أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثقل جبل















المزيد.....


عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثقل جبل


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 14:04
المحور: مقابلات و حوارات
    


داعية السلام والتسامح واللّاعنف -
عبد الحسين شعبان للمستقل:
أنا حزين وحزني لا يعادله ثقل جبل

• ‏أدعو إلى ويستفاليا مشرقية
• لا سلام دون عدالة
• لا تنمية دون سلام
• ‏في الغرب ثمة مثقفين وقفوا إلى جانب مرتكبين وجناة
• ‏السلام العربي - العربي ضرورة ملحّة وحاجة ماسة للحفاظ على الذات


أجرت الحوار الصحافية
الدكتورة سناء شامي
بيروت / فينيسيا

‏تمرّ في 21 أيلول سبتمبر الجاري الذكرى الرابعة والأربعين لليوم العالمي للسلام، حيث تشهد منطقتنا أحداثًا أليمةً، وتتعرّض غزة منذ نحو عامين إلى حرب إبادة بكل معنى الكلمة، وبهذه المناسبة التقينا المفكر والأكاديمي العربي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان المعروف بدعوته للسلام العالمي والسلام العربي وحقوق الإنسان، وسبق له وأن قام بمبادرات عربية ودولية عديدة ونشر كتبًا ودراسات ومقالات، وشارك في تأسيس منظمات مختلفة لمناصرة الحقوق العربية، وحاورناه حول فلسفة السلام وثقافته والتربية عليه وإدامته ومفهوم السلام لدى النخب السياسية والثقافية العربية، وما يحتاجه العالم العربي على هذا الصعيد في حياتنا اليومية.
‏وكان الدكتور شعبان قد انشغل بقضايا السلام منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، فقد عمل على إعادة تأسيس اللجنة الوطنية العراقية للسلم والتضامن التي ضمّت شخصيات عراقية من تيارات فكرية وسياسية متعدّدة، وكان منسقًا لأعمالها، كما ساهم مع عدد من الشخصيات العربية البارزة في تأسيس مجموعة السلام العربي منهم الرئيس علي ناصر محمد والوزير السابق سمير الحباشنة، وبدأنا حوارنا من هذه النقطة.


‏* متى تأسست مجموعة السلام العربي، وما هي أهدافها، وكيف تنظر إلى ما قدمته منذ تأسيسها إلى اليوم؟
** يمكن القول أن مرحلة التأسيس استغرقت فترة غير قصيرة، حيث بدأ النشاط الأولي بإصدار بيان حول السلام والمصالحة في اليمن وقعّه عدد من الشخصيات اليمنية والعربية وذلك في العام 2018، ثم توسّع الأمر ليغطي عددًا من القضايا الشائكة في بلدان عربية عديدة عانت من الاحترابات والنزاعات غير اليمن، مثل ليبيا ولبنان وسوريا والسودان الصومال وغيرها، بسبب تدخلات خارجية وصراعات داخلية، وبالطبع لن ننسى فلسطين فهي كانت وما تزال تعاني من احتلال وإجلاء واستيطان، بل من جريمة حرب إبادة مكتملة الأركان، إضافة إلى جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وانتهاكات سافرة لقواعد القانون الدولي.
‏عقدت المجموعة مؤتمريها الأول والثاني في مبنى جامعة الدول العربية بالقاهرة، وهي بمثابة رسالة تطمين إلى الدول العربية بأنها ليست محسوبة على محور من محاورها، الأول في أكتوبر/ تشرين الأول 2022، والثاني في نيسان / أبريل 2024. أما أهم أهدافها فهي نشر ثقافة السلام والقيام بمهمات وساطة نزيهة بين الأطراف العربية المتنازعة وعبر الحوار وصولّا إلى تسويات سلمية وتفاهمات سياسية.
‏وقد حصلت المجموعة على الترخيص القانوني الرسمي من الحكومة الأردنية، وهي تعمل اليوم كجمعية غير حكومية مستقلة وغير سياسية ولا تتوخى الربح وضمن قانون الجمعيات الأردني وفقًا لقرار مجلس الوزراء وذلك في 25 أيلول/ سبتمبر 2022، ومقرّها عمّان.
‏ما قدمته المجموعة خلال السنوات الستة المنصرمة ما يزال متواضعًا، وربما غير منظور، لكنها تسعى بالتراكم إلى تحقيق مصالحات وطنية داخل كل بلد عربي يعاني من نزاعات مسلحة وبين البلدان العربية التي تعيش نزاعات بينية حدودية وغير حدودية، ومشاكل وعقد قديمة، وبالطبع فإن جهودها يفترض أن تصبّ في جهود أخرى على هذا الصعيد لتأتي ثمارها.
وقد قامت المجموعة بمبادرة لرأب الصدع الفلسطيني بين فتح وحماس ورحّب بها الرئيس محمود عباس وقادة حماس كذلك، وعملت على إنضاج مشروع مصالحة يمني حظي بترحيب جميع الفرقاء، والأمر شمل ليبيا وسوريا كذلك، حيث تم الاتصال بالمعارضات والحكومات، كما التقى عدد من أعضاء المجلس التنفيذي في المجموعة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشيل عون وعدد من الشخصيات اللبنانية للغرض ذاته.
وشارك عدد من أعضاء المجموعة في لقاءات بالعراق في بغداد والنجف وأربيل، كما حضروا مؤتمرات وفعاليات فكرية وثقافية بهدف نشر ثقافة السلام والمصالحة والحوار وقبول الآخر، وكان لمقرها في الأردن دورًا مهمًا في إدارة العمل خلال الفترة المنصرمة.

