|
|
واحة اسمها شعبان
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 15:20
المحور:
قضايا ثقافية
د. سناء شامي كاتبة إيطالية من أصل سوري - مسؤولة التعاون الدولي الاقتصادي والثقافي -جمعية البندقية - الصداقة الإيطالية – العربية تمهيد عندما نتحدّث عن ضرورة تأسيس عقلانية حديثة للبحث في أزمات المجتمع وأزمات الفكر والثقافة، فلا بد من الحديث عن المفكرين العرب المعاصرين المنهمكين بإشكالية العقل والعقلانية، ومنهم المفكر العريق عبد الحسين شعبان. إن ما يميّز د.شعبان عن غيره من المفكرين المعاصرين، هو أن بعضهم يسعى إلى القطيعة النهائية مع التراث، وبعضهم الآخر يعمل على ضرورة العودة إليه، أما مفكرنا المُدرك لواقع الحال وتشعّب المواضيع والأزمات، فهو وبهدوئه المعهود يستدعي التراث بالنقد البنّاء ويربطه بلغة الحكمة مع قيمة العقل والعمل العلمي معاً من أجل الحفاظ على التراث كجذور وتقليم كل فرع يابس لا يورق ولا يُثمر، لأن شعبان مقتنع بضرورة العمل على غربلة وتنمية وتطوير المشترك المعرفي بين تراثنا الجامد وحاضرنا المضطرب. إن وقوف الأمة العربية والإسلامية على مفترق خطير، حوّل وجدان شعبان إلى ميزان لا تكفّ كفتاه عن معادلة التوازن بين مساحات الاختلاف في مفاهيم الماضي ومصادرها المعرفية، وضرورة صيانة وإعادة تكوين العقل العربي من أجل جعله قادراً على تحديد مواقفه ممّا يحدث في العالم اليوم من التغيرات المصيرية. مغامرة الحوار مع المفكر الكبير ليس بالأمر البسيط أن تقوم بنقد مفكر كبير مثل عبد الحسين شعبان، ومع ذلك لم أخش الخوض في هذه المغامرة من خلال قراءتي لكتبه التي غالباً ما تجعلني شديدة الدهشة والانبهار إزاء منظومة الأفكار التي يطرحها والرؤى الاستشرافية التي يبلورها، وذلك ضمن مشروعه النهضوي التقدمي، ومن ذلك كتابه «دين العقل وفقه الواقع»، والذي تضمّن مناظرات مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي. التمست في العنوان ذاته فضاءً واسعاً لحريّة الفكر والتعبير، وللجدل الذي خاضه بمهارة معرفية مع أحد الفقهاء الإسلاميين الكبار، والذي شمل مواضيع متنوّعة بعيداً عن الجمود والصنمية والمفاهيم المحنّطة، خصوصاً أنني أؤمن بأن فقه القرآن مرتبط بالواقع والزمان والمكان، وبأن عدم معرفة فقه الواقع يعود إلى عدم معرفة القرآن، وتكييف تعاليمه بما يستجيب لمتطلّبات العصر، وهذه وتلك مرتبطة بمصائب حياتنا بجميع أوجهها.. لذلك ما إن قرأت عنوان الكتاب «دين العقل وفقه الواقع»، حتى شعرت بأنه كتاب فكري جدلي حواري جريء وغير دعائي أو تجاري مثل العديد من الكتب، التي تحفل بها الأسواق التجارية - الدعائية الأيديولوجية هذه الأيام. ومن عنوان الكتاب ومن معرفتك بالكاتب تستطيع أن تعرف أن الكتاب -وكاتبه- منشغل فعلاً في تأسيس معرفي جدّي وجديد. ومنذ أشهر حاورت صديقي د.