سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(Suad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 00:16
المحور:
الادب والفن
أن تكتب الذات سيرتها، يعني أن تفتح أبواب الذاكرة على مصراعيها، لا لتستسلم لما كان، بل لتعيد بناء المعنى من ركام التجربة. فالسيرة ليست مجرّد سجلٍّ لحياةٍ مضت، بل هي فعل وعيٍ بالوجود، وممارسة لتحرير الذاكرة من صمتها الطويل. إنها رحلة في المرايا المتقابلة، حيث تتواجه الذات مع نفسها، وتتحاور مع الآخر، وتعيد قراءة العالم من موقعها الخاص.
في الكتابة السيريّة، ينكشف الإنسان أمام ذاته أولًا، فيمتحن صدقه مع ماضيه، ويعيد النظر في جراحه وانتصاراته.. في هشاشاته وصلابته. حيث تتحول الكتابة إلى ممارسة للحرية، وإلى إعلانٍ رمزيٍّ عن حق الإنسان في أن يقول: هذا أنا كما اراني، وهذا تاريخي كما أراه.
الكتابة الذاتية بهذا المعنى ليست تمرينًا في السرد، بل فعل وجودٍ ومقاومة. فهي تضع الذاكرة في مواجهة النسيان، وتستحضر ما أرادت الأعراف طمسه، لتعيده إلى فضاء الضوء من خلال اللغة. وكل من يكتب ذاته، إنما يشارك الاخرين في كتابة الذاكرة الجمعية، لأن التجربة الفردية لا تنفصل عن سياقها الاجتماعي والثقافي. فحين تبوح امرأةٌ مثلاً بما اختزنته حياتها من ألمٍ ومقاومة، فإنها لا تروي حكايتها فحسب، بل تكتب أيضًا تاريخًا موازياً لزمنٍ حاول قمعها وتغييب صوتها.
في المجتمعات التي تثقلها التقاليد وتقيّد حرية البوح، تغدو السيرة الذاتية فعل تمرّدٍ رمزي، ومجالًا لمواجهةٍ صامتة بين الذات والنظام الأبوي. فالفعل الكتابي هنا تحرّرٌ من سلطة الصورة الجاهزة، ومن هيمنة الصمت المفروض.
والمرأة الكاتبة، حين تكتب سيرتها، فإنها تكتبها بمدادٍ من الوعي والجرأة؛ تفكّك الخطاب الذي صاغها كما يشاء، وتعيد بناء ذاتها بمعاييرها الخاصة، لا كما أرادها الآخرون. إن فعل الكتابة لديها ليس مجرّد سردٍ لتجربة شخصية، بل تفكيكٌ لبنية القهر، ومحاولةٌ لترميم الفوضى الداخلية في أفق معنى جديد للذات.
وقد أدركتُ كالكثير من الكاتبات العربيات هذا البعد التحرري في كتابة السيرة. ففدوى طوقان، في رحلة جبلية، رحلة صعبة، لم تكتب فقط سيرة امرأةٍ تبحث عن ذاتها، بل سيرة وطنٍ يحاول استعادة حريته. كان صوتها الشعري والمقاوم امتدادًا لذاكرتها التي رفضت الصمت. كتبت عن القهر الاجتماعي كما كتبت عن الاحتلال، فغدت سيرتها نصًا مزدوجًا للمقاومة: مقاومة القيد الداخلي ومقاومة الخارج الاستعماري. وقد أثار نصها جدلاً واسعًا بين الإعجاب والرفض، لكنه كرّسها رمزًا للبوح الذي يتحدى الرقابة، وللكلمة التي تتجاوز حدود "الحياء الاجتماعي" إلى أفق الحرية الإنسانية.
أما مي زيادة، فتمثل نموذجًا آخر لكتابة الذات بوصفها فعل وعيٍ فكريٍّ ومأساة إنسانية. لم تكتب سيرة مكتملة، لكنها تركت رسائل ومقالات شكّلت ملامح سيرتها الفكرية والوجدانية. كانت امرأةً في قلب المعركة بين الوعي الذكوري والأنوثة المفكّرة، صوتًا جريئًا في زمنٍ لم يكن يحتمل جرأة المرأة المثقفة. واجهت الوحدة والخذلان حين تراجع عنها من كان يحتفي بها، فصارت سيرتها، كما وردت في رسائلها إلى جبران، مرآةً لمأساة الفكر حين يُحاصَر بجدار المجتمع. لقد كُتبت سيرتها في الذاكرة الثقافية أكثر مما كُتبت على الورق، لتغدو شاهدًا على ثمن الوعي في زمنٍ يخاف من المرأة الواعية.
أما رضوى عاشور، فقد قدّمت في أثقل من رضوى مثالًا فريدًا للسيرة المقاومة. لم تكن سيرتها مجرّد استعادةٍ لحياتها الشخصية، بل مشروعًا للوعي الجمعي، تتقاطع فيه الذات مع الوطن، والأنوثة مع النضال السياسي. في كتابتها، تتجسد الذاكرة بوصفها مقاومةً للخذلان، وساحةً يتجاور فيها الألم الشخصي مع الحلم الجماعي. لم تكن تكتب لتتذكّر فقط، بل لتؤكد أن الكتابة نفسها فعل نضالٍ ضد الفناء. لقد أعادت تعريف السيرة الذاتية بوصفها نصًّا يواجه السلطة بالصدق، والمرض بالأمل، والموت بالكلمة.