*طيب دعوت كثيرًا إلى السلام، ولكن ما هو مفهومكم للسلام؟ وهل يمكن تحقيقه في ظل الصراعات الدولية والإقليمية والعربية - العربية اليوم، فضلًا عن النزاعات الأهلية؟
**السلام ركن أساس من أركان التنمية، فلا تنمية دون تقدم حقيقي ودون عدل، والعدل والسلام والمساواة والشراكة والمشاركة وبالطبع الحريّة هي عناصر أساسية لمواطنة متكافئة سليمة وحيوية.
‏السلام يعني تطويق بؤر التوتر والحروب ومنع نشوبها، وبعد حدوثها البحث عن حلول ومعالجات سلمية ودبلوماسية لإيجاد تسوية عادلة لها، وقد نصّ ميثاق الأمم المتحدة على أنه حفظ السلام والأمن الدوليين هو أحد مقاصد الأمم المتحدة.
‏كما يتطلب السلام نشر ثقافته والسعي لإدامته عبر أعمال وقائية أي استباقية قبل نشوب الحرب، ثم وقف الحرب وتحقيق السلام عند وقوعها، وبالتالي القيام بأعمال علاجية بعد وقف الحرب والعمل على صيانة السلام وتوطيده ومعالجة آثارها.
أعرف أن الدعوة إلى اللّاعنف والتسامح تكاد تكون مثالية، لكن بديل السلام واللّاعنف والحلول الوسط هو العنف واللّاتسامح واستمرار النزاع والتعصّب والتطرّف ووليدهما العنف والإرهاب، سواء على صعيد كلّ دولة أو على الصعيد الدولي.
‏يترك العنف آثارًا مدمّرة على من يتعرّض له، فضلًا عن أنه يؤدّي إلى تشويه إنسانية من يمارسه، لذلك فإن الدعوة إلى السلام هي استجابة لأنسنة الإنسان بإبعاده عن كل أشكال القهر المادية والمعنوية، خصوصًا الحروب والنزاعات المسلحة واستخدامات العنف غير المشروعة، التي تترك ندوبًا لدى المجتمعات والأفراد لا يمكن محوها بسهولة، وقد تستمر أجيالًا في الذاكرة الجمعية.
من يصنع الحروب هي القوى المتسيّدة والمتنفّذة في العلاقات الدولية، ولذلك فإن الدعوة إلى السلام العالمي هدفها إقامة نظام عالمي أكثر عدلًا من النظام القائم على هيمنة الدول المتنفّذة التي تسعى إلى تحقيق مصالحها الأنانية الضيقة.
أعرف صعوبة تحقيق نظام عادل للعلاقات الدولية، ومثل هذه الدعوة تحتاج إلى تغييرات في موازين القوى، فقد انتقل النظام الدولي من القطبين العملاقين الذي ساد خلال فترة الحرب الباردة (1946 – 1989)، إلى نظام أحادي القطبية بعد انهيار الكتلة الاشتراكية في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حيث تغيّر شكل الصراع الأيديولوجي الدولي، واخترعت الولايات المتحدة الإسلامفوبيا (الرهاب من الإسلام) بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية الاجرامية في العام 2001، علمًا بأنها كانت وراء إنشاء تنظيمات إرهابية مثل القاعدة وغيرها إثر الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979 وما بعده.
ثمة تغييرات ومستجدات في موازين القوى الدولية، فبعد نهوض التنين الصيني ومعافاة الدب الروسي يمكن أن يتحول النظام الدولي إلى نظام متعدّد الأقطاب لا تنفرد به قوة واحدة، وأحد مؤشرات ذلك إقامة تحالف اقتصادي يُعرف بدول البريكس يضم الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وقد استقطب عددًا آخر من البلدان.

