أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم برسي - تفكيك الذهنية الجهادية للجبهة الإسلامية القومية… أخطر تنظيمٍ إرهابيٍّ في القارة الإفريقية















المزيد.....

تفكيك الذهنية الجهادية للجبهة الإسلامية القومية… أخطر تنظيمٍ إرهابيٍّ في القارة الإفريقية


ابراهيم برسي

الحوار المتمدن-العدد: 8505 - 2025 / 10 / 24 - 04:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


توطئة:

كل أمةٍ تخلق أساطيرها حول الخلاص، لكن حين تتحوّل تلك الأساطير إلى مؤسساتٍ أمنية، يبدأ زمن الرعب…
في السودان، حملت الجبهة الإسلامية القومية اسم الله على راياتها، وحملت السلاح باسم الشريعة، فابتلعت الدولة والناس والذاكرة.
لم تكن تجربتها مجرد انقلابٍ على السلطة، بل مشروعًا لاهوتيًا متكاملًا، صاغته عقولٌ اعتقدت أن الله يحتاج إلى حزبٍ يحكم باسمه. هكذا تحوّل الإيمان إلى سياسة، والسياسة إلى حربٍ مقدسة، والوطن إلى مختبرٍ لتجريب الخلاص بالعقيدة.
بين الدعوة والسيف، وبين المنبر والسجن، وُلد نظامٌ هو الأخطر في تاريخ السودان الحديث، لا لأنه استبداديٌّ فحسب، بل لأنه لبس وجه التقوى ليبني من تحته إمبراطورية الخوف… ومن هنا يبدأ تاريخ الجبهة الإسلامية القومية – التاريخ الأسود الذي لم يُحاكم بعد.

لم تكن الجبهة الإسلامية مجرّد حزبٍ يسعى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، بل كانت منذ تأسيسها مشروعًا شموليًا لإعادة هندسة المجتمع والدولة والعقل العام معًا.
ومنذ انقلاب 30/6/1989 الذي حمل عمر حسن أحمد البشير إلى الحكم بترتيبٍ دقيق صاغه حسن الترابي، وُلدت في الخرطوم دولةٌ بوجهين: وجهٌ رسميّ بوزاراتٍ ومجالس وبياناتٍ إذاعية، ووجهٌ خفيّ يمتد عبر جهاز الأمن والمخابرات، وهيئاتٍ حزبية ظلّية، وشبكات رجال أعمال ومصارف وواجهاتٍ خيرية ودعوية وطلابية، وأذرعٍ عسكريةٍ وشبه عسكريةٍ وآلةٍ إعلاميةٍ تتقن صناعة “الخطاب المقدّس” لتبرير العنف.

في هذا العالم السفلي، تناوبت أسماء مثل حسن الترابي، علي عثمان محمد طه، نافع علي نافع، صلاح عبدالله “قوش”، عوض الجاز، بكري حسن صالح، عبد الرحيم محمد حسين، أحمد هارون، والطيب إبراهيم “سيخة” على إدارة ما يمكن تسميته بـ”المركّب الإسلاموي – الأمني” الذي دمج الحزب بالدولة، والدين بالسلطة، والاقتصاد بالسلاح.
لم يكن الأمر مجرد تنظيمٍ سياسي، بل “نظامًا عقائديًا مؤسسيًا” يدير الولاء كعملةٍ سياسية، والخوف كأداة حكم، والإيمان كسلاحٍ نفسي طويل المدى.

في قلب هذا المركّب، تشكّلت العلاقة الأخطر: علاقة السودان بتنظيم القاعدة، حين انتقل أسامة بن لادن إلى الخرطوم بين عامي 1991 و1996، وأسس شبكة شركاتٍ واجهة مثل “وادي العقيق” و”الهجرة للإنشاء” و”طابة”، وتعامل مع مؤسساتٍ مصرفيةٍ أبرزها بنك “الشمال الإسلامي”.
تحرّك بن لادن بحريةٍ نسبية في مشروعات المقاولات والزراعة والطرقات، وبنى اتصالاتٍ مع عناصر مصرية وجزائرية ويمنية. كان السودان آنذاك أشبه بـ”المنطقة الرمادية” التي تلتقي فيها الدعوة بالدم، والتجارة بالتمويل العقائدي.

