|
موناليزا شوربة العدس
مراد سليمان علو
شاعر وكاتب
(Murad Hakrash)
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 15:18
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
ظروف الناس، كل الناس، سيئة وكأن عقد التسعينات هذا عبارة عن حفرة في وجه الزمن، بل هاوية سحيقة بلا ضوء أو قاع؛ انزلقت إليها حياة شعب بأكمله، ومنهم عائلة عمّ حاجي الشنكالي. هذه العائلة، المكوّنة من حاجي الأعرج كما يسمونه، وزوجته، وابنتهما الصغيرة ذات العشر سنوات، كأنّ ثقبًا أسودا ابتلعهم من تلك الهاوية، وأنهى سعادتهم. لا يعرفون الفرح، ولكنّ دائما كان هناك رضًا خفيًّا يجتاح قعر قلب حاجي، وكان يردّد دوما: "ما دمتَ قد نجوتَ من حرب السنوات الثماني، فلا شيء آخر يهم". وحاجي يعرف أن الناس في هذه المدينة لا يرون حولهم إلا ظلالًا باهتة، وليالي طويلة لا صباح لها. مدينةٌ منطفئة، كما غيرها من مدن البلاد، تماما كما تنطفئ الفوانيس في بيتٍ قديمٍ نسيه أهله؛ فتغمره الغبار، وتلفحه شمسُ الصيف، وليس هذا فقط، بل تتسرّب العتمة، شيئًا فشيئًا، إلى الأرواح أيضًا. الوجوهُ شاحبة، والخطواتُ متعبةٌ ومهملة، لا تدري أين تذهب. كلُّ شيءٍ كان يذوب ويذبل، كباقَةٍ من زهورِ نيسان، لصقت على الباب من سيقانها رأسا على عقب بشيء من الطين مساءَ العيد. إلا قلب حاجي الشنكالي. الناجي من حرب كافرة لا تبقي ولا تذر برجل واحدة، ومن أنقذه في تلك المعركة هو صديقه (خيري شكوري) المصلاوي الأصيل. كان حاجي الأعرج، الذي يعرفه أهل المحلة باسم (حجي السنجاري)، وجهًا مألوفًا في الأزقة، يتغنّى دومًا بحكايات صديقه خيري أبو أحمد. لم يكن يكترث كثيرًا لحذف الألف من اسمه، وكان يهمس لنفسه ساخرًا: "إذا الله أخذ رجلي، تريد هذولة ما يأخذون الألف من اسمي؟" ويضحك. لم يكتفِ خيري بإنقاذ حياته، بل ظل يزوره في مستشفى الموصل العسكري، حين أصيب في المعركة الأخيرة، وزاره مرة في البيت، وما إن بدأ الحصار اللعين حتى بادر وعرض على حاجي أن يأتي من سنجار إلى الموصل ليعيش معه في نفس المحلة. أمثال خيري شكوري هم خير من يعرف خفايا الأمور؛ فقد علّمته الحياة أن حاجي المسكين الأعرج لا حول له ولا قوة، وأن عليه أن يعينه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. فقد عاشا معًا في الوحدة العسكرية نفسها لأكثر من ثماني سنوات، وعليه أن ينقذه للمرة الثانية، وهذه المرة ستكون عائلته معه. في أيام الحصار، الخبز كان رمز الجوع، وكان في الوقت نفسه رمز الشبع. وخيري شكوري، الذي ورث ماله وجاهه عن أجداده المعروفين بالتجارة، لم يقدّم الخبز وحده للجائعين من أبناء محلته المعوزين، بل كان يقدّم معه ماعون شوربة عدس من مطعمه الذي يملكه في بداية المحلة على الشارع العام. ولم يستثنِ صديقه وجاره الجديد، حجي السنجاري، من هذه العطية؛ فبعد أن أصر عليه أن يعمل في المطعم كمدير لها، كان يتابع بنفسه حضور ابنته، ويتأكد من أنها جلبت قدرها الصغير ليملأه أحد