*اليوم ترى الغرب يصنع الحروب من أجل الوصول إلى السلام، ما تعليقك على هذه الثنائية المتناقضة؟
**تقصدين قول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قال ما مفاده نصنع الحرب من أجل فرض السلام، ولذلك أقدم على تغيير اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب غير مكترث بالدعوات التي تطالب بتحقيق السلام ومنع قيام حروب جديدة ووقف حرب الإبادة على غزة، وزعم الرئيس الأمريكي أن تغيير اسم الوزارة هو لتحقيق النصر والقوة، ولعل لمثل هذه الأطروحات تداعيات جديدة على نظام العلاقات الدولية.
وبالمناسبة فإن هذه التصريحات جاءت بعد مؤتمر شانغهاي الذي يذكّرنا بمؤتمر باندونغ وإن كان الفارق بينهما 70 عامًا، فقد كان مؤتمر باندونغ 1955 إعلانًا عن نشوء حركة عدم الانحياز شارك فيه الرؤساء نهرو وجمال عبد الناصر وشوانلاي وسوكارنو، ومن جملة قراراته الدعوة إلى السلام وحق تقرير المصير والتحرّر من ربقة الكولونيالية واحترام السيادة وغيرها من المبادئ.
أما مؤتمر شانغهاي فهو تحالف واسع ضمّ إضافة إلى الصين روسيا والهند وعدد من الدول الإسلامية مثل تركيا وإيران وباكستان وإندونيسيا، وللأسف لم تحضره أية دولة عربية، فهو يمكن أن يشكّل قوة اقتصادية وسياسية كابحة لمطامع واشنطن ومطامحها غير المشروعة هي وحليفاتها، ويمثل مؤتمر شانغهاي ضدًّا نوعيًا للمعسكر الآخر، وبشكل خاص لحلف الناتو المدعوم أمريكيًا.

