عامر عبد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8508 - 2025 / 10 / 27 - 09:53
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مقدمة: حين يتحول التفاؤل إلى اختبار للواقع ؛ رفع صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للعراق إلى 0.5% لعام 2025 بعد أن كانت سلبية في تقدير أبريل، وإلى 3.6% لعام 2026. ورغم أن هذه المراجعة تبدو إيجابية في ظاهرها،
إلا أنها — في نظر مطّلع على طبيعة الاقتصاد العراقي — مجرد مؤشر “نَفَسي” قصير الأجل، وليس انعكاسًا لتحوّل هيكلي حقيقي. إن التفاؤل الخارجي لا يُقاس بالبيانات الرقمية بقدر ما يُقاس بقدرة الاقتصاد على تحويل المؤشرات إلى استدامة.
وهنا تكمن المعضلة العراقية: هل يمتلك العراق الأدوات السياسية والمالية والمؤسسية التي تؤهله لتحويل هذا الزخم المؤقت إلى نمو مستدام؟ أم أن هذه الأرقام الجديدة ليست سوى “فقاعة تفاؤل” ضمن دورةٍ مالية قصيرة مرتبطة بأسعار النفط؟
أولاً: سياق التوقعات – بين الواقع النفطي والرهانات المالية ؛ يشير رفع التوقعات من قبل صندوق النقد إلى تحسن في المزاج العام حول الاقتصاد العراقي، وربما عكس توقعات أكثر استقرارًا في صادرات النفط ومعدلات التضخم. لكنّ تحليل المضمون الفني للتقرير
يكشف أن النمو المتوقع لا يستند إلى توسّع في القطاع غير النفطي، بل إلى تحسن نسبي في العوائد النفطية وتراجع طفيف في معدلات الأسعار العالمية للسلع الأساسية.
1. اقتصاد أحادي في بيئة متقلّبة ؛ العراق ما يزال من أكثر الاقتصادات أحادية البنية في العالم، إذ تشكّل عائدات النفط أكثر من 92% من الإيرادات العامة، وأكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما لا تتجاوز مساهمة الصناعة والزراعة مجتمعةً 10%. وهذه البنية تجعل النمو العراقي تابعًا لا فاعلًا في الدورة الاقتصادية العالمية:
a. فإذا ارتفعت الأسعار النفطية، يُسجل العراق نموًا.
b. وإذا انخفضت، يتراجع فجأة إلى حالة انكماش وعجز.
بعبارة أخرى، الاقتصاد العراقي لا يصنع نموّه، بل يستورد النمو من الخارج.
2. الإشارات النقدية والمالية المقلقة : رغم خفض توقعات التضخم من قبل صندوق النقد، إلا أن هذه التقديرات مبنية على استقرار سعر الصرف وعلى استمرار استيراد السلع بأسعار منخفضة عالميًا.
لكن الواقع الداخلي يشير إلى عوامل تضخمية خفية:
a. زيادة الرواتب والإنفاق الجاري في الموازنة الثلاثية.
b. تراجع المعروض المحلي من السلع غير النفطية.
c. ضعف الإنتاجية الزراعية والصناعية.
وهذه العوامل يمكن أن تعيد التضخم إلى مستويات تفوق التوقعات في غضون عامين، خاصة مع ضعف أدوات البنك المركزي في امتصاص السيولة دون كلفة سياسية.
3. الموازنة المؤجّلة والواقع المالي الضاغط ؛ تأخر إقرار موازنة 2025 يُعتبر إشارة خطيرة على اضطراب التوقعات الرسمية. فالعراق يُدير الآن إنفاقه عبر “قواعد الصرف الاثني عشرية”، وهو ما يحدّ من قدرته على تنفيذ مشاريع استثمارية ويزيد من التزامات الدَّين الداخلي. هذه البيئة تجعل أي تفاؤل بالنمو رهينةَ الانضباط المالي والسياسي، لا بالمعطيات السوقية وحدها.