العاملين في المطعم بشوربة العدس، وتأخذها الابنة لأمها فرحة بالعطية. كان خيري يؤكد على العاملين في المطعم أن تحصل تلك العوائل المتعففة كل صباح على فطورهم من الخبز الحار وشوربة العدس الطيبة. ولم يهتم يومًا إن كان مطعمه يخسر؛ فالمهم عنده أن يؤدي شيئًا من واجبه الإنساني تجاه جيرانه وأصدقائه من خلال ما يملك. وكانت لديه مصادر أخرى للدخل، يحقق منها أرباحًا تغطي خسارة المطعم، بل تزيد عليها. استمرت ابنة حاجي في المجيء إلى المطعم كل صباح. وكان بعض عمّال المطعم، أو الزبائن القلائل، يتهامسون فيما بينهم عن جمالها وخفة دمها. بل إن بعضهم كان يداعبها بكلمات رقيقة، ويطلق عليها لقب (الموناليزا الصغيرة). تلك الصغيرة، كانت تخبئ أحلامها تحت قبْغِ قدر شوربة العدس الصباحي، كان حلمها أن تستمر في دراستها وتذهب إلى مدرسة قريبة، في البداية كانت تبتسم لوالدها الجالس على كرسي دوار خلف طاولة حسابات المطعم عندما تدخل وعندما تخرج، كانت فخورة به، ولا تدري إن أبوها أكثر فخرا بها عندما تأتي وتذهب وتساعد أمها، في حاجيات البيت البسيطة. ولكن بدأت تلك الأحلام تتآكل. اللعبة التي كانت تسليها في أول الأيام تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى روتين يومي، وذهب ذلك الفرح وتلك البسمة الذهبية، ثم تحولت هي نفسها إلى دمية صامتة، والسماء التي كانت تكتب فيها أمانيها بالنجوم القريبة في سماء سنجار، صارت بعيدة. الزمن يتآكل ويكرر نفسه، ولم يكن أحد يعرف أين ينتهي هذا النفق. كان حاجي نفسه يعتقد أنه وُضع داخل ساعة رملية، وأن الرمل بدأ يتسرب من بين أصابعه وتذريه الرياح. وإنه يكرر نفسه، كما لوكان في الجيش، فهو يعيد نفس الفعل، على الأقل في الصباح عندما يتناول الشوربة الصباحية، وكان يقول مع نفسه: "ما هذا، هل لا أزال في الجيش؟". أما زوجته، فكادت أن تفقد عقلها، ولم تعد تطيق الجلوس والانتظار بين أربعة جدران. عرف الأعرج إن حياته وحياة أسرته تعاش مثل المرض، أو مثل العسكرية، فهي تقضم الروح قبل الجسد حتى تترك ذاكرة بثقوب لا تحصى. بعد أن انقضى فصل الشتاء، وبدأ ربيعٌ خجولٌ يطلّ برأسه، قرّر الرجل الأعرج أن يعود إلى بلدته. وكما في كل مرة، ترجّاه صديقه أن يغضّ النظر عن هذا القرار. ــ إلى أين تريد الرجوع يا مهبول؟ ابقَ معي، وكالعادة سأتكفّل بكل مصاريف عائلتك ماذا تريد أكثر من هذا! ــ القرار اتُّخذناه أنا وزوجتي سلفًا يا صديقي، ولا رجعة فيه. ــ حسنًا، ماذا ستفعل حين تعود؟ وكيف ستعيش؟ ــ لا أدري! كان ذلك يؤلم صديقه خيري شكوري، فقرّر أن يمدّ له يد المساعدة هذه المرة أيضًا. ذهب حاجي إلى البيت مسرعا، وأخذ ينادي على ابنته قبل أن يعبر عتبة الباب، فأقبلت ابنته مندهشة، وعيناها تتساءلان، وقال لها بفرح: " خلاص، يا موناليزتي.. سنعود إلى سنجار، وستعودين لمدرستك" في بلدته التي عاد إليها، كان الجوع سيّد المشهد أيضا. يتسلل إلى البيوت دون استئذان كما في كل مكان من البلاد، يخترق الأرواح كأنه ميراث الزمن الثقيل، ضيفٌ لا يغادر، له طقوس يومية تتكرر بدقة صلاة مفروضة. كان على حاجي الشنكالي أن يفعل ما اعتاد فعله في محلة الأمس، لأقارب وأصدقاء الأمس، لكن الأمر لم يكن سهلاً. لا يملك إمكانيات خيري، صديقه القديم، ولا يحتمل خسارة مطعم جديد. فما هي إلا دنانير قليلة دسها صديقه في جيبه قبل الوداع. ومع ذلك، ظل يفكر لأيام: كيف يطعم عائلته وكذلك الجائعين في بلدته؟ الوجوه منهكة، والأكتاف مثقلة بما لا يُقال. الجوع يسكن العيون، وحتى الأطفال لم يعودوا يحلمون بالحلوى، بل بأرغفة خبزٍ حقيقية. كان حاجي يجلس بصمت في مقهى السوق، يراقب المارة وكأنه يقرأ عليهم آيات القدر، عاجزًا عن تغيير شيء. الانتظار طال، فقرر أن يفتح مطعمًا صغيرًا، لا يطبخ فيه سوى العدس. قدرٌ كبير من العدس، وكومة خبز يومية تكفي لإشباع المئات. دون بصل أو خضراوات. يدفع من يستطيع، ومن لا يملك شيئًا، فليأكل ويذهب... بالعافية. كل شيء أصبح جاهزًا: استأجر محلًا صغيرًا، واتفق مع شاب يعرفه ليساعده، والفرن القريب سيزوده بالخبز مع الفجر. لكنه أجّل الافتتاح. وفي المساء، قال لزوجته، مبتسمًا بخفة حزينة: "السبب بسيط... لم أجد اسمًا يليق بالمطعم. فهو مطعم شوربة عدس، لا مطعم شكوري في الموصل." وهنا، ارتسمت بسمة خجولة على وجه ابنته، وقالت باستحياء: "يا أبي، سَمِّهِ مطعم موناليزا لشوربة العدس."
#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)
Murad_Hakrash#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البقاء أو الأسيرة
-
شكر وتقدير إلى إدارة مؤسسة الحوار المتمدن
-
الشاعر الكرمانجي والمحارب الكومانشي
-
الكتابة بحليب التين
-
مشهد للتأمل
-
آلام النازح
-
الصياد
-
الهروب
-
أحلام نازح
-
حدث ذات مرة في شنكال
-
سرب الأوز
-
الشموع
-
عمارة الزيتونة وهاجس رفقة جامعة الموصل
-
سؤال وجواب/3
-
الجوكر الذي أعرفه
-
ما بين الخبز الأيزيدي والخبز السومري تنور وحكايات من نور
-
أهمية أن تكون حمارا
-
الديوان المشترك (شيء مفقود من هذا العالم) SOME THING MISSING
...
-
الميتاشعرية في ديوان (يقول النهر أنت أبني) للشاعر فارس مطر
-
سؤال وجواب/2
المزيد.....
-
?دابة الأرض حين تتكلم اللغة بما تنطق الارض… قراءة في رواية
...
-
برمجيات بفلسفة إنسانية.. كيف تمردت -بيز كامب- على ثقافة وادي
...
-
خاطرة.. معجزة القدر
-
مهرجان الجونة يحتضن الفيلم الوثائقي -ويبقى الأمل- الذي يجسد
...
-
في روايته الفائزة بكتارا.. الرقيمي يحكي عن الحرب التي تئد ال
...
-
في سويسرا متعددة اللغات... التعليم ثنائي اللغة ليس القاعدة
...
-
كيت بلانشيت تتذكر انطلاقتها من مصر في فيلم -كابوريا- من بطول
...
-
تظاهرة بانوراما سينما الثورة في الجلفة بطبعتها الثانية
-
-بطلة الإنسانية-.. -الجونة السينمائي- يحتفي بالنجمة كيت بلان
...
-
اللورد فايزي: السعودية تُعلّم الغرب فنون الابتكار
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|