|
لا نقول وداعًا إنما نقول اشتياقًا - محمد بن عيسى: للحياة معنى
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8485 - 2025 / 10 / 4 - 12:20
المحور:
قضايا ثقافية
تناولت شهادات باذخة سيرة ومسيرة محمد بن عيسى ومناقبه الشخصية ورسالته الحياتية وإبداعاته وابتكاراته في المجال الدبلوماسي والإداري والثقافي والاجتماعي، ومن بينها تقديم أصيلة إلى العالم، وجلب العالم إليها، وأصيلة هذه القرية المنسية الوديعة الغافية على المحيط الأطلسي تحوّلت إلى محجّ يتطلّع إليه المثقفون في كلّ مكان ليديروا فيه حوارات ولقاءات، ويستأنسون بآراء بعضهم البعض ويتبادلون وجهات النظر ويقلّبون مشاكلهم ومشاكل العالم في أجواء راقية من الجدل والاختلاف والبحث عن الحقيقة والمشترك الإنساني. تعرّفتُ على محمد بن عيسى في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي مع نخبة لامعة وكوكبة متميّزة من الشخصيات الفاعلة والمؤثرة في المغرب، وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر عبد الرحمن اليوسفي وإدريس بن زكري ومحمد أوجار وعبد العزيز البنّاني في أجواء مبشّرة بالانفتاح والتداولية في السلطة والتناوبية في الإدارة التي شهدها المغرب بتوافق الإرادة الملكية مع الفاعليات السياسية والمدنية، وكان بن عيسى بما يمثّله من ثقل يُعتبر نموذجًا للوسطية والاعتدال والواقعيّة السياسية، حيث كان مشروعه يقوم على التطوّر التدرّجي بالاعتماد على الثقافة باعتبارها المدماك الأساس لأي تطوّر، مُفردًا للتعليم والمعرفة مكانًا متميّزًا؛ وكان قد أسس منتدى أصيلة في العام 1978، الذي يُعتبر من أقدم المشاريع الثقافية العربية المعمّرة، كإطار جامع للقاء والحوار، إضافة إلى الجوانب الفنيّة والأدبية والأنشطة المتنوّعة في هذا المجال، لذلك فإن غيابه هو خسارة فادحة لجميع من عرفوه، وأردّد هنا مع الشريف الرضي: ما أخطأتك النائبات / إذا أصابت من تُحبُّ أما الجواهري الكبير فيقول: يظلُّ المرءُ مهما أخطأته / يدُ الأيام طوعَ يد المُصيبُ وكما ورد في القرآن الكريم: "كل نفس ذائقة الموت" (آل عمران، 185) "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" (الرحمن، 27).
حكمت الزمن الخرساء الولادة والموت تجربتان في الوحدة كما يقول الشاعر أوكتافيو باث الحائز على جائزة نوبل. شيئان مطلقان في الحياة، وهما الموت والتغيير، وهما لا مردّ لهما، وعداهما كل شيء نسبي. حوّل محمد بن عيسى، وهو المثقف الاستثنائي، الاستثناء إلى قاعدة.. فكان هو الفرد وهو المجموع في الآن، حيث اجتمعت في شخصه رمزيات كثيرة من فضاء المكان (أصيلة) إلى فضاء الذاكرة وفضاء الدبلوماسية وفضاء الثقافة والسياسة والإدارة، وقد حاول أن يكون جسرًا بين المغرب العربي ومشرقه، وبين أمريكا اللاتينية وأفريقيا والعالم العربي، والخليج وأوروبا، فقد عاش في ثلاث قارات وخبر لغات وأقوامًا وشعوبًا وعادات وتقاليدًا وحضارات وثقافات وأديانًا وقوميات. كان محمد بن عيسى يمثّل مدرسة حقيقية في الدبلوماسية والثقافة والإدارة والفنون والآداب والعلاقات والسلوك، وقد جمع في شخصه الثقافات السمعية والمكتوبة والبصرية، وحاول تجسير الفجوة بين أصحاب القرار والمثقفين، والثقافة معرفة وبالتالي الثقافة سلطة حسب فرانسيس بايكون، أمّا الصداقة عنده فلها قيمة، والصديق هو أنت ولكنه بجسم آخر وفقًا لأفلاطون، لذلك أعتقد كل شخص من أصدقائه أنه الصديق الأقرب إليه. قد يكون له خصوم كثيرون لكنه لم يكن له عدو واحد كما أعتقد. كان محمد بن عيسى عاطفيًا إلى أبعد حدّ، والعاطفة قوة وليست ضعفًا كما يُعتقد لأنها دليل على القلب الرقيق. وهو نصير حقيقي للمرأة وحقوقها، ويتعامل معها كرجل جنتلمان، كما انشغل بشؤون الشباب لأنهم يمثّلون مستقبل الأمة. لم يكتفِ بن