ثانياً: الفقاعات الاقتصادية – حين تُخفي الأرقام هشاشة البنية ؛ في الأدبيات الاقتصادية، تُعرف “الفقاعة الاقتصادية” بأنها حالة نمو سريع في مؤشرات الأسعار أو الإنتاج أو الإيرادات لا تستند إلى قاعدة إنتاجية متينة. وتاريخ العراق الحديث مليء بمثل هذه الفقاعات، إذ عرف موجات من “الازدهار المؤقت” أعقبت ارتفاعات نفطية، لكنها انتهت بانكماشات قاسية، كما حصل في 2014 و2020.
1. فقاعة الإيرادات النفطية ؛ رفع الصندوق لتوقعات النمو يستند، في الواقع، إلى فرضية استمرار أسعار النفط فوق 85 دولاراً للبرميل. لكن هذه الفرضية هشّة، فالسوق النفطية تتعرض اليوم لضغوط جيوسياسية:
a. تباطؤ الطلب الصيني.
b. ارتفاع إنتاج أميركا والبرازيل وكندا.
c. ضغوط سياسية على أوبك+ لتخفيف القيود. وكلها تجعل أي ارتفاع في الأسعار مؤقتاً.
وبما أن العراق لم يطوّر بعد آلية تحوط مالي، فإن تراجُع الأسعار بمقدار 10 دولارات فقط يمكن أن يُفقده ما يعادل 8 تريليونات دينار من الإيرادات، أي أكثر من نصف ميزانية الاستثمار السنوية.
2. فقاعة الإنفاق الجاري ؛ الحكومة العراقية تبنّت في الموازنة الثلاثية سياسة توسعية كبيرة، خصوصاً في باب الرواتب والدعم الاجتماعي. ورغم أن هذا الإنفاق يعزّز النشاط الاقتصادي مؤقتاً، إلا أنه لا يخلق إنتاجية حقيقية، بل يزيد الاعتماد على النفط ويقلّص الحيز المالي المستقبلي. الإنفاق الجاري اليوم يشكّل أكثر من 70% من الموازنة، أي أن كل دينار إضافي يأتي من النفط يذهب إلى الاستهلاك لا إلى الاستثمار.
3. فقاعة السوق النقدية وسعر الصرف : سعر الصرف المستقر (1320 دينار/دولار) يعطي انطباعاً بالثبات النقدي، لكنه استقرار مموّل من الاحتياطي الأجنبي، لا من توازن العرض والطلب الحقيقي. وبالتالي، فإن أي ضغوط على نافذة العملة أو على تدفق الدولار من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يمكن أن يُحدث ارتباكاً سريعاً في السوق، يعيد الدولار إلى مستويات تفوق 1500 دينار، وهو ما سيعصف بالثقة وبقيمة الدينار داخلياً.
4. فقاعة الثقة الاستثمارية : التحسّن المؤقت في التوقعات قد يغري بعض المستثمرين المحليين أو العرب بالعودة إلى العراق، لكن دون إصلاح مؤسسي (قوانين، حماية مستثمرين، شفافية عقود) ستبقى هذه الثقة سطحية، سرعان ما تتبدد مع أي أزمة سياسية أو أمنية.
ثالثاً: بين النمو الكمي والنمو النوعي – قراءة في مسار 2026 ؛ من منظور التنمية الاقتصادية، النمو الكمي — أي زيادة الناتج المحلي — لا يُعبّر بالضرورة عن تحسّن في رفاه المواطن أو كفاءة الاقتصاد. فقد تسجّل دولة نفطية نمواً بـ3% في سنة ما، لكن ذلك لا يعني شيئاً إن لم يترافق مع:
• انخفاض البطالة،
• ارتفاع الإنتاجية،
• وتحسّن البنية المؤسسية.
في الحالة العراقية، النمو المتوقع لعام 2026 (3.6%) يعتمد بنسبة 80% على النفط. وهذا يعني أن النمو “نوعيًا” ما يزال سالبًا في القطاعات الأخرى. بل إن بعض التقديرات المستقلة (مثل البنك الدولي وتقارير Fitch Solutions) تشير إلى أن القطاع الزراعي والصناعي في العراق مرشح للانكماش بمعدل 1–2% إذا استمر ضعف الدعم الحكومي وقلة المياه.