تحت المظلة السياسية والأمنية للجبهة الإسلامية، ازدهرت شبكاتُ المال والسلاح والمعلومات. سمح النظام بوجود بيئةٍ آمنةٍ لتنظيمٍ كان ينقل رجاله ووثائقه عبر الخرطوم وجوبا وكوستي وبورتسودان، ويمرّ عبر كسلا والقضارف نحو الحدود الإريترية والإثيوبية، مستفيدًا من ضعف الرقابة على البحر الأحمر. لم يكن “إيواءً عابرًا” كما زعم الإسلاميون لاحقًا، بل تعاونًا لوجستيًا ورقابيًا مُمنهجًا… تغاضٍ قانونيّ مقصود هدفه توظيف الجهاد الدولي لخدمة مشروع الحكم المحلي.

في تلك السنوات، اختفى الفاصل بين “الدعوي” و”العنيف”. الدولة نفسها تحوّلت إلى ماكينة تعبئةٍ جهادية. صُنّعت أذرعٌ مسلحة تابعة للنظام ظاهرًا، لكنها في حقيقتها تنتمي للحركة الإسلامية عقيدةً وتنظيمًا: “الدفاع الشعبي”، “المجاهدين”، “الأمن الشعبي”، ثم لاحقًا “الجنجويد” الذين ظهروا في شمال دارفور بقيادة موسى هلال. كانت هذه الميليشيات أدواتٍ عقائدية تُدار بخطابٍ دينيّ صريح عن “الجهاد الداخلي”، لتسحق التمرّدات في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.

ومنذ عام 2003، تحوّلت دارفور إلى جرحٍ مفتوح في الجسد السوداني. مدن مثل الفاشر ونيالا والجنينة وزالنجي وكُتُم والطينة شهدت عمليات “الأرض المحروقة” و”التهجير القسري” و”الاغتصاب الجماعي” و”تجنيد الأطفال”. وثّقت هذه الجرائم لجان الخبراء الأممية وتقارير “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”.
بعض القادة وُضعوا تحت العقوبات الدولية، وآخرون – كعمر البشير، أحمد هارون، وعلي كوشيب – صدرت بحقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

لكن الجبهة الإسلامية لم تكن تقتل فقط داخل حدودها. فقد مدّت خطوط تسليحٍ وعبور نحو قطاع غزة عبر ممراتٍ امتدت من شرق السودان إلى سيناء.
في عام 2009 استهدفت طائراتٌ مجهولة قوافل يُعتقد أنها كانت تنقل شحنات سلاح إلى حركاتٍ فلسطينية. وفي عام 2012 ضُرب “مجمع اليرموك للصناعات العسكرية” في الخرطوم، الذي وصفته تقارير استخبارية بأنه مركز لتجميع أو تمرير القدرات العسكرية إلى “حماس”. هذه الشبكات اللوجستية مرّت عبر بورتسودان وحلايب وشلاتين، وتقاطعت مع معلوماتٍ عن وجود ضباط ارتباطٍ من الحرس الثوري الإيراني في فتراتٍ مختلفة، قبل أن تتبدّل التحالفات بعد انفتاح النظام على الخليج.

لم تكن تلك العلاقات المعقدة مع القاعدة وحماس معزولة؛ فقد ربطت الجبهة الإسلامية نفسها بجماعاتٍ موازية في القارة الإفريقية والآسيوية. “حركة الشباب” في الصومال، التي خرجت من عباءة اتحاد المحاكم الإسلامية وأعلنت مبايعتها للقاعدة، شكّلت اقتصادًا حربيًا على التهريب والضرائب ونفّذت تفجيرات في مقديشو ونيروبي وكمبالا. وفي نيجيريا، تحوّلت “بوكو حرام” من جماعةٍ دعوية إلى تنظيمٍ مسلح أعلن بعض أجنحته مبايعة “داعش” تحت اسم “ولاية غرب إفريقيا”، واستخدم الخطف والذبح والتفجير ضد المدارس والكنائس.

لم يكن السودان غرفة عملياتٍ لهذه الجماعات، لكنه كان نموذجًا مُلهمًا لما يمكن أن تفعله “الدولة المؤدلجة” حين تمسك بكل مفاتيح القوة: الحزب، الاقتصاد، الأمن، الإعلام، والفتوى. ومن هنا انتقلت عدوى النموذج إلى هوامش إفريقيا وآسيا، حيث الهشاشة المؤسسية ووفرة المظالم تُغذّي الخطاب الجهادي العابر للحدود.