*خلال لقاءاتي بك في بغداد وفينيسيا وبرلين وبيروت كنت دائمًا رافضًا للسياسات الاستعلائية الغربية مثل رفضك للدكتاتوريات والأنظمة المستبدّة، هل يمكن للغرب أن يتخلّى عن الحرب والعنف، وهما أداتان تأسيسيتان لفكره السياسي؟
**ما زال موقفي كما تعرفين ضد الحروب وضد العنف بجميع أشكاله وصوره ومبرراته باستثناء الدفاع عن النفس، والذي ما أن ينتهي الفعل لا بدّ لردّ الفعل أن يتوقف، وأزعم أن الدعوة للسلام تنبع من اعتبار إنساني، وكمثقف وأحترم ثقافتي فإن جوهر الثقافة هو السلام ونبذ الحروب، وهذه مسألة إنسانية قبل كل اعتبار، وحسب دستور اليونيسكو: إذا كانت الحروب تقام في العقول فينبغي تشييد حصون السلام في العقول أيضًا.
من هذا المنطلق ينبغي نشر ثقافة السلام، والسلام فلسفة حياة تقوم على التفاهم والتآخي والتعاون بين البشر دون تمييز بسبب الدين أو العرق أو اللغة أو الجنس أو اللون أو الأصل الاجتماعي، وهو مبدأ أخلاقي وإنساني أيضًا، لذلك ينبغي اعتماده في المناهج التربوية والتعليمية بل العمل على التثقيف به لأهميته، وفي حل النزاعات المحلية والدولية، واعتبار الوساطة أحد أشكال الوصول إليه والحوار هو السبيل المناسب لتحقيقه، ولذلك لابدّ من إطفاء بؤر الحروب والتوترات ونزع الفتيل منها وتحقيق المصالحات واحترام الحق في الاختلاف والتنوع والتعدّدية، وتلك سمات بشرية لا تنبجس الحقيقة دونها.
وإذا كانت القاعدة في التاريخ البشري هي الحروب لذلك ينبغي العمل لتحويل الاستثناء ليصبح قاعدة، وأعني به تحقيق السلام، وأظن أن ذلك ينبغي أن يكون مشروع أي مثقف تنويري، خصوصًا دعوته للسلام القائم على العدالة.
ففي العام 1981 أعلنت الأمم المتحدة يومًا عالميًا مكرّسًا لتعزيز مثل السلام وقيمه لنشرها في العالم بين الأمم والشعوب وفيما بينها، وفي العام 2001 اتّخذت قرارًا يجعل من هذا اليوم مناسبة لوقف العنف وإسكات البنادق.

*ولكن هل توقف العنف وهل أسكتت البنادق؟
**للأسف إن مناسيب العنف ارتفعت وازدادت لعلعة الرصاص، خصوصًا في ظلّ تفرّد الولايات المتحدة بالقرار الدولي وإخضاعها الأمم المتحدة لسياستها مستغلّةً أحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 لتقوم بغزو أفغانستان في العام ذاته واحتلال العراق في العام 2003 بحجج واهية، أثبت الواقع زيفها وبطلانها، يضاف إلى ذلك تصاعد درجة عدوانية إسرائيل وتغوّلها على المجتمع الدولي، فشنّت أربع حروب على غزّة خلال الأعوام 2008 و2012 و2014 و2021 بعد أن عرّضتها للحصار الجائر منذ العام 2007.

‏*في ظل تشرذم الواقع العربي، كيف يمكن صناعة سلام عربي؟
**لأن الواقع متشرذم فلابدّ أن نسعى جميعًا، وكلّ من موقعه لتحقيق السلام، ويتطلّب الأمر اعترافًا بالآخر وحقه، وبالتالي اعتماد الحوار وسيلة مجربّة للتفاهم والتسويات والحلول الوسط التي تكون مرضية للجميع وعلى أساس المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، علمًا بأن ما يجمع الأمة العربية الكثير، مثل اللغة والأديان وبخاصة الدين الإسلامي والثقافة والتاريخ المشترك والكثير من العادات والتقاليد، ولابد هنا من تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها.
والامر لا يخصّ علاقة العرب مع بعضهم، بل مع جيرانهم أيضًا، وكنت قد دعوت إلى ويستفاليا عربية ووسّعتها لتشمل ويستفاليا مشرقية، بالتفاهم بين العرب والكرد والفرس والترك على أساس حق تقرير المصير والمشتركات الإنسانية، وتعرفين أننا نظّمنا أكثر من فاعلية وملتقى منذ عقود من الزمن على هذا الصعيد، وقد بلور سمو الأمير الحسن بن طلال الفكرة، فدعا إلى حوار "أعمدة الأمة الأربعة" بما تمثّل هذه العلاقة من استراتيجية تكاملية يمكن أن يكون دورها مؤثرًا على الصعيد العالمي بما تملكه من ثروات طبيعية وكفاءات وطاقات وعقول وبحار وأنهار وزراعة، فضلّا عن حضارات وتاريخ هي الأقدم في العالم.

