ابراهيم برسي
الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 09:23
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
إبراهيم برسي
ليس ثمّة ما يُسمّى “الحرب المقبلة”، فالدمار لا ينتظر فعلًا ليتحقق، بل يعيش كامناً في لغة السياسة، في اصطكاك المصالح، في النزعات التي تكتب العالم لا بوصفه كوكبًا بل كجبهة. نحن لا نعيش على الأرض، بل في منفى سماه الإنسان “الواقع الدولي”.
ما يجري في العالم هذه الأيام ليس سلسلة صراعات معزولة، بل نصٌّ واحد يُكتب بلغات متعددة، تتناوب فيه الجغرافيا أدوار البطولة، ويتكرر فيه الدم بوصفه استهلاكًا، لا فاجعة. من أوكرانيا إلى السودان، من طهران إلى غزة، ومن كابل إلى كيشناو، يتقاطع القتل مع الخطط الاقتصادية، وتتحوّل الدولة إلى واجهة لتقنية الهيمنة لا لمبدأ السيادة.
في الشرق الأوسط، تحوّلت إيران من خطاب التهديد إلى جسدٍ يتلقى الضربات. لم تعد منشآتها النووية جزءًا من مفاوضات، بل أهدافًا في مسرح يُدار عن بُعد. الضربة الأميركية–الإسرائيلية لم تُحدث فقط فجوة في التراب، بل في المعنى؛ إذ إنّ ما تهاوى في “نطنز” لم يكن مفاعلًا وحسب، بل فكرة السيادة ذاتها حين تُفرغ من مضمونها أمام التفوّق العسكري الرمزي. وما كان من قطر إلا أن تستدعي شبح الردّ، ثم تعود لتتذكّر أنها ليست أكثر من نقطة في خريطة استثمارات، لا في خرائط الحروب.
أما السودان، فيُعيد كتابة أسوأ دروس التاريخ، حيث يُنتج الخراب جنرالاتٍ بلا مشروع، وميليشياتٍ بلا ذاكرة. إنها ليست حربًا أهلية، بل مسرحًا للخراب المقنن، حيث تُباع الولاءات وتُستأجر البنادق، ويُؤرشَف الموت تحت مسمى “العملية”.
لكن المدهش في هذا التوقيت ليس كثافة الدمار، بل انسجامه. فالكونغو تحترق بنفس الإيقاع الذي تُقصف به خاركيف. وميانمار تسقط في عزلةٍ مشابهة لتلك التي تحاصر غزة. حتى كشمير عادت لتفرك جراحها في ضوء قنابل تُطلق من جهتين، كما لو أن اللهجة النووية هي وحدها القادرة على حلّ المسألة الإثنية.
فما الذي يحدث إذًا؟ ولماذا يبدو العالَم وكأنه يعيد تدوير عنفه بدلًا من تجاوزه؟
إننا بإزاء لحظة تفكّك كونيّ، لحظة يُعاد فيها تعريف “الإنسان” لا كمشروع أخلاقي، بل كمورد استراتيجي، قابل للتجريب، للعبور، وللمحو. الحداثة، وقد وصلت إلى ذروتها، لم تعد تُنتج العقل، بل تُشفّر الغرائز. الذكاء الاصطناعي لم يُقلّل من الحروب، بل من كلفة التفكير فيها. القنبلة اليوم لا تحتاج إلى إعلان، بل إلى خوارزمية. والجيوش لا تقاتل من أجل الوطن، بل من أجل جملة في خطاب لرئيسٍ لم يُنتخب إلا ليبتسم لآلة.
نحن أمام واقعٍ لم تعد فيه الحدود السياسية تفصل الدول، بل تُسجَّل فوقها صفقات الطاقة، وخطوط الغاز، ونقاط النفوذ. الحروب لم تعد أحداثًا؛ إنها صيغٌ لإعادة ترتيب العالم وفق مزاج الشركات والمصارف. الفاعل لم يعد الدولة، بل النظام المالي الدولي، والمؤسسة الأمنية العابرة، والتطبيق الذكي الذي يقرّر من سيعيش، ومن ستُجرّب عليه تقنية جديدة للقتل.
وفي هذا كله، يُعاد إنتاج الوحشية في ثوب أخلاقي: تُقدَّم الضربات كحق للدفاع، ويُعلن القصف كجزء من “إعادة الاستقرار”، وتُختزل المجازر في تقارير تُقدَّم لمجلس الأمن فلا يهتزّ فيها إلا الترجمان.
