أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - حين يتوهّج الطينُ نبوءةً في قصيدة -الهلال الخصيب- للشاعر مصطفى علي














المزيد.....

حين يتوهّج الطينُ نبوءةً في قصيدة -الهلال الخصيب- للشاعر مصطفى علي


سعاد الراعي
كاتبة وناقدة

(Suad Alraee)


الحوار المتمدن-العدد: 8512 - 2025 / 10 / 31 - 21:43
المحور: الادب والفن
    


لا تُعدّ هذه القصيدة مجرّد استعراض لغوي أو تقنية شعرية صرفاً، بل هي تجربة شعرية مركّبة، تبحر في عوالم الرؤيا، وتغرف من ينابيع الصوفية، وتنطلق من نبع الدين، ثمّ تشدّ نحو الفكر، ثم نحو المجتمع، ثم نحو الذات.
نصٌّ بهذه الكثافة الميتافيزيقية، وهذا التوقد الشعري الذي يتخذ من الهلال الخصيب رمزًا كونيًّا وتاريخيًّا في آن، لا يُقرأ كما تُقرأ القصائد، بل يُؤوَّل كما تُؤوَّل الرؤى. إنه نصٌّ يتداخل فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالعرفان، والنبوءة بالحسرة، حتى يغدو الشعر فيه لسانًا للوجدان الجمعي الذي يعاني تمزّق الجغرافيا وانكسار الوعي، لا صوت شاعرٍ فردٍ فحسب.
منذ الاستهلال:
"وَلَمّا رأى في الجنّتينِ حرائقَا ... ورُؤيا بها النيرانُ شَبّتْ حقائقَا"
يُعلن الشاعر انفتاح رؤياه على مشهد الخراب، على الجنتين اللتين لم تعودا جنتين بل رمزين للخصب المحترق، بلاد الرافدين وبلاد الشام، وقد أضحت النار فيهما "حقيقة" بعد أن كانت مجرّد نذرٍ في الرؤى. هنا، يستحضر الشاعر صورة النبيّ الرائي، لا الشاعر فحسب؛ ذلك العارف الذي يمضي في طريق النور حاملاً مصابيح الغائبين، كما قال:
"مضى في طريقِ العارفينَ مُنوّراً ... مصابيحَ مَنْ لا يُبْصِرونَ طرائقا"
إنه شاعر/ نبيّ، على طريقة المتصوفة الكبار (ابن عربي، الحلاج، والسهروردي)، يقرأ النار لا كعقابٍ بل ككاشفٍ، والخراب لا كفناءٍ بل كاختبارٍ كونيّ لمعنى الخلق. فالشاعر هنا لا يصف ما يرى، بل يؤوّل النار كحقيقة وجودية، يكتشف من خلالها جوهر الهزيمة ومعنى التطهير.
يتنقّل النص في منعرجات متعدّدة من الحسّي إلى المجازي، ومن الواقعي إلى الصوفي، في نَفَسٍ شعريّ طويل لا يكلّ، حتى ليبدو وكأنه سفرٌ عرفانيّ عبر خرائط الجرح العربي. فهو مرةً يستحضر رموز الأرض (النخيل، الفرات، الجنائن، الحداء، اليمامات...) ومرةً يصعد إلى المقامات الروحية حيث الوجدان يهطل كوثراً والخيال يفيض بواتقاً.
وحين يقول:
"خصيبيّةُ الأمدادِ صوفيّةُ الرُؤى ... تطيرُ إلى معنى الوجودِ بيارقا"
فهو يعلن التحام المكان بالروح. إن الهلال الخصيب، في رؤياه، ليس جغرافيا فحسب، بل حالة وجدٍ روحيّ، موطن النبوءة الأولى، حيث يتجلّى الإلهي في الطين، وتتمازج الزراعة بالحكمة، والنهر بالسماء. إنّه مهدُ الكلمة الأولى، وجرحها الأخير.

على الصعيد الرمزي، تتجلّى القصيدة كرحلة من الضلال الجمعي إلى الوعي الكوني. فالشاعر، وإن بدا مصلحًا أو حكيماً في ظاهر القول، يقرّ بتجربته المزدوجة بين الحكمة والزندقة:
"فلسْتُ حكيماً بل أسيرَ نبوءةٍ ... ولم أكُ يوماً بالمواعظ حاذقا"
"وحَسْبُكَ شطحٌ حازَ طعْمَ تَزنْدُقٍ ... وَرُبَّ مُريدٍ قد تزندقَ صادقا"
إنها إشارة عميقة إلى الجدلية الصوفية بين الكفر والإيمان، بين الحرف والحقيقة؛ حيث لا ينال العارف المعرفة إلا عبر "الشطح"، أي الخروج عن حدود المألوف، كما فعل البسطامي والحلاج.
فالشاعر هنا لا يبرّئ نفسه من الشطح، بل يحتفي بها كمرحلةٍ في طريق الكشف.
بهذا المعنى، تتحوّل القصيدة إلى تجربة كشفٍ وجوديّ، يُستمد فيها الوعي من نار الخسارات، لا من بارد اليقين.
وحين تنحدر القصيدة إلى مآسي الراهن العربي، تنتقل من الرمز إلى الاعتراف السياسي الفاجع:
"أيا جارتا ويْلَ العروبةِ بعدما ... مَحا الصنمانِ الأكبران علائقا"
الصنمان الأكبران هنا رمزان مزدوجان: للسلطة والاستبداد، وللعقيدة الزائفة التي استعبدت الوعي. إنّها صرخة ضدّ تآكل المعنى في زمنٍ تآكلت فيه الأوطان، حين صارت العروبة وهماً، والناس بيادق على رقعة الشطرنج، كما يقول بمرارة:
"أكُنّا كما الغرقى بوهمِ عروبةٍ ... على رُقعةِ الشِطْرنْجِ نعدو بَيادقا"
هنا يلتقي الشاعر مع محمود درويش في "مديح الظل العالي"، ومع أدونيس في نزعة تفكيك الأوثان، ومع السيّاب في رثاء الرافدين؛ لكنه يختلف عنهم في أنه لا يكتفي بالنقد، بل يحوّل الوجع إلى طريق عرفانيّ، إذ يواصل إشعال القوافي "كي تقوم حدائقاً".
الشعر عنده ليس ترفاً بل مقاومة روحية:
"بأنّي على نارِ الجنائنِ لم أَزلْ ... أزُخُّ القوافي كي تقومَ حدائقا"

