في حضور افتراضي عبر برنامج زووم من بريطانيا، شارك فيه بإلقاء كلمة كانت فاتحة الإشهار، وهذه دلالة على اهتمامه بسيرورة الكتاب والبيئة المحيطة بحرفه شخصياً، والكشف عن دور لعبته المرأة في النضال الميداني، مطالبة برحيل الاستعمار وتحقيق الاستقلال. وقد كان، صدقاً، عرساً ثقافياً، مازلت أختال بزهو نشوة نهايته حدّ اللحظة، وما ظننته اختيالاً بفرح النهايات، ما كان إلا بدء مشروع ثقافي في مساراتي القرائية بأبعاده المختلفة على المستوى الاجتماعي والسياسي والثقافي، حيث حرص د.شعبان، مشكوراً، على إحاطتي بمقالاته ولقاءاته التي عززت من توسيع قراءتي بموضوعات تهتم بانتشال المرأة من واقع متدنٍّ. وأكثر ما يلفت النظر في أطروحاته، ربطها بقوانين وتشريعات وقرارات دولية تسيّج النساء وتحميهن من الظلم والتعنيف والسبي كظاهرة جديدة جاءت على ظهر مستجدات ضاعفت من معاناة النساء، أفرد لها د.شعبان العديد من المقالات والمحاضرات، كلها لا تخلو من الأمل بيوم تتحرر فيه المرأة من كافة أشكال الظلم، بيد أن صناعة القرارات والتشريعات المدنية التي تكفل للمرأة حياة كريمة جلّها صناعات دولية، بينها وبين بلداننا النامية فجوة يصعب ملؤها في الوقت الراهن، حيث تشهد معظم البلاد العربية تدهوراً ملحوظاً لا يؤمل تحسنه. كنت قد قرأت في أحد مقالاته عن قانون الأحوال الشخصية في العراق (القانون 188 لعام 1959 في فترة حكم الرئيس عبدالكريم قاسم)، الذي ينصّ على منح المرأة كافة الفرص المتساوية مع الرجل، وأنصف المرأة في تناوله لقضايا الزواج والطلاق والحضانة والإرث وتحديد سن الزواج بـ18 سنة، وبهذا يكون القانون 188 متماشياً مع المادة الثانية في اتفاقية سيداو 1979م، كما أشار لذلك في مقاله الموسوم بـ»حقوق المرأة والخلاف في الجوهر». وتجري اليوم محاولات لإلغائه أو تسويفه (القانون 188)، حيث تتعالى أصوات المعارضين له، كما سقط قانون الأسرة اليمني بفعل التغيرات السياسية، وآلت بلداننا إلى وضع يؤسف عليه. لا أجد أفضل من اختتام كلمتي عنه خيراً من قوله في خاتمة المقدمة: «إن الهدف من عرض صورة الماضي ليس استعادة تلك الصور بقدر ما هو تجاوزها للحاضر تفكيراً بالمستقبل».
- مساهمة الأستاذة سعاد العلس في كتاب جمر الحروف الذي صدر عن دار سعاد الصباح تكريمًا لدكتور عبد الحسين شعبان في يوم الوفاء 2024.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة: دائرة النسيان ودائرة الضوء
-
المفكّر عبد الحسين شعبان.. نظرة شخصيّة
-
عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثق
...
-
مبادرة -أوجلان- تاريخية... والكرة الآن في ملعب الأتراك
-
الهوّية وأدب المنفى
-
شعبان.. من ثِمارِه تعرفونه
-
سناء شامي: في تقريظ كتاب -دين العقل وفقه الواقع-
-
أمسية البنفسج
-
فيض فكري في عصر القحط الثقافي
-
عبد الحسين شعبان ونظريته في تعظيم المشتركات
-
الاجتماع الديني وثقافاته في خطاب المفكر العربي الكبير الدكتو
...
-
ساعة توقّف الزمن
-
أصبوحة شعرية لسنا شعبان
-
باهرون... حقًا باهرون
-
السياسة في مواجهة العنف
-
الشعر والاغتـراب - خصوصية حالة السيّاب
-
قراءة في كتاب فقه التسامح
-
-سلعنته- التعليم أم -أنسنته-؟
-
السويداء وممر داوود
-
عبد الحسين شعبان.. المُتفرّد فكراً وسلوكاً
المزيد.....
-
تحسبًا لإعصار راغاسا.. شاهد كيف نفذت المنتجات من أرفف المتاج
...
-
عرض للألعاب النارية أشبه بـ-متفجرات- يثير جدلًا واسعًا في جب
...
-
-ضحك على اللحى-.. شاهد ردود فعل فلسطينيين على اعتراف دول بال
...
-
السعودية.. الديوان الملكي: وفاة مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز
...
-
كيف تحولت سياسة ماكرون إلى التحرك للاعتراف بدولة فلسطين؟
-
غوتيريش يقول إن الاعتراف بدولة فلسطين حق وليس مكافأة وسانشيز
...
-
-كارولينا هيريرا- تحوّل ساحة مدريد إلى منصة أزياء استثنائية
...
-
-مهم جدا-.. حمد بن جاسم يُعلق على اجتماع مرتقب بين ترامب وقا
...
-
شاهد.. رئيس وزراء فرنسا الأسبق يوجه رسالة لأمريكا وإسرائيل ب
...
-
مع استمرار تهديدات الحوثيين.. سفينة جديدة تتعرض للهجوم قبالة
...
المزيد.....
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
المزيد.....
|