أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ابراهيم برسي - صوتٌ بلا أثر… وعيٌ بلا أفق: المثقف وأزمة الفعل المؤجل














المزيد.....

صوتٌ بلا أثر… وعيٌ بلا أفق: المثقف وأزمة الفعل المؤجل


ابراهيم برسي

الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 05:57
المحور: قضايا ثقافية
    


إبراهيم برسي

هناك لحظةٌ فارقة في مسيرة المثقف، لحظة لا تعلن عن قدومها، بل تتسلل عبر الهزائم الصغيرة والانتصارات المؤجلة، عبر الصمت الذي يتكاثف مثل غبارٍ على نوافذ اللغة، حتى يجد نفسه أمام سؤالٍ لا فكاك منه: هل أنا جزءٌ من الفعل، أم مجرد شاهدٍ على هزيمته؟ هل لا زلت أكتب لأُحدث أثرًا، أم لأتأكد فقط من أنني ما زلت حيًّا؟

المثقف ليس حامل أفكار فقط، بل حاملٌ لقلقٍ لا يسكن، لوعيٍ يتقاطع مع الزمن لا داخله. لكنه في عصرٍ تحكمه الصورة وتُعيد إنتاجه القوة، يجد نفسه في مأزقٍ لا يشبه أزماته القديمة. لم يعُد السؤال: كيف نُغيّر العالم؟ بل أصبح: هل لا يزال العالم يقبل بفكرة التغيير أصلًا؟

كتب إدغار موران: “الفكر الذي لا يربط بين الأشياء لا يرى شيئًا.” وهنا تتجلى المعضلة: المثقف المعاصر يملك ناصية التفكيك، لكنه يعجز عن التكوين؛ يجيد التحليل، لكنه لا يملك خيالًا سياسيًا يعيد تشكيل الأفق. كلّما ازداد وعيه بالانسدادات، كلما ترسّخ في موقع “الواصف” لا “الفاعل”، وفي أحيانٍ كثيرة، يتحوّل النقد إلى طقس لغوي يُعيد إنتاج العجز بلغة أنيقة.

لقد تحوّل المثقف إلى كائنٍ بينيّ: يعيش على الحافة، بين المعرفة والفعل، بين التنظير والاشتهاء. وما يزيد المأساة هو أن هذا التيه لم يعد نتيجة قمع خارجي فقط، بل انزياح داخلي نحو “تأجيل الفعل” إلى أجلٍ غير مسمّى.

لم يكن المثقف دائمًا في هذا الموقع المهتز. في لحظات نادرة من التاريخ، شغل المثقف موقع “المسافة الحرجة” بين السلطة والجماهير. من سقراط الذي شرب السم لأن فكرته كانت أكثر خطرًا من سلاح، إلى أنطونيو غرامشي الذي كتب من الزنزانة ليصوغ مفهوم “الهيمنة” لا لينجو منها. لكن أين يقف المثقف اليوم؟

لقد أصبح ذاته مأزومًا، مهووسًا بتفكيك كل شيء حتى لم يَعُد يملك شيئًا يقف عليه. ما بعد الحداثة، في سعيها لتقويض المسلمات، جرّدت الفكر من أدواته للفعل. صار التفكيك غايةً لا مقدّمة، والاحتمال بديلاً للقرار، والوعي لعنةً تمارس نقدها على كل شيء بما في ذلك قدرتها على التغيير.

وفي قلب هذا الفراغ، نشأت طبقة من المثقفين المنمنمين: وجوه معتادة في المؤتمرات، مُحاضرون في قاعات بلا أبواب، يحلّلون انهيار العالم وكأنهم في نزهة. إلا أن بعضهم، مثل إدوارد سعيد، أدرك خطورة هذا الانزلاق، فكتب لا ليرضي الجمهور، بل ليخترق السقف الرمزي، ويحفر موقع الفعل وسط ضجيج التفسير. لكن الأغلبية غاصت في دوامة الأكاديميا، حيث تُنتج المعرفة كشكل من أشكال التزيين، لا المواجهة.

وفي هذا المشهد، لا يمكن تجاهل الجماهير. فليست الجماهير مجرد “متلقٍ بسيط”، بل فاعل متحوّل، صاخب، ساخر، يكتب تاريخه فور حدوثه. الشارع، البوست، اللافتة، واللايف، كلها أدوات خطابية أعادت تعريف من يحق له أن يتكلم.
الجماهير لا تنتظر أفلاطونًا جديدًا، بل ترقص على إيقاع وعيها الفوري. إنها لا تصف العالم بل تصرخ فيه، تُحطّمه وتعيد تركيبه في الوقت ذاته. والمثقف الذي لا يرى في ذلك طاقةً أو تهديدًا، هو مثقف يتحدث من الماضي.