لكن الأخطر من كل هذا أن العالم لم يعُد يعرف لمن يوجّه غضبه. ففي ظلّ هذه الشبكات المعقّدة، لم تعد هناك جهة واحدة يُلقى عليها اللوم. لقد ضاع الجلّاد في متاهة الأجهزة، واختفى المجرم خلف شاشات التداول، وتحولت المسؤولية إلى ملف يُرَاجَع، لا إلى عدالة تُقام.
إن ما يحدث الآن ليس حربًا بين دول، بل هو صراع بين رؤيتين للإنسان: الأولى ترى فيه ذاتًا حُرّة تستحق الحياة، والثانية تختزله في رقم، في شيفرة، في مسافة يمكن طيّها بصاروخ. ومن يحسم هذا الصراع، ليس السلاح، بل الخطاب. ولهذا، فإن المقاومة الحقيقية اليوم لا تبدأ من الجبهة، بل من اللغة.
فنحن بحاجة إلى أن نعيد تعريف العالم، لا أن نصفه فقط. أن نُسائل التقنية لا كمجرد أداة، بل كبنية معرفية تنتج نظامًا أخلاقيًا زائفًا. أن نفضح الدبلوماسية حين تتحول إلى تغليف ناعم للذبح، ونُجرد الجغرافيا من امتيازاتها حين تشرعن العدوان.
لقد آن لنا أن نكتب عن الحرب لا بوصفها “خللًا طارئًا”، بل كإفلاس بنيوي للعقل السياسي العالمي. وأن نعيد النظر في كل نظام ادّعى إدارة العالم وهو لا يعرف كيف يُدير موتاه.
فربما، في هذا الخراب العظيم، يكمن الخلاص في أن نجرؤ على السؤال:
هل نعيش فعلاً في عالم… أم في شركة كبيرة تديرنا بعقود مؤقتة، وتُسرّحنا حين يتراجع الربح؟
وهل ما يحدث الآن هو نهاية الإنسان، أم نهاية وهمه؟
وهل الحرب هي قدر الكوكب، أم أنها مرض الحداثة وقد بدأ يتمظهر بجسد الأرض كلها؟ إبراهيم برسي
ليس ثمّة ما يُسمّى “الحرب المقبلة”، فالدمار لا ينتظر فعلًا ليتحقق، بل يعيش كامناً في لغة السياسة، في اصطكاك المصالح، في النزعات التي تكتب العالم لا بوصفه كوكبًا بل كجبهة. نحن لا نعيش على الأرض، بل في منفى سماه الإنسان “الواقع الدولي”.
ما يجري في العالم هذه الأيام ليس سلسلة صراعات معزولة، بل نصٌّ واحد يُكتب بلغات متعددة، تتناوب فيه الجغرافيا أدوار البطولة، ويتكرر فيه الدم بوصفه استهلاكًا، لا فاجعة. من أوكرانيا إلى السودان، من طهران إلى غزة، ومن كابل إلى كيشناو، يتقاطع القتل مع الخطط الاقتصادية، وتتحوّل الدولة إلى واجهة لتقنية الهيمنة لا لمبدأ السيادة.
في الشرق الأوسط، تحوّلت إيران من خطاب التهديد إلى جسدٍ يتلقى الضربات. لم تعد منشآتها النووية جزءًا من مفاوضات، بل أهدافًا في مسرح يُدار عن بُعد. الضربة الأميركية–الإسرائيلية لم تُحدث فقط فجوة في التراب، بل في المعنى؛ إذ إنّ ما تهاوى في “نطنز” لم يكن مفاعلًا وحسب، بل فكرة السيادة ذاتها حين تُفرغ من مضمونها أمام التفوّق العسكري الرمزي. وما كان من قطر إلا أن تستدعي شبح الردّ، ثم تعود لتتذكّر أنها ليست أكثر من نقطة في خريطة استثمارات، لا في خرائط الحروب.
أما السودان، فيُعيد كتابة أسوأ دروس التاريخ، حيث يُنتج الخراب جنرالاتٍ بلا مشروع، وميليشياتٍ بلا ذاكرة. إنها ليست حربًا أهلية، بل مسرحًا للخراب المقنن، حيث تُباع الولاءات وتُستأجر البنادق، ويُؤرشَف الموت تحت مسمى “العملية”.