وفي السياق ذاته، نجد غادة السمان تمثل الوجه العاطفي المتمرّد للسيرة الذاتية. كتاباتها في رسائل حب لم تكن مجرّد بوحٍ شخصي، بل تمرينٌ على حرية الروح في مواجهة القيود. كانت عاطفتها سلاحًا جماليًا، وموقفًا ضد النفاق الاجتماعي. تعرّضت لهجومٍ شديد من المحافظين الذين رأوا في كتابتها تجاوزًا "لحدود الأدب"، لكنها في الواقع كانت تمارس أكثر أشكال الصدق شجاعةً، إذ حوّلت تجربتها العاطفية إلى مرآةٍ للإنسان في لحظاته القصوى من الضعف والكرامة.
وإذا اتجهنا إلى التجارب الغربية، نجد فرجينيا وولف في غرفة تخص المرء وحده قد جعلت من الكتابة فعلًا فلسفيًا للتحرر الفكري. لم تكن سيرتها الذاتية بمعناها التقليدي، لكنها كانت إعلانًا صريحًا عن حق المرأة في أن تكتب وتفكر وتعيش بوعيها الخاص. كتبت عن معاناتها النفسية بوصفها جزءًا من عبقريتها، وعن الكتابة كفضاءٍ للخلاص من القهر الذكوري. ومع أنها وُوجهت في مجتمعها بالاستخفاف والتشكيك، فإن نصها أصبح حجر الأساس للوعي النسوي الحديث.
أما سيمون دي بوفوار، فقد حوّلت سيرتها في مذكرات فتاة مطيعة إلى مشروع فلسفي كامل، جعل من التجربة الفردية مادةً للتفكير الوجودي. في سردها لحياتها الأولى، واجهت السلطة الأبوية والدينية بوعيٍ نقديٍّ صارم، وأعلنت تمردها على كل ما يُقيّد حرية العقل والأنوثة. كانت سيرتها صدامًا فكريًا مع المجتمع الفرنسي المحافظ، لكنها غدت لاحقًا أيقونةً للمرأة التي تفكر وتكتب وتعيد تعريف ذاتها بالوعي لا بالتقليد.
إن هذه التجارب، على اختلاف بيئاتها، تكشف أن كتابة السيرة الذاتية النسوية كانت دائمًا فعلًا مزدوجًا: فعل بوحٍ ومقاومة، ووعيٍ وحرية. فالمجتمع كثيرًا ما يستقبل هذه الكتابات بمزيجٍ من الإعجاب والريبة. وحين تكون الكاتبة امرأة، يزداد التوجّس حدةً، لأن البوح الأنثوي يُنظر إليه بوصفه خروجًا عن النظام الرمزي للأبوة. يُحتفى بالكاتب الرجل على أنه جريء وصادق، فيما تُتّهم الكاتبة بأنها متهوّرة أو تبحث عن شهرة. غير أن ما يُعدّ "فضيحة" في زمنه، يتحوّل مع الزمن إلى شهادةٍ على الشجاعة الأدبية، وإلى وثيقةٍ إنسانية عن كسر الصمت.
لقد أثبتت السيرة الذاتية النسوية أن العاطفة ليست نقيض العقل، بل وجهه الأكثر حرارةً وصدقًا. فالعاطفة في هذا السياق ليست ضعفًا، بل طاقة إبداعية تُعيد للكتابة حرارتها الإنسانية، وتجعل من التجربة الشخصية مساحةً لتجلي الوعي الجمعي. والمرأة حين تكتب سيرتها، فإنها لا توثّق ماضيها فحسب، بل تُعيد تعريف البطولة والكرامة من منظورٍ داخليٍّ إنسانيٍّ عميق، يجعل من الصمود فعلًا بطوليًا، ومن الكتابة أداة للشفاء والمصالحة مع الذات.
إن السيرة الذاتية، في جوهرها، هي فعل وجوديٌّ وجماليٌّ يعيد للإنسان صوته ومكانه في العالم. هي مساحة مواجهة بين الذات والعالم، بين ما يُقال في العلن وما يُخفيه الصمت. وحين تكتبها امرأة، فإنها تتحول من مجرد جنسٍ أدبي إلى صرخة حرية، ونداء ذاكرة، وموقفٍ من الوجود ذاته. فكل سيرةٍ تُكتب في زمن القهر هي إعلان حياةٍ جديدة، وانتصار رمزي على النسيان. ومن ثمّ، تبقى كتابة الذات في صورتها الإنسانية من أسمى أشكال التعبير الإنساني، لأنها لا تكتفي بسرد الحياة، بل تخلقها من جديد، وتمنحها معناها.
**
سعاد الراعي
2025.10.19 درسدن
المراجع
* طوقان، فدوى. رحلة جبلية، رحلة صعبة. دار الشروق، عمّان، 1985.
* عاشور، رضوى. أثقل من رضوى. دار الشروق، القاهرة، 2013.
* زيادة، مي. رسائل مي إلى جبران. دار نوفل، بيروت، 1999.
* السمان، غادة. رسائل حب. دار الطليعة، بيروت، 1987.
* دي بوفوار، سيمون. مذكرات فتاة مطيعة. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1980.
* وولف، فرجينيا. غرفة تخص المرء وحده. ترجمة لطيفة الزيات، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994.
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
Suad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