في الداخل، استخدمت الحركة الإسلامية الجامعات والنقابات والمساجد كحقول تجنيدٍ وتأطير. شهدت جامعات الخرطوم والجزيرة وعطبرة وشندي موجات عنفٍ طلابيّ دموي، أدارتها “الوحدات الجهادية” و”الأمن الطلابي” و”كتائب الظل”، وأُديرت الشبكات عبر “الأسر التنظيمية” المغلقة. كان الطلاب يتلقّون “دروس التعبئة” التي تمزج بين العقيدة العسكرية والنصوص الفقهية… وكانت المساجد تتحول مساءً إلى غرف تعبئة فكرية ليلتحق الشباب بمعسكرات الدفاع الشعبي.

اقتصاديًا، تمدّد رجال الأعمال المحسوبون على النظام في قطاعات النفط والذهب والمقاولات والاتصالات واللحوم المبرّدة والنقل النهري والبري. شركات مثل “جياد”، “صافات”، “زادنا”، “اليرموك”، و”سيتي بنك المحلي” كانت واجهاتٍ بين الاقتصاد الرسمي وشبكات التمويل السياسي والشراء العسكري. دارت الأموال عبر مصارف “فيصل الإسلامي” و”الشمال الإسلامي” وشركات الصرافة والجمعيات الدعوية التي مارست غسيل الأموال تحت غطاء الزكاة والبرّ. إنه اقتصاد ظلٍّ متكامل، يحكمه الولاء ويُكافئ الطاعة.

أما الحقل الاستخباراتي فكان العمود الفقري للمركّب الإسلاميّ. صلاح قوش، نافع علي نافع، محمد عطا، وغيرهم، شكّلوا بنية أمنية تولّت الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، كما أدارت “الحروب بالوكالة” في الأطراف. المفارقة أنّ هذا الجهاز تعاون لاحقًا مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في ملفات “مكافحة الإرهاب” بعد عام 2001، في الوقت الذي واصل فيه تغذية خطوط اتصالٍ مع جماعاتٍ مصنّفة إرهابية.
لقد أتقن الإسلاميون لعبة “الازدواجية”: خطابٌ براغماتي للخارج، وخطاب تعبويّ للداخل يشرعن القمع والقتل.
المدن السودانية كانت شاهدةً على هذا الازدواج… الخرطوم بأحيائها الراقية – الرياض، الطائف، المنشية، كافوري – احتضنت الاجتماعات الكبرى للقيادات.
أم درمان كانت معسكر التعبئة الأضخم قرب كرري وجبل أولياء. بورتسودان كانت الميناء الذي عبرت منه الأسلحة والذهب والبشر، وكسلا والقضارف كانتا بوابتي القرن الإفريقي. في دارفور، كانت الفاشر ونيالا مركزَي القيادة والتموين، والجنينة على الحدود الغربية شاهدًا على المذابح. وفي جبال النوبة والنيل الأزرق، كانت كادوقلي والدمازين والكرمك مسارح لحروبٍ “مقدّسة” ضد المواطنين الذين لم يشاركوا الولاء العقائدي ذاته.

إنّ الطابع الإرهابي للجبهة الإسلامية القومية لا يُختصر في السلاح الذي حملته، بل في “المنظور العقائدي” الذي أدار به قادتها علاقتهم بالعالم. فقد اعتبروا الدولة ملكًا لله، والحاكم نائبًا عنه، والمجتمع مادّةً قابلة لإعادة التشكيل.
هذه الفكرة البسيطة ظاهريًا كانت كافية لتحويل كل اختلافٍ سياسي إلى “ردّة”، وكل معارضة إلى “فتنة”، وكل حربٍ إلى “جهاد”. بهذا المنطق، صار القمع عبادةً، والفساد وسيلةً، والكذب مصلحةً شرعية.

من هنا يمكن فهم كيف تماهت أجهزة الدولة السودانية مع أنماط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. فـ”الجهاد” لم يكن شعارًا تعبويًا فحسب، بل “هندسة نفسية متكاملة”: تجريد الآخر من إنسانيته، وتصوير الحرب كاختبارٍ إيماني، وخلق سرديةٍ خلاصية حول “التمكين”.
هذه الأبوكاليبسية السياسية – أي الإيمان بأن العالم في معركةٍ نهائية بين الحق والباطل – منحتهم شرعيةً رمزية لتدمير كل ما يخالفهم، باسم الله أو الوطن أو الأمة.

