ابراهيم برسي
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 16:12
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
منذ أن خطا المهاجرون العرب أوائل خطواتهم على أرض أستراليا في القرن التاسع عشر، بدأت رحلة طويلة لتشكيل ذاكرة جديدة تضاف إلى الذاكرة الأسترالية المتعددة. جاء أوائلهم تجّاراً جوّالين من بلاد الشام في ثمانينات القرن التاسع عشر، يحملون على ظهور الجياد والبغال صناديق قماش ومجوهرات بسيطة، يتنقّلون بين القرى الأسترالية النائية، ويبيعون ويشترون بالكلمة والإشارة حين تعجز اللغة. في الوقت نفسه، دخل “الجمالة” المسلمون من آسيا الوسطى وجنوب آسيا مع قوافل الإبل إلى الداخل الأسترالي، فحفروا دروباً في الصحراء وأسسوا مسجداً في أديلايد سنة 1888، فاتحين باباً مبكراً لحضور الإسلام وثقافة الشرق. لكن الغالبية من هؤلاء العرب الأوائل ذابوا سريعاً في المجتمع الأسترالي بفعل العزلة العددية وقسوة سياسة “أستراليا البيضاء”، ففقدت الأجيال اللاحقة شيئاً من لغتهم الأولى وتحوّلوا إلى مجرد “سوريين” في الأوراق الرسمية، أو “أتراك” بحكم انتمائهم القديم للإمبراطورية العثمانية.
ثم جاءت مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين حملت البواخر مهاجرين مصريين، كثير منهم من الأقباط، تزامناً مع صعود الناصرية وتوترات المنطقة. في الستينات بدأ تفكيك سياسة “أستراليا البيضاء”، فانفتح الباب أوسع أمام العرب. ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 تدفقت موجة كبرى غيّرت وجه ضواحي سيدني وملبورن، حيث صارت مناطق مثل لاكمبا وبنكستاون وبروودميدوز فضاءات تتكلم بالعربية بلهجات مختلفة. العراقيون بدورهم وصلوا أفواجاً بعد حروب الخليج وقمع النظام البعثي، والسودانيون، شماليون وجنوبيون، جاؤوا بكثافة منذ التسعينات مع تصاعد الحرب الأهلية في بلدهم. ومع بداية القرن الجديد، حملت موجات اللاجئين من العراق وسوريا وجنوب السودان إلى المدن الأسترالية قصص الحرب واللجوء، وتحولت فيرفيلد وباراماتا ودندينونغ إلى مراكز تعجّ بالأسواق العربية والكنائس القبطية والمساجد والمراكز الثقافية.
لم يكن الفلسطينيون والسوريون بعيدين عن هذا المشهد. فمنذ الأربعينات والخمسينات، وصل فلسطينيون هاربون من النكبة، حاملين معهم حكايات الخسارة والاقتلاع، ومؤسسين جمعيات وروابط طلابية وثقافية في سيدني وملبورن. أما السوريون، فقد ظلوا يحضرون على فترات متقطعة، خاصة مع موجة الحرب الأهلية السورية بعد 2011، حيث استقر الآلاف في أحياء ضواحي غرب سيدني، جالبين معهم تراثاً من المطبخ والموسيقى الشعبية والرقص الجماعي، وملتحقين بشبكات أكبر من الجاليات العراقية واللبنانية. هذه الإضافات جعلت الفضاء العربي في أستراليا أكثر تعقيداً وغنى، حيث تتجاور فيه الذاكرة الفلسطينية مع الحنين اللبناني، والوجع السوري مع أصوات السودانيين وهم يبنون مؤسساتهم الجديدة.