لكن المدهش في هذا التوقيت ليس كثافة الدمار، بل انسجامه. فالكونغو تحترق بنفس الإيقاع الذي تُقصف به خاركيف. وميانمار تسقط في عزلةٍ مشابهة لتلك التي تحاصر غزة. حتى كشمير عادت لتفرك جراحها في ضوء قنابل تُطلق من جهتين، كما لو أن اللهجة النووية هي وحدها القادرة على حلّ المسألة الإثنية.
فما الذي يحدث إذًا؟ ولماذا يبدو العالَم وكأنه يعيد تدوير عنفه بدلًا من تجاوزه؟
إننا بإزاء لحظة تفكّك كونيّ، لحظة يُعاد فيها تعريف “الإنسان” لا كمشروع أخلاقي، بل كمورد استراتيجي، قابل للتجريب، للعبور، وللمحو. الحداثة، وقد وصلت إلى ذروتها، لم تعد تُنتج العقل، بل تُشفّر الغرائز. الذكاء الاصطناعي لم يُقلّل من الحروب، بل من كلفة التفكير فيها. القنبلة اليوم لا تحتاج إلى إعلان، بل إلى خوارزمية. والجيوش لا تقاتل من أجل الوطن، بل من أجل جملة في خطاب لرئيسٍ لم يُنتخب إلا ليبتسم لآلة.
نحن أمام واقعٍ لم تعد فيه الحدود السياسية تفصل الدول، بل تُسجَّل فوقها صفقات الطاقة، وخطوط الغاز، ونقاط النفوذ. الحروب لم تعد أحداثًا؛ إنها صيغٌ لإعادة ترتيب العالم وفق مزاج الشركات والمصارف. الفاعل لم يعد الدولة، بل النظام المالي الدولي، والمؤسسة الأمنية العابرة، والتطبيق الذكي الذي يقرّر من سيعيش، ومن ستُجرّب عليه تقنية جديدة للقتل.
وفي هذا كله، يُعاد إنتاج الوحشية في ثوب أخلاقي: تُقدَّم الضربات كحق للدفاع، ويُعلن القصف كجزء من “إعادة الاستقرار”، وتُختزل المجازر في تقارير تُقدَّم لمجلس الأمن فلا يهتزّ فيها إلا الترجمان.
لكن الأخطر من كل هذا أن العالم لم يعُد يعرف لمن يوجّه غضبه. ففي ظلّ هذه الشبكات المعقّدة، لم تعد هناك جهة واحدة يُلقى عليها اللوم. لقد ضاع الجلّاد في متاهة الأجهزة، واختفى المجرم خلف شاشات التداول، وتحولت المسؤولية إلى ملف يُرَاجَع، لا إلى عدالة تُقام.
إن ما يحدث الآن ليس حربًا بين دول، بل هو صراع بين رؤيتين للإنسان: الأولى ترى فيه ذاتًا حُرّة تستحق الحياة، والثانية تختزله في رقم، في شيفرة، في مسافة يمكن طيّها بصاروخ. ومن يحسم هذا الصراع، ليس السلاح، بل الخطاب. ولهذا، فإن المقاومة الحقيقية اليوم لا تبدأ من الجبهة، بل من اللغة.
فنحن بحاجة إلى أن نعيد تعريف العالم، لا أن نصفه فقط. أن نُسائل التقنية لا كمجرد أداة، بل كبنية معرفية تنتج نظامًا أخلاقيًا زائفًا. أن نفضح الدبلوماسية حين تتحول إلى تغليف ناعم للذبح، ونُجرد الجغرافيا من امتيازاتها حين تشرعن العدوان.
لقد آن لنا أن نكتب عن الحرب لا بوصفها “خللًا طارئًا”، بل كإفلاس بنيوي للعقل السياسي العالمي. وأن نعيد النظر في كل نظام ادّعى إدارة العالم وهو لا يعرف كيف يُدير موتاه.
فربما، في هذا الخراب العظيم، يكمن الخلاص في أن نجرؤ على السؤال:
هل نعيش فعلاً في عالم… أم في شركة كبيرة تديرنا بعقود مؤقتة، وتُسرّحنا حين يتراجع الربح؟
وهل ما يحدث الآن هو نهاية الإنسان، أم نهاية وهمه؟
وهل الحرب هي قدر الكوكب، أم أنها مرض الحداثة وقد بدأ يتمظهر بجسد الأرض كلها؟
#ابراهيم_برسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