شعبان في مدينة فينيسيا (البندقية)، التي استضافته برحابة صدر وتسلّمتْ رئاسةُ المجلس البلدي بكل اهتمام نسخة من كتابه «فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي: الثقافة والدولة» باللغة الإنجليزية، وقد نتج عن حوارنا قرار بأن أدرس كتاب «دين العقل وفقه الواقع» دراسة تحليلية بروح المغتربة، التي اطلعت على ثقافة الغرب وتاريخه، وتشربت في الوقت نفسه منذ الطفولة ثقافة عربية وإسلامية من أجل معالجة نفس مفاهيم كتابه، ولكن من جوانب غربية، وقد شجعني على هذا المشروع زوجي المهندس باولو كابوتسو الملم بالتاريخ والمعجب بشخصية وفكر شعبان الذي تحاور معه مطولاً عندما حلّ ضيفاً علينا في فينيسيا. اليوم اكتمل مشروع كتابي «دين العقل وفقه الواقع، إطلالة من نافذة غربية»، وقريباً سيكون بصدد الطباعة والنشر باللغة العربية، وسيتبعه نشر آخر لذات الكتاب ولكن باللغة الإيطالية. الشغف المعرفي مع شعبان اهتممت أكثر بكتاب شعبان هذا، لأنه من خلاله زادت معرفتي به حتى تحولت إلى صداقة عائلية نفتخر بها، بالإضافة إلى أنه كتاب شديد الواقعية وثري بالمفاهيم المتعددة انطلاقاً من عنوانه، وكما يُقال فإن المكتوب يُقرأ من عنوانه لأن العنوان هو خلاصة المادة التي يتحدث عنها الكتاب وهو تحريض على الخوض فيه. في ثقافتنا العربية يسهم العنوان في فتح باب التأويل ويكون بمثابة بداية لقراءة شمولية للكتاب.. وعنوان هذا الكتاب مثّل هويّة معرفية تدعو القارئ والمتخصص على نحو أشد للغوص في تفاصيل وقضايا إشكالية برؤية نظرية حديثة وتقدّمية وبأسلوب مقنع ومنهجي، وقد جمع هذا الكتاب بين القضايا ذات البُعد الفكري والقضايا ذات البُعد العملي. وإذا كان عنوان الكتاب موحياً إلى هذه الدرجة، فإن نصوصه تفصح عن أهمية كبرى لأفكاره، والذي يمكن أن يكون مفتاحاً أساسياً لاستكشاف أغوار محتواه. هذا العنوان المميز والذكي والنصوص والمقتبسات والسرديات تتمتّع بطاقة حيوية وتوجيهية تُخبر الذي لم يقرأ الكتاب الكثير من الأمور عن النص. طبعاً، لا عجب من اختيار د.حسين شعبان مفردات كتابه ومناظراته القيّمة التي اعتمد في أساسها على الحوار، لأن حسين شعبان في كل ما يكتب وما يقول يُجيد انتقاء مفرداته وعناوينه لإدراكه العميق بأهمية الكلمة، ولاسيما أن هدف المفكر كان دائماً السعي لصناعة الوعي.. ومن هنا ربما تأتي صعوبة نقد هذا الكتاب لأنه يطرح ويناقش ويحاور مفاهيم متعلقة بالأيديولوجيا والحرية، والدولة، والعقل والتاريخ. نقد المفاهيم إذن هو ليس سرداً معروفاً، بل مواجهة لمفاهيم راسخة وتحتاج إلى تجديد ونقد، ومن أصعب الأعمال نقد المفاهيم ومحاولة إعادة قراءتها من أجل صياغة مفاهيم جديدة عبر حواره مع الفقيه أحمد الحسني البغدادي، فقد عرف كيف يحاوره وكيف يجد مساحات مشتركة بأناقة هدفها صناعة وعي جديد يشترك فيه السائل والمجيب ويدفع القارئ إلى تحليل الواقع الحالي الذي تمر به الأمة العربية وإن صح القول الأمة الإسلامية أيضاً. لذلك نرى شعبان منذ الصفحات الأولى لكتابه يسلّط الضوء على تمسّك القوى المتطرّفة بقشور الدين وإهمال لبّه، وتحاول حصره في ثنائيات متناقضة ومتناحرة. ولم يتناول شعبان هذا الموضوع الحساس بعقلية