‏*الغرب يعمل على خلق تفرقة بيننا كعرب ومع جيراننا، فهل نستطيع تجنّب تربصاته؟
**الغرب ليس كلي الجبروت والقدرة، ولكن ضعفنا واحترابنا وتشبثنا بالمصالح الأنانية الضيقة ومحاولات بعض القوى الإقليمية التسيّد على بعضنا، كل ذلك جعل الغرب يغذّي فينا روح الانقسام والطائفية والعنصرية واستغلال عدم تلبية الحقوق القومية للمجموعات الثقافية لكي يتسلل إلى داخلنا، وبالتالي يقوم بإخضاعنا وتطويعنا لقبول مشاريعه التفتيتية والتقسيمية، وخصوصًا الانفراد بكل دولة أو مجموعة لوحدها.
للغرب مصالح يريد تأمينها على حساب شعوب المنطقة وما وصل إليه الغرب من تقدّم ورفاه ليس فقط بفضل عبقريته، بل بفعل نهبه لثرواتنا لإعمار بلاده، وهو اليوم يريد استمرار مثل هذه مثل هذا الدور على حسابنا، ولكن ذلك لا يعني أن الغرب كلّه عنصرية وشوفينية واستعلاء ومحاولات للتسيد والهيمنة، ففي الغرب خير ما انجبت البشرية من علوم وتكنولوجيا وعمران وفنون وآداب وجمال وتقدّم، كما في الغرب كذلك قوى حيّة وقفت وتقف اليوم إلى جانب العدالة والحق وإلى جانب غزة وفلسطين ضد عمليات الإبادة الإسرائيلية.
ويوجد في الغرب أيضا مثقفون حقيقيون واجهوا حكوماتهم واتهموها بالتواطؤ مع المعتدي وطالبوها بمقاطعته واتخاذ عقوبات ضدّه، لكن للأسف ثمة مثقفين آخرين كنا نعوّل عليهم خذلونا مثل هابرماز المثقف الماركسي البارز الذي يظل يمطرنا بسيل من النظريات حول العدالة والحقوق الإنسانية، وإذا به بلحظة تاريخية مفصلية يفصح عن عنصرية سافرة حيث ظهرت مركزيّته الغربية حين وقف إلى جانب الجناة والمرتكبين ضدّ الضحايا والمظلومين.
لعل هذا الموقف يذكّرنا بموقف جان بول سارتر بعد عدوان 5 حزيران/ يونيو 1967، حين وقف إلى جانب إسرائيل المعتدية ضدّ العرب، وهذه المواقف تفضح ازدواجية المعايير وانتقائيتها، ففي حين يزعمون دفاعهم عن الحريّات والحقوق، فإنهم يفاجئون العالم بمواقفهم اللّاإنسانية حين يقفون مع العدوان والحرب والعنصرية، لاسيّما عندما يتعلّق الأمر بالعرب والمسلمين.
نحن نحتاج إلى سلام عربي - عربي وتفاهمات واتفاقات وإن بحدها الأدنى لكي نتّخذ موقفًا موحدًا على الصعيد العالمي، ولدينا الكثير من الأسلحة التي يمكننا استعمالها، ولكن ذلك يتطلّب منا إرادة صلبة وبرنامج واقعي وتحالفات دولية وإقليمية واستعداد لاستخدام ما لدينا من مصادر ديبلوماسية كثيرة مثل دبلوماسية الطاقة والدبلوماسية الدينية والدبلوماسية الثقافية وبعض عناصر دبلوماسية القوة الناعمة وغيرها، ولكن أولًا وقبل كل شيء نحتاج إلى وضوح في الرؤية والعمل على تحقيقه بخطوات ثابتة، وأخذ ما هو ممكن بنظر الاعتبار دون مزاودات وشعارات رنانة.