على مستوى الأفعال، يمكن تتبّع الخيط الدموي للجبهة الإسلامية في عشرات الحوادث التي لا تسقط بالتقادم: محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 التي شارك فيها ضباط من الأمن السوداني، والتفجيرات التي ضربت القاهرة في التسعينات وكانت على صلة بعناصر مصرية مرّت عبر السودان، وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، وضربة قوافل بورتسودان عام 2009، وانفجار “مجمع اليرموك” عام 2012 الذي لم يكن سوى رأس جبل الجليد لشبكة السلاح الممتدة بين الخرطوم وسيناء وغزة.

تُظهر هذه الوقائع، الموثقة في تقارير أمنية دولية ومحلية، أنّ السودان لم يكن مجرّد حاضنةٍ فكريةٍ للتطرف، بل شريكًا فعليًا في بنيته اللوجستية. ما فعله الترابي والبشير ورفاقهما هو أنهم أسّسوا لما يُعرف في دراسات الإرهاب بـ”الدولة الموازية”، أي نظامٌ رسميّ يُخفي داخله منظومةً ظلّية تُمارس الإرهاب عبر أدوات الدولة ذاتها. لم يكن الأمر كما في طالبان أو داعش، حيث التنظيم يسيطر على الأرض ثم يقيم الدولة، بل العكس: الدولة نفسها تحوّلت إلى تنظيم.

ومن المفارقات أن النظام الذي صنع هذا المركّب العنيف هو ذاته الذي قدّم خدماتٍ استخباراتية لواشنطن بعد 11/9/2001، زاعمًا أنه حليفٌ في “الحرب على الإرهاب”. في ذلك الوقت، كان صلاح قوش يجلس في اجتماعاتٍ مغلقة مع وكالة المخابرات الأمريكية، بينما كانت أذرع النظام تموّل وتدرّب كتائب “الدفاع الشعبي” في أطراف دارفور. هذا التناقض لم يكن صدفة، بل سياسة مدروسة لإطالة عمر النظام عبر اللعب على تناقضات العالم: تقديم نفسه كحائط صدٍّ ضد الإرهاب الخارجي، في الوقت الذي يمارس فيه إرهابًا داخليًا مؤسسيًا.

في الاقتصاد، امتلكت الجبهة الإسلامية ما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد العقائدي”، أي منظومة مالية تحوّل المال إلى أداة تعبئةٍ وحمايةٍ سياسية. هذا الدمج بين المال والدين والدولة شكّل ركيزة المشروع الإسلاميّ، وجعل الاقتصاد أداةً للهيمنة لا للتنمية.

أما في المجال الثقافي والإعلامي، فقد أدرك الإسلاميون باكرًا أن السيطرة على “اللغة” لا تقل أهمية عن السيطرة على “الجيش”. أنشأوا أذرعًا إعلامية ضخمة، صحفًا وقنواتٍ وإذاعاتٍ أعادت صياغة المفردات العامة. صارت كلمات مثل “التمكين”، “الجهاد”، “الشريعة”، “الولاء”، “الطاعة”، تُستعمل لتجميل العنف وتخدير الضمير الجمعي. وفي الجامعات والمدارس، جرى “أسلمة المناهج” وتحويل التاريخ والفكر إلى أدوات دعاية. بذلك، لم تعد المساجد فقط منابر تعبئة، بل صارت الفصول الدراسية أيضًا ساحات استقطاب.

التحليل النفسي للحركة يكشف عن جذورٍ أعمق: “الاستلاب الجمعي” الذي يجعل الفرد يذوب في الجماعة بحثًا عن معنى. هذا الذوبان ينتج شخصيةً لا تعرف الشكّ ولا النقد، تتغذّى على الخوف من الخارج وعلى الشعور بالاختيار الإلهي. حين تتحول العقيدة إلى درعٍ نفسي ضد القلق الوجودي، يصبح العنف ضرورةً لتثبيت الذات. ولهذا لم تكن فظائع دارفور أو جبال النوبة أو جنوب السودان مجرد تجاوزاتٍ عسكرية، بل أعراضًا مرضية لنظامٍ يرى في الدم برهانًا على الإيمان.