العالم التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والمشاهدة والتجربة، والتي تعني رصد تحركات الحاضر وتحليلها على أسس معرفية ومنطقية وعملية فحسب، بل نراه يطرح فكرة الإسلاموفوبيا من وجهها السياسي، محاولاً إبراز خطورة المتطرفين الإسلاميين وخطابهم الغرباوي السلطوي المبني على الاستبداد وإقصاء الآخر، ولعلّ هؤلاء المتطرفين لا عقلية حوارية لديهم ولا يقبلون النقد ولا يقرّون بحق الآخر، وهو بالنسبة لهم إمّا كافر أو خائن أو مرتد أو عدو لله ورسوله. حاول شعبان تسليط الضوء على هذا النمط الفكري من الإسلامويين، والذي بات أكثر وضوحاً بعدما انفتح العالم أجمع، مثل ممارسات داعش والقاعدة وجبهة النصرة (جبهة فتح الشام) وغيرها من التنظيمات الإرهابية، وكشف شعبان الازدواجية الفعلية بين الشكل الذي يقدمون فيه أنفسهم وحقيقتهم، أما عقليتهم فهي عقلية خطيرة لا تعترف بالقانون ولا تحترمه، بل إن فكرة القانون تخيفها، وبالتالي فهي عقلية غير مؤسساتية، بل تقوم على ادّعاء امتلاك الحقيقة، بغضّ النظر عن الواقع. التمييز بين الدين والتديّن لقد دعا شعبان الجميع للتمييز بين الدين، الذي هو منظومة قيمية إنسانية، والتدين الذي هو ممارسات وشعائر وطقوس، والتي لا علاقة لها بالقيم الدينية السمحة، لأنه يدرك حساسية المرحلة التي تمرّ بها جميع الشعوب العربية، وأول العلاج يبدأ بتشخيص المرض والتمييز بين مصدره وأسبابه، مركّزاً على مفهوم العقل الذي لا يكف عن الجدل مع منطق القول.. فالمفكر شعبان يعلم بأن العلاج في الحداثة، والفكر لاعب أساسي في صناعتها لأن الحداثة مع أخذ خصوصيات مجتمعنا بنظر الاعتبار فعل وممارسة، وإننا لكي نتحدث عن الحداثة، لا بدّ أن نتحدث عن اللّاحداثة، تلك التي تملك الشوارع والمقاهي والعقول الخاملة. شعبان الذي أصدر العديد من الكتب التي تتناول الإسلام وقضاياه مثل كتاب «أمريكا والإسلام» وكتاب «الإسلام وحقوق الإنسان»، وكتاب «الإسلام والإرهاب الدولي»، وكتاب «فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي»، والعديد من كتب ومقالات أخرى في هذا الصدد.. ويقرّ كتابه «دين العقل وفقه الواقع» (ص24) بأن الحديث عن الإصلاح الديني أمر معقد وخصوصاً في ظل مفاهيم الحداثة ونقض القديم والتقليدي والدعوة لحرية التفكير، والعمل على التقليل من سلطات المقدّس، الذي قد يكون لفئة مقدساً ولغيرها من الفئات الأخرى غير مقدّس، إن لم يكن مدنّساً. شعبان الجريء يُدرك بأنه يمسك الجمر بكلتا يديه حينما يدعو إلى إطار التقليل من سلطات المقدس في مجتمع عقله الجمعي رافض للحوار وللتحليل. فكيف لنا يا سيدي المفكر أن نواجه هذا العمل دون أن نقع في الهاوية؟ لكن الباحث يدرك أن صناعة الحداثة تتطلب أولاً إدراك الحق في الاختلاف، وهذا يعني قبول التعددية، فالتعددية والاختلاف هما قاعدتان أساسيتان تبنى عليهما الحداثة. الإصلاح الديني رديفاً للإصلاح السياسي وقبل الحديث عن إصلاح المجال الديني، لا بدّ من البدء بالإصلاح السياسي، وجوهره الحريّة، فلا إصلاح حقيقي دون الحريّات، ولاسيّما حريّة التعبير والتفكير والتنظيم والاعتقاد والشراكة والمشاركة. كيف يُمكن أن يحدث الإصلاح الديني في ظل منظومات تربوية وتعليمية مشتّتة ومثقلة بقيود لا علاقة لها بالدين أحياناً، بل بقشوره، ناهيك عن أن القسم الأكبر فيها غارق في الطيف المذهبي، بعيداً عن مستلزمات علم الاجتماع الحديث، ومبادئ علوم الاقتصاد والجغرافيا الطبيعية والجغرافيا البشرية والجغرافيا السياسية وغيرها من العلوم. والسياسة وإن كانت تعني الخير العام، فهي تحتاج إلى إعادة هيكلتها، بما ينسجم مع هذه المبادئ بهدف عدم التعارض بين مفاهيم الدين ذات الطبيعة الإنسانية ومبادئ السياسة والعلوم الحديثة، فبالعلم فقط يكون الإصلاح، في هذا السياق، ومن أجل التأسيس للعلوم وإعادة استنباتها في حقل الثقافة العربية، فلا بد من المقارنة مع ما هو مختلف. مفكرون عظماء علينا التوقّف عند مفكّرين عظماء، أضافوا إلى الفكر الإنساني عصارة أفكارهم وتجاربهم ورؤاهم، وقدّموا ذلك خدمةً للبشرية مثل مونتيسكيو، الذي قارن بين تقدم المجتمع الإنجليزي النصراني وتخلف الأمم الآسيوية، التي كانت تنضوي تحت لواء الإمبراطوريات الشاسعة من عثمانية وصفوية ومغولية وصينية. وميكافيلي، الذي قارن بين الجمهورية الإيطالية والنظام الملكي في فرنسا وإنجلترا، أما عبدالرحمن بن خلدون، فقد أسس علم العمران (علم الاجتماع العربي)، وهو يقيس مجتمعات الحضر على مجتمعات البدو، ويقارن بين عصبية العرب والبربر وانفتاح الأتراك. أمّا شعبان فهو امتداد معرفي لقراءة الواقع واستخلاص أحكام واستنتاج قواعد تنسجم مع درجة تطوّر المجتمع، وتستشرف تقدّمه إلى الأمام، متوصّلاً إلى أن الإسلام السائد، ما يزال يحمل الكثير من الأثقال التي تحول دون المشاركة الفاعلة، خصوصاً أن القوى المتعصّبة والمتطرّفة تحاول أن تكبح جماح التفاعل مع التطوّر العالمي مثلما تفعل القوى الدولية المهيمنة للحدّ من دور الشعوب العربية والإسلامية في الإسهام بالتطور العالمي، خصوصاً بغرض الهيمنة عليها واستغلالها ونهب ثرواتها، الأمر الذي جعل مساهمة العالمين العربي والإسلامي محدودة، بل لا تُذكر في التاريخ المعاصر، وهو ما أشار إليه شعبان حين اعتبر القرن الحادي والعشرين قرن العولمة والثورة العلمية التكنولوجية وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية (الديجيتال)، والطور الرابع للثورة الصناعية. وأجد نفسي متّفقة تماماً مع د.شعبان بحتمية التواصل والتفاعل بين الضفتين بشرط استئناف الصلة الحيّة بتراثنا وبعثه من جديد بممارسة متوازنة وبنظرة شمولية على أساس مشروع نهضوي حضاري، وكيف لنا أن نعارض فكر شعبان اليقظ والباحث دائماً عن الحقيقة في عمق جميع جوانب الحياة بما فيها الجانب الديني، فشعبنا ذو النظرة الشمولية والمتوازنة يؤمن أبداً ويدعونا للإيمان بالخالق من خلال تنمية الحضارات والدفاع عن ديمومتها. وهذا ما أكده الحسني البغدادي في حواره مع د.