*لماذا لم تنجح جامعة الدول العربية طوال عمرها من تحقيق مصالحات وسلام بين البلدان العربية؟
**جامعة الدول العربية هي منتدى للبلدان العربية، وهي تعكس حالة هذه البلدان وعلاقتها مع بعضها، وهي بمثابة سكرتارية لتنظيم علاقات البلدان مع بعضها بما فيها من مشكلات وتحديات وعقبات ومنافسات، ولو أُصلح الوضع في كل بلد عربي ورمّمت العلاقات بين البلدان العربية، لتم إصلاح جامعة الدول العربية وأجهزتها المختلفة.
ومن باب الموضوعية يمكنني القول: ربما هناك صوت خافت للنجاح المتواضع جدًا في مجالات اجتماعية واقتصادية وثقافية وصحية وفنية وإعلامية وغيرها، قامت بها الجامعة لكنها سياسيًا لم تستطع أن تحقق النجاح الذي يتطلب توافق إرادة الأعضاء، وهؤلاء بحاجة إلى نجاحات في بلدانهم وإلى توافقات بين الحكومات، كما يحتاج ميثاقها الذي مضى عليه 8 عقود من الزمن إلى تعديلات جوهرية تتناسب مع التطوّر الحاصل في مجال المنظمات الدولية والإقليمية.
أستطيع القول أن الجامعة قامت بدور إعلامي على الصعيد الخارجي يمكن ذكره، وهي بحاجة إلى طائفة من الإجراءات تبدأ أولها بإصلاح العلاقات البينية بين البلدان العربية وحل مشكلاتها سلميًا وبالحوار، وبالتالي تهيئة أجواء جديدة للانتقال إلى مرحلة جديدة من عملها تتجاوز مرحلة المراوحة والروتينية والجمود.

*كيف يمكن التحدث عن السلام وفلسطين مسلوبة وغزة مصلوبة والعرب لا دور لهم؟
**لأجل ذلك نحتاج إلى السلام العربي - العربي لتوحيد مواقف البلدان العربية والتقدم بخطة موحدة للعالم بشأن فلسطين، وكان العرب قد اتفقوا في مؤتمر قمة بيروت 2002 على حل، وإن كان بالحد الأدنى، مفاده "الأرض مقابل السلام"، أي العودة إلى حدود 4 حزيران/ يونيو العام 1967، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وإعادة اللاجئين.
لكن مثل هذا المشروع لم تتم متابعته والضغط لتحقيقه والحوار مع القوى المتنفّذة في العلاقات الدولية لإقناع أو إجبار إسرائيل على قبوله وإنهاء بؤرة من أخطر بؤر التوتر في العالم، وهي بؤرة مستمرة منذ عشرات السنين، وكانت إسرائيل قد ازدرت مثل هذا الحل، بل أنها لم تكلّف نفسها أن ترد عليه أو تعطي رأيها فيه، ولم تتورّع بعد أربع سنوات حتى قامت بعدواها ضد لبنان العام 2006، وزادت المشكلة تعقيدًا، وظل حل الدولتين على الرف، يجري تذكّره كلما حصلت أزمة أو اشتعلت جبهة من الجبهات، ولكن بعد أن تبرد يتم إعادته إلى الدرج ليعلوه الغبار.