1. مخاطر استمرار الاقتصاد الريعي
• الريع النفطي لا يُعيد توزيع الثروة بعدالة، بل يخلق فجوة بين مركز القرار والمجتمع المنتج.
• كل موجة ارتفاع في الأسعار تُترجم إلى توسع بيروقراطي ووظائف شكلية، لا إلى إنتاج.
• الريع يخلق “رضا مؤقتًا” اجتماعيًا يخفي البطالة المقنّعة ويؤجل الصدام الاقتصادي.
2. تحدي التوظيف والزيادة السكانية ؛ يتوقع أن يصل عدد سكان العراق إلى 60 مليون نسمة بحلول 2035، نصفهم تقريباً في سنّ العمل. ولم يعد القطاع العام قادرًا على استيعاب هذا النمو السكاني، فيما القطاع الخاص ما يزال هشًّا. بدون تنويع فعلي، سيؤدي أي تباطؤ في النفط إلى أزمة اجتماعية واقتصادية حقيقية.
3. العجز المالي وإدارة الدين وفق تقديرات صندوق النقد، من المتوقع أن يرتفع العجز الكلي إلى أكثر من 6% من الناتج المحلي إذا استمر الإنفاق الحالي دون ضبط. وهذا يعني زيادة في الدين العام، الذي بلغ نحو 107 تريليونات دينار، نصفه خارجي. أي ارتفاع بسيط في أسعار الفائدة العالمية (الذي يُتوقّع بعد تخفيضات الفيدرالي المقبلة) سيزيد كلفة الاقتراض على العراق ويقضم من فوائضه النفطية.
رابعاً: التوصيات – كيف نحول التفاؤل إلى استدامة؟
1. إطلاق إصلاح مالي حقيقي (2026–2030)
• إعادة هيكلة الإنفاق العام بحيث لا تتجاوز الرواتب والدعم 50% من الموازنة.
• إنشاء “صندوق توازن مالي” يودَع فيه كل فائض نفطي فوق 75 دولاراً للبرميل.
• فرض قاعدة مالية (Fiscal Rule) تربط زيادة الإنفاق بمعدل نمو الإيرادات غير النفطية فقط.
2. تبنّي سياسة نقدية مرنة ومُحكمة
• السماح بتقويم تدريجي للدينار على أساس سلة عملات بدل الاعتماد على الدولار وحده.
• تطوير أدوات تحوّط محلية (سندات حكومية، شهادات استثمار) لامتصاص السيولة الزائدة.
• زيادة حصة الذهب والعملات الآسيوية في الاحتياطي لتقليل مخاطر الدولار.
3. تحفيز القطاع غير النفطي بآليات السوق
• إطلاق مبادرة وطنية للصناعات التحويلية النفطية (البتروكيماويات، الكبريت، الأسمدة، الأنابيب).
• تحويل جزء من عوائد النفط إلى صندوق استثماري لتمويل المشاريع الزراعية المستدامة.
• توفير حوافز ضريبية للمشاريع التي توظّف عمالة محلية بنسبة تفوق 70%.
4. تعزيز الشفافية والمؤسسية
• تفعيل المجلس الأعلى للإصلاح الاقتصادي كهيئة مستقلة تراقب تنفيذ الخطط التنموية.
• نشر تقارير فصلية عن تنفيذ الموازنة وأداء الإيرادات غير النفطية.
• اعتماد نظام مشتريات إلكتروني موحّد للحد من الفساد في العقود الحكومية.
5. إصلاح التعليم والتدريب المهني
• مواءمة مخرجات الجامعات مع احتياجات السوق.
• إنشاء مراكز وطنية للتدريب الصناعي والزراعي بالتعاون مع القطاع الخاص.
• ربط منح القروض للشباب بمشاريع إنتاجية وليس استهلاكية.
خامساً: السيناريوهات المستقبلية (2026–2035): يمكن تلخيص مستقبل الاقتصاد العراقي خلال العقد القادم بثلاثة مسارات محتملة، تختلف نتائجها باختلاف القرارات الاقتصادية والسياسات الإصلاحية التي ستتبناها الحكومة.