لقد امتصت السلطة دور المثقف، لا بقمعه، بل بمنحه مساحةً تُشبه الحرية، لكنها في الحقيقة شكلٌ من الاحتواء الناعم. تُقدَّم له منابر وندوات وشهادات و”مقاعد مدفوعة”، ليقول ما يشاء، طالما لم يُحدث خلخلة حقيقية. لم تُسكت السلطة صوت المثقف، بل جعلته جزءًا من آلاتها الرمزية، شاهداً على خوائها لا على قدرته.

ومع ذلك، يبقى السؤال: هل لا يزال هناك متسعٌ للعمق في عالمٍ يُختزل إلى تغريدة؟ وهل يمكن للفكر النقدي أن يُعيد تشكيل الواقع، لا فقط أن يصفه؟ هل يمكن أن نعيد للفعل جذوته، لا كموقف ثوري لحظي، بل كوعيٍ قادر على الصمود في وجه التكييف الرمزي؟

الفاعلية لا تعني بالضرورة التحشيد ولا التجييش، بل تعني إعادة تشكيل الخيال. إذا لم يستطع المثقف إعادة إنتاج الأفق، فقد تخلّى عن دوره. وإذا اكتفى بموقع “المُفسّر” فهو يفسّر عجزه لا الواقع. فالجماهير، مهما بلغت قوتها، تحتاج إلى بصيرة. لا إلى معلم، بل إلى من يضيء العتمة دون أن يدّعي امتلاك المصباح.

وفي النهاية، ليس السؤال: هل على المثقف أن يكون فاعلًا؟ بل: هل بقي له ما يُقال لم يُستهلك بعد؟ هل بقي في الصوت ما يُفجّر المعنى، أم أن كل ما تبقّى هو صدى باهت؟ وهل لا يزال المثقف يملك أن يصرخ؟ أم أنه، ككل شيء آخر، صار مجرّد تعقيب على عرضٍ أُنجز سلفًا؟

المثقف لم ينتهي… لكنه فقد صوته في الزحام وهو يكتب على هامش مشهدٍ لا يعود إليه أحد.



#ابراهيم_برسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نغوجي واثيونغو، الذي كَتَب كما يُكتب اللهب… وظلّ نبيًّا بلا ...
- من السجود إلى السيادة: انحناءة الشكل على خراب الجوهر
- بين كامل إدريس و اللا كامل…. ربطة العنق التي لم تُقنع مجلس ا ...
- حين ينعى الفقراء أحدهم، فإنهم يطرقون الأرض بأقدامهم، لا بأصو ...
- نحن والحمير في المنعطف الخطير: صمت الحواف حين يهزم صوت الطري ...
- الشتات بوصفه مَجازًا مضادًا: قراءة نقدية في أطروحة “الشتات ق ...
- في أثر فرانسيس دينق: سؤال الهوية بين النهر والمجلس
- العبودية الطوعية في الإسلام السياسي: قراءة في فلسفة الهيمنة
- -تأملات في طمأنينة لا تُشبه الخرائط… عن العراق الذي يكتبه ال ...
- الدولة النكرة: محاكم التفويض وخرافة السيادة
- سردية لندن: مؤتمر غاب عنه القتلة ولم يصفّق له كهنة السلطان
- غسان كنفاني: هشاشة الاسم والمنفى المؤجّل
- عندما يصير الجسد ساحة معركة: تراجيديا الإنسان السوداني بين ا ...
- ما بين الدال والمدلول في حكم المعلول: شكوى الجلاد إلى لاهاي
- -ارجم دميتك وامضِ: أُمّة تُساق بالتكبير في مآلات بلا معنى-
- النظام ساقط… ولكن الظل قائم: في طقوس الإنكار وانفجارات الكذب ...
- مقاطعة الإعلام الحربي كأداة مقاومة ضد آلة الدعاية العسكرية
- مازق المثقف في المنفي: بين التماهي والهويات المنقسمة
- البحر والمدينة: ثنائية القسوة والخلاص عند حنا مينا
- من المتحف القومي إلى مكتبة الترابي: كيف يُعاد تشكيل السودان ...


المزيد.....




- إسرائيل تعلن عن أول وفاة جراء الهجوم الإيراني
- إصابة نائب تركي باعتداءات على نشطاء -قافلة الصمود- في مصر
- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجارات في طهران.. واشتعال ني ...
- مسؤول إيراني لـCNN: سنستهدف قواعد أي دولة ستدافع عن إسرائيل ...
- شاهد.. دمار واسع في تل أبيب خلفه الهجوم الإيراني
- -التايمز-: إسرائيل لم تبلغ بريطانيا بنيتها ضرب إيران لأنها ل ...
- خبير طاقة مصري يكشف أسوأ سيناريو بعد الضربة الإسرائيلية للمن ...
- الحرس الثوري الإيراني: الضربات الصاروخية استهدفت 150 موقعا إ ...
- خبير عسكري مصري يكشف سبب قوة تأثير صواريخ إيران فرط الصوتية ...
- وزير خارجية الإمارات يجري اتصالات موسعة مع عدة دول لتجنب الت ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - ابراهيم برسي - صوتٌ بلا أثر… وعيٌ بلا أفق: المثقف وأزمة الفعل المؤجل