وقد برز في هذا السياق أيضاً جهد أكاديمي وفكري مميز للدكتور عادل القصاص والدكتور عبد الخالق السر من الحالة السودانية، اللذين تناولا في أطروحاتهما لنيل الدكتوراه قضايا الهوية والدياسبورا، وعملا من خلال دراساتهما ومبادراتهما الثقافية كحلقة ربط بين المهتمين من المنظمات والجهات الحكومية وبين الجاليات العربية والأفريقية في أستراليا. ولديهما موقع على شبكة الإنترنت يعنى بهذه الشؤون، مركزاً على البعد الأفريقي، لكنه في الوقت نفسه يفتح أفقاً واسعاً للحوار بين الجاليات، ويُظهر كيف يمكن للمعرفة الأكاديمية أن تتحول إلى أداة عملية للتواصل والتأثير في الحياة العامة.
وإذا تجاوزنا سيدني وملبورن إلى مدن أخرى، نجد أن لبيرث في غرب أستراليا مجتمعاً عربياً متنامياً ارتبط منذ السبعينات بعمال النفط والهجرة المصرية والعراقية، ومعهم السودانيون الأقباط الذين أسسوا كنائس ومراكز ثقافية كانت جسوراً للاندماج مع بقية المجتمع. في أديلايد، حيث شُيّد أول مسجد في 1888، استقر لبنانيون وسوريون وواصلوا دورهم في التجارة والخدمات، بينما انتشرت الجالية القبطية السودانية في ضواحي مثل بلايمبتون، محافظة على مدارس الأحد وجوقات الكنيسة وفي الوقت نفسه منخرطة في سوق العمل المحلي. أما برزبن في كوينزلاند، فقد احتضنت أعداداً متزايدة من العراقيين والسودانيين منذ التسعينات، وبينهم مسلمون ومسيحيون على السواء، وأسهموا في الجامعات والمهن الطبية والتعليم. حتى المناطق الإقليمية مثل توومبا وأرميديل صارت محطات لاستقبال لاجئين سوريين وعراقيين وإيزيديين بعد 2014، فتحولت البلدات الصغيرة إلى فضاءات لتجارب اندماج فريدة، حيث يلتقي الريف الأسترالي بالثقافة العربية في المدارس والأسواق والمساجد والكنائس والمراكز المجتمعية. هذه الخريطة المتعددة تعكس أن الحضور العربي ليس حكراً على العاصمة أو المدن الكبرى، بل ممتد في النسيج الوطني بأكمله، وفيه يتجاور الأذان مع الأجراس، ويتقاسم المسلم والمسيحي واليزيدي والمندائي فضاءً واحداً من العيش المشترك.
هذا الحضور لم يكن مجرد أعداد، بل أثر ثقافي ملموس. العربية اليوم ثاني أكثر لغة غير إنجليزية في البيوت الأسترالية (1,4٪ من السكان بحسب تعداد 2021). في المدارس والجامعات، تُدرّس العربية ضمن برامج اللغات الحيّة، وفي الإعلام تبث إذاعة SBS برامج يومية بالعربية. في الأدب، كتب ديفيد معلوف روايات بديعة حملت قلق الهوية والتداخل بين المنابت، وطرحت رندا عبد الفتاح في رواياتها لليافعين أسئلة الحجاب والعنصرية والهوية المزدوجة. في الشعر، ارتفعت أصوات مثل سارة صالح التي صاغت تجربة اللجوء بلغة شعرية، وفي المسرح والسينما برزت أعمال مثل فيلم “زواج علي” (2017) الذي جسّد قصص الحب والهوية بين جدران الجالية العراقية في ملبورن. وفي الموسيقى، صارت أوتار العود على يد جوزيف تاوضروس تحاور الجاز الغربي وتفوز بجوائز أسترالية مرموقة، بينما لا تزال الدبكة اللبنانية والأغنية السودانية تُعرض على مسارح المهرجانات متعددة الثقافات، جاعلةً من الذاكرة الشرقية طقساً جماعياً في قلب المدن.
أما على صعيد الحياة العامة، فقد دخل العرب الأستراليون مجال السياسة والخدمة المدنية: ماري بشير، الحاكمة السابقة لنيوساوث ويلز، حملت جذوراً لبنانية، وستيف براكس، رئيس وزراء فكتوريا السابق، كان من عائلة لبنانية، فيما صارت آني علي، المولودة في مصر، أول امرأة مسلمة تدخل البرلمان الفيدرالي. هذه الأمثلة تعكس أن الهوية العربية يمكن أن تجد مكانها داخل البنية السياسية الأسترالية، ليس كمجرد أقلية منغلقة، بل كمكوّنٍ فاعل في صياغة السياسات.