السيناريو الأول: الاستمرار على النهج الحالي ؛ في هذا المسار، يبقى الاقتصاد العراقي معتمداً على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات، دون إصلاح جدي في الإنفاق العام أو تنويع مصادر الدخل. يترتب على ذلك استمرار التقلبات في معدلات النمو تبعاً لتذبذب أسعار النفط، مع بقاء معدلات البطالة مرتفعة تتجاوز 20%، وارتفاع التضخم نتيجة لضعف الإنتاج المحلي وتزايد الاستيراد. هذا السيناريو يعني عملياً بقاء العراق رهينة للريع النفطي وضعف القاعدة الإنتاجية، ما يجعله عرضة لأي صدمة خارجية في الأسواق العالمية.
السيناريو الثاني: الإصلاح المالي الجزئي ؛ في هذا الخيار، تتجه الدولة نحو ضبط نسبي للإنفاق العام وزيادة تدريجية للإيرادات غير النفطية لتصل إلى نحو 15% من الناتج المحلي الإجمالي. يتحقق هنا نوع من التوازن المالي يسمح بحدوث نمو مستقر يتراوح بين 3–4% سنوياً، مع سيطرة نسبية على معدلات التضخم. هذا السيناريو يمثل نقطة وسط بين الجمود والإصلاح الشامل، إذ يخلق بعض الاستقرار، لكنه يظل هشاً في مواجهة الأزمات النفطية أو التحديات السياسية والإدارية.
السيناريو الثالث: التحوّل الهيكلي الكامل ؛ وهو المسار الأمثل والأكثر طموحاً، يقوم على تنويع فعلي لمصادر الدخل الوطني من خلال تطوير الزراعة والصناعة والطاقة المتجددة، وإنشاء صندوق توازن مالي يخفّف من أثر تقلبات أسعار النفط. كما يتضمن إصلاحاً إدارياً شاملاً في مؤسسات الدولة يهدف إلى رفع الكفاءة ومكافحة الفساد. في هذا السيناريو، يمكن للعراق تحقيق نمو مستدام بين 5–6% سنوياً، مع خفض البطالة إلى ما دون 10%، والحفاظ على معدلات تضخم منخفضة لا تتجاوز 4%.
هذا السيناريو الثالث لا يمثل حلماً مثالياً، بل خياراً استراتيجياً واقعياً إذا توفرت الإرادة السياسية والتخطيط طويل الأمد. فهو وحده القادر على تحويل العراق من اقتصاد ريعي متقلب إلى اقتصاد إنتاجي مستدام يقوم على العدالة في توزيع الثروة، والقدرة على تمويل التنمية من الداخل لا من الخارج.
ختاماً : بين الحذر والأمل ؛ إن رفع صندوق النقد الدولي لتوقعاته حول الاقتصاد العراقي ليس شهادة نجاح بقدر ما هو إنذار ناعم: العراق ما زال على “حافة النمو” — خطوة إلى الأمام تقابَل دوماً بإمكانية التراجع إن غاب الإصلاح. إن اقتصادًا أحاديًا لا يمكن أن يعيش طويلًا على موجات النفط؛ وإن أي ارتفاع في الأسعار، دون استثمارٍ في البنية المنتجة، سيتحوّل عاجلًا إلى فقاعة مالية تنفجر عند أول هبوط. على الدولة العراقية أن تُدرك أن الأرقام لا تبني اقتصادًا، وأن النمو الحقيقي يبدأ من التعليم، والإدارة، والتنويع، والحوكمة.
فالسوق والمستثمرون لا ينتظرون الشعارات، بل السياسات القابلة للتنفيذ. وما لم تتحوّل هذه التوقعات إلى خططٍ إصلاحية واضحة، سيظلّ العراق يعيش ما يسميه الاقتصاديون “نمو الفقاعات”، لا “نمو التنمية”.
لقد آن الأوان أن تتحوّل مرحلة التفاؤل إلى مرحلة العمل، وأن تستبدل الحكومة العراقية الخطاب بالبرنامج، والوعود بالأفعال، فـالإصلاح المتأخر أكثر كلفةً من الإصلاح الصعب.
#عامر_عبد_رسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