*أريد أن أسألك وأنت تعرف الغرب جيدًا، لماذا الشعوب الغربية تواجه حكومتها من أجل غزة وفلسطين في حين أن شعوبنا تكتفي بالمواجهة على صفحات التواصل الاجتماعي؟
**أظن أن السبب معروف ففي الغرب توجد حريّات وإن جرى التضييق على بعض فعاليات التضامن مع غزة وضد عدوان إسرائيل، فضلًا عن التراجعات التي شهدتها الحقوق المدنية والسياسية إثر صعود التيارات الشعبوية والعنصرية الكارهة للأجانب بشكل عام وللعرب والمسلمين بشكل خاص.
أما الشعوب العربية فإنها تعاني من شحّ في الحريات، بل من أنظمة قامعة أحيانًا، حتى أن بعض الحكومات آثرت "السلامة"، فاعتبرت أن حركة الاحتجاج ضدّ إسرائيل ستعرّضها إلى ما لا يحمد عقباه، وهي لا تريد الاشتباك مع إسرائيل بأي شكل كان. ولا أدري كيف يمكن أن نصنّف مثل تلك السياسات والمواقف، وإلّا كيف يمكن منع مواطن عربي من الاحتجاج بشكل مشروع وفي إطار القانون على جرائم إسرائيل؟ علمًا بأن الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية أدانت تلك الجرائم.
لا أقول ذلك من باب التعميم، فهذا الأخير هو الصخرة التي يتّكئ عليها المتعبون، بل ثمة استثناءات لبعض المواقف، ومثل هذا الاستثناء يشمل الغرب أيضًا، فالعديد من المواقف الرسمية الغربية أدانت العدوان وقرّرت الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وأختتم بالقول إن الحكومات العربية تحتاج إلى الثقة بشعوبها وقدراتها وبالتالي السماح لها القيام بأعمال احتجاج مشروعة في إطار القانون، بحيث تؤمن لها حريّة التعبير، وهذا أضعف الإيمان كما يقال.
ولكي نكون واقعيين، فأنا لا أقصد أن على الدول العربية أن تدخل حربًا مع إسرائيل تضامنًا مع غزة، فهذه أكبر من قدراتها واستعداداتها، ولكن بإمكانها وقف التطبيع وسحب السفراء وتعليق الاتفاقيات بما فيها الاقتصادية مع إسرائيل، وعدم ملاحقة بعض النشطاء الذين يحاولون عبر وسائل التواصل الاجتماعي التعبير عن إدانتهم للعدوان.

*دكتور شعبان أعرفك منذ سنوات كنت متفائلًا إزاء مستقبل الأمة العربية، لكنني اليوم أراك حزينًا وألحظ أن هذا الحزن يفوق التفاؤل السابق الذي لديك، ما تعليقك؟
**لم أكن متفائلًا من أكثر من خمسة عقود من الزمن، بل أن تشاؤمي أخذ يزداد وترتفع حساسيتي إزاء ما يحصل لدينا وما حولنا، ولا أخفيك سرًا فأنا الآن أكثر تشاؤمًا من السابق، لكنني لست يائسًا، بل إن إصراري على المقاومة هو الذي يمنحني هذا القدر من المواجهة، وأعرف أن عنصر التكافؤ فيها يكاد يكون معدومًا، ولكن ما الذي على المثقف وصاحب المشروع أن يفعله، غير أن يقول لا وبصوت مسموع، حتى لو كان لوحده فإنه يرى نفسه مجموعًا لأنه يقف مع العدل ومع الحق ومع الضمير ومع الفقراء ومع فلسطين.
نعم أنا حزين جدًا، والحزن سمة إنسانية فماذا تريدين مني بعد هذا الدمار والقتل والتجويع وقطع الماء والدواء والكهرباء والترحيل والقهر في غزة وعموم فلسطين وما يجري في العالم العربي، هل عليّ أن أفرح؟ نعم أنا حزين، وحزني لا يعادله ثقل جبل. وكما يقول الشاعر الكبير الجواهري:

أنا عِندي مِن الأَسى جَبَلُ ... يَتمشَّى مَعي ويَنْتَقِلُ
أنا عِندي وإنْ خَبا أمَلُ ... جَذوةٌ في الفُؤادِ تَشتَعِلُ