ومع ذلك، لم تخلُ المسيرة من صعوبات. فقد تعرض العرب، خاصة بعد 11 سبتمبر 2001، لموجة من الصور النمطية السلبية والربط بالإرهاب، وشهدت بعض الضواحي مواجهات عنصرية. غير أن الثقافة قاومت تلك الوصمات عبر الإبداع الفني والمبادرات المدنية. ومن رحم هذه التجارب ولدت أجيال ثنائية اللغة والثقافة، ترى نفسها عربية وأسترالية في آن، وتختبر المعادلة الصعبة بين الخصوصية والانفتاح.
إذا قارنا العرب بجاليات أخرى كالطليان واليونانيين، نجد أن هؤلاء أسسوا نوادٍ ومؤسسات قوية منذ الخمسينات، بينما ظلّت المؤسسات العربية متفرقة وضعيفة نسبياً، متأثرة بانقسامات أوطانها الأصلية. ومع ذلك، يظلّ الحضور العربي في أستراليا اليوم أوسع وأكثر وضوحاً، من المقاهي الشعبية التي تفوح منها رائحة القهوة العربية والزعتر، إلى المكتبات التي تعرض كتباً بالعربية والإنجليزية، إلى الجامعات التي تخرّج كتّاباً وباحثين شباباً يسائلون معنى العيش بين عالمين.
ولا يمكن إغفال الصلات التاريخية التي ربطت أستراليا بالشرق العربي في زمن الحرب. الجنود الأستراليون الذين مرّوا بمصر ولبنان وسوريا خلال الحرب العالمية الثانية، حملوا معهم صوراً متناقضة: إعجاباً بالضيافة والدفء، وفي الوقت نفسه ارتباكاً أمام اختلاف العادات والثقافات. رسائلهم ومذكراتهم تشهد على أن العلاقة بين العرب والأستراليين لم تبدأ فقط بالهجرة الحديثة، بل سبقتها لحظات احتكاك كثيفة تركت أثراً في الخيال الأسترالي عن الشرق.
الثقافة، في النهاية، ليست مجرد نتاج فني أو لغوي، بل هي أيضاً تفاصيل الحياة اليومية: الزواج المختلط، طقوس رمضان، أعياد الميلاد في الكنيسة القبطية، مباريات كرة القدم التي يشجع فيها الشاب اللبناني أو العراقي أو الفلسطيني أو السوداني منتخب أستراليا بقدر ما يحنّ إلى فريق بلده الأم. هنا تتجلى الفلسفة العميقة للهجرة: أن تكون ابناً لثقافتين، وأن تصوغ من تضادهما نغمة جديدة.
الأثر الثقافي للعرب في أستراليا ليس زخرفة إثنية، ولا مجرد إضافة على جدار وطنيّ قائم، بل عملية بناء متواصلة. إنه حضور يتغذى على الذاكرة ويُعيد إنتاج نفسه عبر الفن والمطبخ والسياسة واللغة، بين الانفتاح والانغلاق، بين الحنين والاندماج. وكما قال فرانز فانون: “كل شيء يمكن شرحه للناس، بشرط واحد: أن تريد لهم أن يفهموا”. إن الجاليات العربية في أستراليا تكتب هذا الشرح بلغتها الخاصة، بالعود الذي يحاور الجاز، بالرواية التي تروي المنفى، بالطفل الذي يتعلم في المدرسة الإنجليزية لكنه يردّد في البيت “إن شاء الله”. هذه هي اللوحة التي يرسمها العرب في أستراليا: فسيفساء من ذاكرة وتحوّل، امتدادٌ لتاريخ طويل، وشهادة على أن الثقافة في المهجر ليست عبئاً ولا ترفاً، بل فعل مقاومة وخلق مستمر.
#ابراهيم_برسي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