عيسى بالثقافة النظرية، بل اشتغل على البراكسيس (الممارسة)، وقرأ التطورات، واستنبط أحكامه منها وتلك دروسه في إطار المجتمع المدني الذي أراد تحويله من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح. توفّر لبن عيسى جميع أسباب النجاح لمشروعه، من الرؤية والإرادة إلى العلم والمعرفة، وأختار الوسائل المناسبة لتحقيقه، محاولًا إعلاء شأن المثقفين، كما كان يقول، وحاول توظيف المال لصالح الثقافة وليس توظيف الثقافة لصالح المال، وأخضع السياسة للثقافة والأولوية للأخيرة، كما كان يُدرك قيمة القوى الناعمة وحاول توظيفها قدر الإمكان في مشروعه الثقافي الحضاري من خلال علاقاته وشخصيته الكارزمية. ونظر إلى الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي ودورها التأسيسي في عملية التنمية، وأدرك أن لا تنمية دون ثقافة، مثلما لا تنمية دون سلام، وهذا الأخير يفترض حد أدنى من العدالة، ولاسيّما الاجتماعية. وقد يكون هناك مثقفون، لكنهم لا يمتلكون مؤهلات القيادة والإدارة. هو المثقف الكوني العابر للانحيازات الضيقة منطلقًا من أفق إنساني غير محدّد، متجهًا إلى أفق إنساني مفتوح، وتأتي مبادراته من ضفة إنسانية إلى ضفة إنسانية، مؤمنًا بقيم الحريّة والسلام والمساواة والعدالة والتسامح، بغض النظر عن الجنس أو الدين أو القومية أو اللغة أو اللون أو الأصل الاجتماعي، وتلك هي أسس المواطنة في الدولة العصرية.
سلطة الجمال كان محمد بن عيسى شجاعًا مثلما هو كريم، وكل شجاع كريم وبالعكس. والجبان لا يمكن أن يكون كريمًا، والبخيل لا يمكن أن يكون شجاعًا. لقد مثّل بن عيسى قوة النموذج لأنه امتلك سلطة الجمال، ومن يمتلك سلطة الجمال تبقى روحه نظيفة، فهو لم يعرف الحقد والكراهية على المستوى الشخصي، وسعى لتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها على أساس المشترك الإنساني، وامتلك شفافية عالية لدرجة أن كل من عرفه يعتقد أنه يعرفه بالكامل لكنه كان يعرف جانبًا منه.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نموذج المفكر الراقي.. نموذج الفكر النشط
-
داوننغ ستريت ووعد بلفور
-
الإنسان والمفكر
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة: دائرة النسيان ودائرة الضوء
-
المفكّر عبد الحسين شعبان.. نظرة شخصيّة
-
عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثق
...
-
مبادرة -أوجلان- تاريخية... والكرة الآن في ملعب الأتراك
-
الهوّية وأدب المنفى
-
شعبان.. من ثِمارِه تعرفونه
-
سناء شامي: في تقريظ كتاب -دين العقل وفقه الواقع-
-
أمسية البنفسج
-
فيض فكري في عصر القحط الثقافي
-
عبد الحسين شعبان ونظريته في تعظيم المشتركات
-
الاجتماع الديني وثقافاته في خطاب المفكر العربي الكبير الدكتو
...
-
ساعة توقّف الزمن
-
أصبوحة شعرية لسنا شعبان
-
باهرون... حقًا باهرون
-
السياسة في مواجهة العنف
-
الشعر والاغتـراب - خصوصية حالة السيّاب
-
قراءة في كتاب فقه التسامح
المزيد.....
-
شاهد اشتباكات عنيفة بين رجال الأمن والمحتجين في مكسيكو سيتي
...
-
رجل يعثر على كلبه بعد 10 سنوات من اختفائه.. شاهد كيف
-
حرب غزة في يومها الـ729.. إسرائيل تواصل قصف القطاع رغم دعوة
...
-
هونغ كونغ تعتمد المراقبة الذكية.. 60 ألف كاميرا للتعرف على ا
...
-
على بُعد أمتار من الكابيتول.. عودة التمثال الساخر لترامب وإب
...
-
سعيد الملا: نجم من أصل لبناني يسطع في سماء البوندسليغا
-
مدغشقر: تواصل المظاهرات المطالبة بتنحي رئيس البلاد
-
مطار ميونخ يعود للعمل تدريجيا في أعقاب رصد مسيرات
-
تصويت مجلس الشيوخ الأمريكي يفشل في إنهاء الشلل الحكومي
-
تحذير واضح لإسرائيل من مصر وتركيا
المزيد.....
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
المزيد.....
|