ولأن الإرهاب لا يعيش بلا مالٍ ولا غطاءٍ سياسي، فقد صنعت الجبهة الإسلامية شبكة علاقاتٍ تمتد من الخليج إلى تركيا إلى ماليزيا. رجال أعمالٍ سودانيون وإسلاميون عرب، مثل يوسف عبد الفتاح، عوض الجاز، وآخرين أقل شهرة، أسّسوا شركاتٍ واجهة في كوالالمبور والدوحة ودبي وأنقرة، استخدمت لغسل الأموال وتمويل العمليات. بعض هذه الشركات ارتبط بمصارف إسلامية مثل “فيصل”، و”السلام”، و”البركة”، وبعضها بواجهاتٍ خيرية مثل “منظمة الدعوة الإسلامية” و”الوكالة الإسلامية للإغاثة”، التي أُدرج بعضها على قوائم المراقبة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

تضافرت هذه الشبكات مع تحالفاتٍ استخباراتيةٍ غامضة. فإيران، التي كانت تمد الخرطوم بالسلاح والخبراء في التسعينات، وجدت في السودان حليفًا ضد الحصار الدولي. وقطر، التي استثمرت في مشاريع زراعية ومصرفية ضخمة، استخدمت بعض واجهاتها الإعلامية لتلميع صورة النظام. أما تركيا، فقد قدّمت نفسها لاحقًا كملاذٍ آمنٍ للإسلاميين بعد سقوط البشير، حين لجأ بعض قادتهم إلى إسطنبول، حيث تدير اليوم واجهاتٍ إعلاميةً ناطقة بالعربية تمجّد الماضي وتُبرّر الحاضر.

هذا كله يُكوّن مشهدًا لا يمكن تفسيره إلا بوصفه “منظومة إرهابية مُعولمة”، تمتلك رأسًا عقائديًا في الخرطوم، وأذرعًا مالية في الخليج، وأصابع إعلامية في إسطنبول، وأجنحةً قتالية في دارفور وشرق السودان. لذلك فإنّ تصنيف الجبهة الإسلامية القومية كمنظمة إرهابية ليس مجرد مطلبٍ سياسي، بل استحقاق قانوني وأخلاقي. فالعناصر المكوّنة للتصنيف – من استخدام العنف ضد المدنيين، وتوفير الدعم المادي واللوجستي للتنظيمات الإرهابية، وامتلاك هيكلٍ تنظيمي ومالي موازٍ، إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية – كلها متحققة بوضوح في سجلّهم.

ما يضاعف خطورتهم هو قدرتهم على “إعادة التوليد”. فبعد سقوط البشير عام 2019، لم تختفِ الحركة بل أعادت تموضعها داخل أجهزة الدولة وفي خطوط الحرب الجديدة التي اندلعت عام 2023 بين الجيش والدعم السريع. ظهرت من جديد كتائب ذات طابع عقائدي تحمل أسماء مثل “البراء بن مالك” و”اليرموك”، وشبكات خيرية توزّع المعونات في مناطق سيطرة الجيش وتبث خطاب الولاء، في إعادة إنتاجٍ دقيقةٍ للآليات التي حافظت على سلطتهم ثلاثة عقود.

المدهش أن النظام الدولي، رغم وفرة الأدلة، ما زال يتعامل مع هذه الشبكة ككيانٍ سياسي يمكن التفاوض معه… لكنّ كل الوقائع تؤكد أن “الاستمرارية البنيوية” بين الإنقاذ القديمة وما تبقّى منها اليوم تُحتم إعادة النظر. فالتصنيف الإرهابي ليس شعارًا انتقاميًا، بل أداةٌ لتفكيك بنيةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ تعيد إنتاج العنف باسم الدين. من دون ذلك، سيبقى السودان رهينة دائرةٍ مغلقةٍ من العنف المؤدلج الذي يتبدّل وجهه دون أن يتغيّر جوهره.

ولعل السؤال الأعمق هنا ليس: “هل الجبهة الإسلامية إرهابية؟” بل: “كيف تحوّلت دولةٌ كاملة إلى ذراعٍ من أذرع الإرهاب؟” الإجابة تبدأ من لحظةٍ واحدةٍ في 30/6/1989، حين أُطفئت أنوار الديمقراطية باسم الله، واستُبدلت مؤسسات الدولة بواجهات الولاء، وبدأت ماكينة العقيدة تلتهم الإنسان والمكان. منذ ذلك اليوم، لم يكن السودان يُحكم بجيشٍ أو حزب، بل بعقيدةٍ أمنيةٍ مطلقة ترى في الخوف وقودًا للسلطة، وفي الطاعة غايةً للوجود.

إنّ إدانة الجبهة الإسلامية لا تعني فقط محاكمة قادتها أمام المحاكم الدولية، بل تعني أيضًا تفكيك البنية الذهنية التي سمحت لمثل هذا المشروع أن يعيش عقودًا. فالقضية ليست في الأشخاص بل في “الفكر الذي قنّن الجريمة”، و”اللغة التي زيّنت القتل”، و”الاقتصاد الذي موّل الاستبداد”. ما لم يُفتح هذا الملف بجرأة، وما لم يُوضع اسم الجبهة الإسلامية القومية وشبكاتها على قوائم الإرهاب الدولي، سيظل السودان يدور في فلك المأساة ذاتها، من انقلابٍ إلى آخر، ومن دمٍ إلى دم.