هذا الشعر، في عمقه، تأملٌ في معنى البقاء الإنساني وسط العدم. إنّه يصرّ على أن الشعر يمكن أن يكون صلاة، وأن الكلمة ما تزال قادرة على إنقاذ ما تبقّى من الروح. حين يقول:
"أعوذُ بشعري والمعوذةُ فرقدٌ ... يَراهُ فؤادي في القصيدةِ شاهقا"
فهو يُعلن الشعر ملاذًا لا عقيدة، والنصّ معراجًا نحو العدالة المفقودة:
"ويرنو إلى كنه العدالة جوهراً ... فلم يرَ ما بين الأنام فوارقا"
هنا تتجلّى الروح الإنسانيّة الكونية التي تتجاوز العروبة بمعناها الضيق، لتستبصر جوهر العدالة الإلهية التي تسوي بين الخلق.

أما البعد الصوفي الرمزي في الختام فيبلغ ذروته في قوله:
"بِقلبٍ على جمرِ الحقيقةِ عاكفٍ ... وقدْ فاضَ تنّورُ الخيالِ بَواتِقا"
إنه قلب العارف الذي يلتهمه جمر الحقيقة، لا لينطفئ بل ليُضيء. فالنار هنا ليست فناءً بل تطهيراً، والخيال ليس هروباً بل تنورًا تُصهر فيه الحقائق حتى تتجلى صفوتها.
إنها صورة للوعي المتوهج الذي يعيد خلق العالم بالكلمة، في زمنٍ تعفّن فيه الخطاب.
في المحصلة، تمثّل "الهلال الخصيب" قصيدةً تجمع بين المأساة والرجاء، بين الخراب والنبوءة، بين الكلمة والمعنى. هي ليست بكاءً على الماضي، بل استنهاضٌ للوعي الجمعي، وتذكيرٌ بأن الشعر يمكن أن يظلّ الضمير الأخير للأرض المحروقة.
إنها قصيدة تكتب جغرافيا جديدة للروح، في عالمٍ فقد بوصلته، وتعيد إلى الشعر مهمته الأولى: أن يكون مرآة الوجود حين تنكسر المرايا، وأن يوقظ فينا ما نسيه التاريخ، أن الهلال الخصيب، مهما احترق، سيبقى خصيبًا، لأنه ينبت من رماده المعنى.
**
سعاد الراعي
درسدن/ المانيا
25.10.30


رابط القصيد
https://www.almothaqaf.com/nesos/984171



#سعاد_الراعي (هاشتاغ)       Suad_Alraee#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذاكرة في ظلال الغياب
- الواقعية المستنيرة في مواجهة العنف الجمعي في رواية -خلع الخا ...
- الذات تكتب سيرتها
- من كتاب الانسان الذي سبق الثورة، الجوانب الإنسانية في سيرة س ...
- خلع خاتم الطائفية،الفصل الخامس والسادس من رواية تحت الطبع
- أنا القربان... قسوة التضحية
- من رواية خلع خاتم الطائفية
- بين خيوط العزلة وسيف المصير
- من رواية، خلعُ خاتَم الطائفية
- قصة، طيف، على حدود العدم
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2 6) قراءة إنسانية في ملا ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل، ...
- سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة،(4) قراءة إنسانية لسيرة ب ...
- جدلية المقدّس والخراب في قصيدة -أقنعة المكائد- للشاعر طارق ا ...
- سلام عادل: سيرة إنسانٍ يسبق الثورة (3) الكونفرنس الثاني للحز ...
- قربان الأم... صرخة في وجه الموت
- الخطوط المشتركة بين غرو وكلاين فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيد ...
- عندما يكون الفكر ثالثهم!


المزيد.....




- سميرة توفيق في أبوظبي: الفن الأصيل ورمز الوفاء للمبدعين العر ...
- -الخارجية- ترحب بانضمام الخليل إلى شبكة اليونسكو للمدن الإبد ...
- جمعية الصحفيين والكتاب العرب في إسبانيا تمنح ‏جائزتها السنوي ...
- فيلم -Scream 7- ومسلسل -Stranger Things 5- يعدان بجرعة مضاعف ...
- طبيبة نرويجية: ما شاهدته في غزة أفظع من أفلام الرعب
- -ذي إيكونومست- تفسر -وصفة- فنلندا لبناء أمة مستعدة لقتال بوت ...
- لن تتوقع الإجابة.. تفسير صادم من شركة أمازون عن سبب تسريح نح ...
- حزب الوحدة ينعى الكاتب والشاعر اسكندر جبران حبش
- مسلسلات وأفلام -سطت-على مجوهرات متحف اللوفر..قبل اللصوص
- كيف أصبح الهالوين جزءًا من الثقافة السويسرية؟


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعاد الراعي - حين يتوهّج الطينُ نبوءةً في قصيدة -الهلال الخصيب- للشاعر مصطفى علي