شعبان، حين أكدَّ ضرورة مواكبة الحوار الحضاري بشرط استئناف الصلة الحيّة بتراثنا وبعثه من جديد بممارسة متوازنة وبنظرة شمولية، وهكذا التقى الفقيه بالمفكّر لإدراكهما أن الفكر الإسلامي صار راكداً، ولا بد من تحديثه، باستعمال العقل في الدين، وحسب شعبان، الإيمان دون عقل يقود إلى التعصّب، والعقل يأخذ الواقع بنظر الاعتبار، ويحاول التكيّف معه، وتلك هي القراءة الواقعية للتعاليم الدينية. العلمانية ونتساءل: هل من الممكن التحديث بعيداً عن العلمانية؟ وما العلمانية في مفهوم الثقافة العربية؟ هل من الممكن أن تتحول العلمانية إلى نزعة دوغمائية متطرفة على غرار الأصوليات الدينية والعقائدية؟ ونقول: في الغرب يتحدثون عن «إسلام متطرف» وعن «إسلام معتدل»، ألا يحق لنا أن نميّز نحن أيضاً بين «علمانية غربية متطرفة» و«علمانية شرقانية معتدلة»؟ ثم ما المقاييس التي تحدّد مفهوم الدين المعتدل؟ هل فقط عندما يساير الدين المصالح السياسية للغرب، يصبح ديناً معتدلاً؟ أليس اليمين المتطرف في الغرب الداعم للعلمانية، هو أول الطاردين لمن اختلف معهم فكراً وعقيدة؟ ألم تفشل العلمانية والعلمانيون في اجتثاث الفكر العنصري الاستعلائي المتطرف في المجتمع؟ أليس أسباب فشلها ناتجة عن ادّعاء الأفضليات وعدم قبول التعددية ومحاولات الهيمنة؟ كما يذهب إلى ذلك شعبان؟ إن التطرق لموضوع واحد من مواضيع كتاب «دين العقل وفقه الواقع»، يطرح علينا العديد من الأسئلة والتساؤلات، سواء ما يتعلّق بقراءتنا للماضي أو رؤيتنا للحاضر أو استشرافنا للمستقبل، لأن طبيعة الحياة ترفض الجمود، وهو ما يتوقّف عنده شعبان كمفكّر غزير الإنتاج كتابةً وتأليفاً ونقداً وترجمةً. الجهاد يفرد د.شعبان قسماً خاصاً من كتابه المذكور لمناقشة قضية إشكالية، تلك التي تتعلّق بمفهوم الجهاد، والتي تتراوح بين الحق في المقاومة وممارسة الإرهاب، وذلك استناداً إلى القرآن الكريم، الذي تجري تفسيراته على نحو مغرض ومسيء أحياناً إلى تعاليم الدين السمحة. فبعد أن يناقش قضايا الحداثة والتقليد وموضوع الإيمان واللّاإيمان، الدين والعنف، الفتنة الطائفية، الشيعية السياسية، والسنية السياسية، الفيدرالية والتقسيم وما بينهما، الهويّة والمواطنة، فإنه يذهب لمناقشة موضوع الجهاد بكل توازن وموضوعية، حيث يرفض الجهاد الابتدائي لأنه مخالف للقوانين الدولية (والذي يعني شنّ الحرب)، وهو استعادة موروثة من السلف، بينما وافق على فكرة الجهاد الدفاعي عن النفس والأرض، وهو ما يتوافق مع النصوص والقوانين الدولية، وبذلك يكون شعبان قد فسّر النصوص القرآنية تساوقاً مع روح العصر، فالجهاد في القرآن له مفهوم أوسع وأشمل من مفهوم القتال: الجهاد قد يكون بالعمل، بالفكر، بالكلمة، بالتبرعات.. إلخ، كما في قوله عز وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ). (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا). إذن الجهاد لا يعني القتال، وليس محصوراً بمفهوم القتال من أجل إكراه الناس على اتباع دين معين أو الإيمان بالله (لا إكراه في