واليوم، بعد كل هذا الفقد العظيم، لا يكفي أن نقول “كفى”، بل يجب أن نُسمّي الجناة بأسمائهم، ونُدرج تنظيمهم في قوائم الإرهاب، لا كعقوبةٍ بل كتحريرٍ للوعي من صورته المتحوّلة في الذاكرة الجمعية. إنه مطلبٌ إنساني لحماية المستقبل. فالأيديولوجيا التي جعلت من الله شريكًا في القمع، ومن الوطن مؤسسةً لإنتاج الطاعة على المقاس، لا تزال تعيد إنتاج نفسها في الخطاب وفي الميليشيا وفي السوق، كأنها لم تشبع بعد من خراب الروح والذاكرة.

لكنّ العدالة لا تنام إلى الأبد… وإن تأخّرت المحاكم، فثمة ضمائر تحفظ الأسماء كما تحفظ الأرض أسماء شهدائها. سيبقى هذا الملف مفتوحًا إلى أن تُذكر الأسماء كما تُذكر التواريخ، ويُكتب على جدار الوعي السوداني: “هنا سقطت دولةٌ باسم الله، وقام شعبٌ باسم الإنسان.”



#ابراهيم_برسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإخوان المسلمون: خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (5)
- من البروليتاريا إلى الكومنتاريا: الثورة التي غيّرت أدواتها
- الإخوان المسلمون: خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (4)
- الإخوان المسلمون: خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (3)
- الإخوان المسلمون: خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (2)
- الإخوان المسلمون: خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي ( 1 )
- الأثر الثقافي للجاليات العربية بدول المهجر، العرب في أسترالي ...
- وداعًا زياد… أيها الغريب الذي يشبهنا أكثر من أنفسنا
- ملامح الشكلانية في الأدب السوداني
- “ماركيز ونفي المطلق: هل يعيد السرد إنتاج المقدس؟-
- صراع المعاني بين الرصاصة والخطاب: حين يتهاوى العقل الدولي
- في حضرة اللهب: الهيمنة تخلع قناعها النووي… والخليج يشتري الأ ...
- في حضرة الوحشية: رثاء الكائن الذي لم يكتمل قراءة في كتاب أشي ...
- عملية “الأسد الصاعد”: الضربة الإسرائيلية الكبرى
- صوتٌ بلا أثر… وعيٌ بلا أفق: المثقف وأزمة الفعل المؤجل
- نغوجي واثيونغو، الذي كَتَب كما يُكتب اللهب… وظلّ نبيًّا بلا ...
- من السجود إلى السيادة: انحناءة الشكل على خراب الجوهر
- بين كامل إدريس و اللا كامل…. ربطة العنق التي لم تُقنع مجلس ا ...
- حين ينعى الفقراء أحدهم، فإنهم يطرقون الأرض بأقدامهم، لا بأصو ...
- نحن والحمير في المنعطف الخطير: صمت الحواف حين يهزم صوت الطري ...


المزيد.....




- الملك تشارلز والملكة كاميلا ينضمان إلى البابا في صلاة تاريخي ...
- 15 دولة إسلامية تدين مصادقة الكنيست على ضم الضفة لإسرائيل
- دول ومنظمات عربية وإسلامية تدين مصادقة الاحتلال على مشروعي ق ...
- لأول مرة منذ 500 عام.. الملك تشارلز في زيارة تاريخية للقاء ا ...
- -حدث تاريخي وغير مسبوق-.. أول ملك بريطاني منذ 5 قرون يصلي مع ...
- متى موعد عيد الفطر 2026/1447؟ وكم عدد أيام الإجازة بالدول ال ...
- -حدث تاريخي-... البابا ليون الرابع عشر والملك تشارلز الثالث ...
- السودان.. كتيبة البراء -الإخوانية- تعود للتحشيد
- أخر تحديث لـ تردد قناة طيور الجنة الجديد TOYOUR EL-JANAH KID ...
- إدانة عربية وإسلامية ودولية واسعة لقوانين الاحتلال لضم الضفة ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم برسي - تفكيك الذهنية الجهادية للجبهة الإسلامية القومية… أخطر تنظيمٍ إرهابيٍّ في القارة الإفريقية