‏*هل مازلت بعد هذه الخاتمة بذات الرؤية التي افتتحت فيها هذه المقابلة، وكيف تنظر لثمرات نضالك طيلة ما يزيد عن ستة عقود من الزمن، هل ذهبت هباءً منثورا في ظل تغوّل إسرائيل وفساد الأنظمة وانتشار التعصّب وتفشّي الطائفية وأين نحن من شعارات الأمس؟
** بعد دراسة وتمحيص وقراءة ارتجاعية لتجربة جيلنا يمكنني أن أقول: لقد فشلنا وعلينا الاعتراف بذلك، كما علينا أن نتحلّى بالشجاعة وعدم المكابرة بادعاء الأفضليات والزعم بامتلاك الحقيقة، وغير ذلك من الترّهات التي تزعم "صحة سياساتنا" و"صواب نهجنا" كما تبرّر وتكرّر الحركات السياسية مثل تلك المقولات.
فالنخب الفكرية والثقافية والسياسية القومية والشيوعية والإسلامية تعاني من نكوص وتراجع وانحدار، وهي اليوم أمام امتحانات كبرى إن لم تراجع مواقفها وتشخّص عيوبها ومثالبها وتقدّم نقدًا ذاتيًا مسؤولًا واعتذارًا للناس أولًا، تعترف فيه بإخفاقها وتفاقم أزمتها، وتبحث جديًا عن سبل حلّها وتسعى حثيثًا لتجديد فكرها وخطابها وأساليب عملها وعلاقاتها ثانيًا، فلم يعد صالحًا ما كان في الخمسينيات والستينيات صالحًا اليوم في ظلّ الطور الرابع من الثورة الصناعية واقتصاد المعرفة والذكاء الاصطناعي.
وعلى افتراض حسن النية ودون الإفتئات على أحد، فهذه النخب لم تتمكن من الوفاء بوعودها السخية والكثيرة التي قدمتها على مدى سنين، بل أن بعض هذه الوعود أصبح مغمّسًا بالدم وتفوح منه رائحة الفساد التي تزكّم الأنوف.
وأقول مثل ما قال الإمام علي "لعلّ رأيًا واحدًا شجاعًا أغلبية" فليكن كل واحد منا أغلبية حينها سيقهر الطغاة والغزاة والغلاة، والأولون جاءوا بمن بعدهم وهكذا.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبادرة -أوجلان- تاريخية... والكرة الآن في ملعب الأتراك
- الهوّية وأدب المنفى
- شعبان.. من ثِمارِه تعرفونه
- سناء شامي: في تقريظ كتاب -دين العقل وفقه الواقع-
- أمسية البنفسج
- فيض فكري في عصر القحط الثقافي
- عبد الحسين شعبان ونظريته في تعظيم المشتركات
- الاجتماع الديني وثقافاته في خطاب المفكر العربي الكبير الدكتو ...
- ساعة توقّف الزمن
- أصبوحة شعرية لسنا شعبان
- باهرون... حقًا باهرون
- السياسة في مواجهة العنف
- الشعر والاغتـراب - خصوصية حالة السيّاب
- قراءة في كتاب فقه التسامح
- -سلعنته- التعليم أم -أنسنته-؟
- السويداء وممر داوود
- عبد الحسين شعبان.. المُتفرّد فكراً وسلوكاً
- غزّة و-الثمرة المرّة-
- الرابطة العربية للقانون الدولي إدانة العدوان الإسرائيلي - ال ...
- عبد الحسين شعبان.. اسم مُشرِّف في سورية


المزيد.....




- حادث غير متوقع.. شاهد حفرة عميقة تبتلع شاحنة مشروبات فجأة با ...
- خطأ خطير في إعدادات واتساب: تجنبوا هذا الخطر!
- -استفزاز روسي جديد-.. رومانيا تعلن اختراق طائرة مسيّرة لأجوا ...
- هل تغير الضربة الإسرائيلية على الدوحة معايير -الحماية- الأمر ...
- أسطول المساعدات الدولية لغزة ينطلق من تونس متجها للقطاع لـ-ك ...
- الكونغو تبدأ حملة تطعيم لإيبولا
- ?توقف القلب المفاجئ.. أسبابه وأعراضه
- ?فحوص مهمة لاكتشاف أمراض القلب مبكرا
- غارات دامية ونسف مستمر للمباني بمدينة غزة
- عاصفة سياسية تضرب برلمان الكونغو الديمقراطية في أولى جلساته ...


المزيد.....

- تساؤلات فلسفية حول عام 2024 / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثقل جبل