الدين) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا). إذن يمنع الله في كتابه القتال من أجل الدخول في الإسلام، ويسمح به بشروط محددة من أجل الدفاع عن الوطن والحق ومنع الظلم، فالله لا يرضى أن يُظلم إنسان واحد على وجه الكرة الأرضية حتى وإن كان كافراً، والآيات كثيرة على ذلك: (كُتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون). أحياناً يكره المرء أن يبدأ بقتال العدو، وقد يكون تأجيل قتاله أمراً مضرّاً كما حدث في فلسطين مع العدو الإسرائيلي-الصهيوني، لو اتفق العرب على قتال هذا العدو منذ البداية لما استفحل اليوم شره. كذلك الخائن، فهو عدو داخلي يجب وقف ضرره قبل أن يؤذي الناس. ثم ذكر الله بعد ذلك مباشرة السلم والسلام (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم)، إذن لا داعي للقتال أو استمراره إذا تم الحل عن طريق السِلمْ، وهذا ما يحدث عادة بين الدول اليوم. العدو عند الله هو العدو عند الإنسان ألا وهو الطغيان.. والعدو قد يكون مسلماً يريد سرقة أرضك، لهذا فهو عدوك وجبت محاربته، ومحاربة العدو تستلزم الاستعداد كما يحدث في جميع دول العالم: (وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون بها عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)، إذن يجب إرهاب العدو الظالم إن كان يؤمن أو لا يؤمن، إن كان مسلماً أو غير مسلم.. وبعد الاستعداد للقتال تأتي الآية الكريمة التي تأمر بالعدل حتى مع العدو (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)، (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله)، إذن فالله يدعونا لأن نتقي الله في عباده، وأن نطبق قواعد الأخلاق مع العدو (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)، في سبيل الله أي في سبيل الحق وضد الطغيان، فالعدو هو الطغيان، لذلك أمرنا الله بقتال الطغاة الذين يقاتلوننا كي لا يغتصبوا حقوقنا، وليس القتال -كما أفهم- من أجل إجبار الآخرين على الإيمان بالله. الآيات كثيرة في القرآن التي توضح الفرق بين الجهاد والقتال، وقد نظمت الفروق المؤسسات الدولية واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقاها لعام 1977، والتي لا تمنح الحق لأي طرف بالاعتداء على سيادة دولة أخرى، وهذا ما سعى إليه المفكر شعبان وعمل على إبراز أهمية السلام واللّاعنف، وتنقية المفاهيم الإسلامية من جميع شوائب الماضي والحاضر ونبذ التطرف. حامل الشعلة التنويري شعبان هو أيضاً رجل حقوقي يعرف كيف يعكس نور القرآن على القوانين الدولية، وكيف يقيس أهداف القوانين الدولية بمقاييس السلام الذي هو في النهاية غاية الإسلام الذي يستند على رسالة الحق والعدل، وعلينا نحن البشر أن نختار الوسائل الشريفة والعادلة وصولاً إلى الغايات، ولا يمكن أن يكون العنف هو الوسيلة الحقة لتحقيق غايات شريفة. وكان روبن هود يسرق ليُطعم الفقراء، فهل الغاية الشريفة لروبن هود تبرر وسيلته الخاطئة؟ واليوم هناك من يسرق باسم الفقراء، فهل وسائلهم القانونية تبرر غاياتهم الجشعة والظالمة؟ لذلك لا بدّ من ربط الوسيلة بالغاية، ومن يُدرك هذه الحقيقة أكثر من المفكر الفذ، فقيه الواقع والملم بخبايا النفوس وما بين سطور القوانين، الدكتور عبد الحسين شعبان؟ إن صداقتي مع د.شعبان وحواراتنا المختلفة، جعلتني أقترب أكثر وأكثر من مخاوف شعبان وقلقه، في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة، على مصير الأمة العربية والإسلامية، لذلك نراه لا يكل ولا يمل من الدفاع عن ضرورة عدم الاكتفاء بالنصوص وفسح المجال أمام التجربة والعقل البرهاني، والبحث في سببية الأمور وعدم التوقف عند الفاعل فقط، لأن ذلك سيعطل الاجتهاد، ليس فقط في الدين، وإنما أيضاً في اللغة والعلم. لقد عرفت شعبان إنساناً راقياً، صديقاً حاضراً ومفكراً حاسم الرأي، وبخاصة فيما يتعلق بتحرير العلم، وتوظيف المعرفة والعلم لتعميق الإيمان وتفعيل دور الدين المهم في المجتمع. إن شعبان شخصية استثنائية تعرف كيف تضع العقل والدين في كفتين متوازيتين لإدراكه بعلاقتهما الأزلية التي مازالت تبحث عن التوازن. شكراً لك أيها المفكر الكبير على عطائك الذي لا ينضب.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جيل الستينيات: رؤية جديدة
-
البارزاني ثلاث مفارقات وثلاثة دروس... وثمة ذاكرة
-
قطر بين فاعلية القانون الدولي وتفعيله
-
الثقافة مزهرة من بغداد إلى بغداد
-
أرادنا نسخة أفضل من أنفسنا
-
عودة إلى -مزرعة الحيوانات-
-
لا نقول وداعًا إنما نقول اشتياقًا - محمد بن عيسى: للحياة مع
...
-
نموذج المفكر الراقي.. نموذج الفكر النشط
-
داوننغ ستريت ووعد بلفور
-
الإنسان والمفكر
-
صفاء الحافظ وصباح الدرّة: دائرة النسيان ودائرة الضوء
-
المفكّر عبد الحسين شعبان.. نظرة شخصيّة
-
عبد الحسين شعبان لجريدة المستقل: أنا حزين وحزني لا يعادله ثق
...
-
مبادرة -أوجلان- تاريخية... والكرة الآن في ملعب الأتراك
-
الهوّية وأدب المنفى
-
شعبان.. من ثِمارِه تعرفونه
-
سناء شامي: في تقريظ كتاب -دين العقل وفقه الواقع-
-
أمسية البنفسج
-
فيض فكري في عصر القحط الثقافي
-
عبد الحسين شعبان ونظريته في تعظيم المشتركات
المزيد.....
-
تشمل الفنتانيل وتيك توك.. نظرة على مكونات الاتفاق التجاري ال
...
-
هآريتس: الجيش الإسرائيلي يرمي نفايات الأنقاض والبناء في قطاع
...
-
3 قتلى بغارات إسرائيلية على لبنان ومبعوثة ترامب تستطلع الحدو
...
-
رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري يستقبل وزير خارجية جيبوتي
...
-
انتخابات تشريعية بالأرجنتين تحدد مستقبل الرئيس الليبرالي
-
محاكم غزة تكتظ بقضايا الوصاية وإثبات الوفاة بعد حرب الإبادة
...
-
المباني الآيلة للسقوط تنذر بخطر داهم على الغزيين في غياب الإ
...
-
مهمة البحث المستحيلة في ركام غزة
-
هل تتحول القوة الدولية في غزة إلى صراع جديد؟
-
مصادر إسرائيلية: واشنطن تسعى للانتقال إلى المرحلة الثانية حت
...
المزيد.....
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
المزيد.....
|