أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - كرم خليل - الفكر الجمعي بين الجمود والتحول: أزمة الوعي العربي في مرآة الذات














المزيد.....

الفكر الجمعي بين الجمود والتحول: أزمة الوعي العربي في مرآة الذات


كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث

(Karam Khalil)


الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 07:55
المحور: المجتمع المدني
    


لا يتشكل الفكر الجمعي في فراغ، بل ينمو ويتبلور في قلب الشبكات الثقافية والاجتماعية التي تحتضنه، ثم يُعاد إنتاجه عبر منظومات التربية والإعلام والدين واللغة اليومية. إنّه خلاصة ما يعتقده الناس حول أنفسهم والعالم، لكنه في الوقت ذاته ليس معطى ثابتًا، بل نتاج عملية تراكمية مستمرة من الفهم، والتأويل، والنقد.

في المجتمعات المتقدمة، يتشكل الفكر الجمعي من خلال تراكب معرفي طويل الأمد، تحكمه آليات نقد ذاتي فعالة، ومؤسسات تربوية وإعلامية تتيح تعدد الرؤى وتكافؤ المساءلة. هناك، يُنظر إلى الفكر الجمعي بوصفه ظاهرة متحولة قابلة للتطوير، لا كجوهر أبدي يجب أن يُسلَّم به كما هو. أما في المجتمعات المتخلفة، فالوضع على النقيض تمامًا: إذ يتحول الفكر الجمعي إلى فضاء مغلق، تهيمن عليه التصورات الموروثة التي تُعامل كحقائق مقدسة، لا تخضع للمراجعة ولا للمساءلة.

في هذا السياق، تُختزل مفاهيم الخير والشر، والهوية، والماضي، والمستقبل، في قوالب جاهزة يعاد تكرارها جيلاً بعد جيل، من دون تمحيص أو تعديل. وعندما يُطرح سؤال خارج هذه القوالب، لا يُناقش السؤال، بل يُحاكم صاحبه. يهيمن على هذا النمط من التفكير خوف عميق من التغيير، لأن التغيير يستدعي بالضرورة مساءلة ما كان يُعتبر بديهيًا، وهو ما ترفضه المنظومات التقليدية بطبيعتها. وهكذا تتطور لدى هذه المجتمعات “مناعة نفسية” ضد النقد، فترى في المختلف خطرًا، وفي السؤال تهديدًا للنسيج الاجتماعي.

يُستخدم الدين في بعض الحالات كأداة لترسيخ هذا الجمود، لا باعتباره فضاءً للفهم الروحي العميق، بل كوسيلة لضبط السلوك الجمعي وتثبيت البنية التقليدية. ويُسهم التعليم بدوره في تكريس هذا النمط، حين يُبنى على الحفظ والتلقين بدل التحليل، وتُقدّم المعرفة بوصفها مجموعة إجابات نهائية لا كعملية مفتوحة على الاحتمالات. أما الإعلام، فغالبًا ما يتبنى خطابًا شعبويًا يعزز الرؤية النمطية، ويضخم الشعارات، ويشيطن التساؤلات النقدية.

في السياق العربي تحديدًا، يظهر هذا النمط من الفكر الجمعي بحدة أشد. فالعقل الجمعي العربي يعيش حالة من المفارقة: من جهة، يُحاصر بتقاليد ثقافية ودينية واجتماعية ترفض النقد، ومن جهة أخرى يُنتظر منه أن يكون فاعلاً في عالم يتطلب تجديدًا مستمرًا في الأفكار والبُنى. بين هذين القيدين يتشكل وعي مضطرب، مشدود بين الولاء للموروث والخوف من التفكك، بين الحاجة إلى التغيير والقلق من تبعاته.

يرتكز الفكر الجمعي العربي غالبًا على ثلاث ركائز أساسية: تمجيد الماضي، تبرير الحاضر، والارتياب من المستقبل.

فالماضي يُقدم كزمن مثالي يجب العودة إليه؛ والحاضر يُعاد تأويله باعتباره استثناءً مؤقتًا أو نتيجة مؤامرة؛ أما المستقبل فيُصوَّر كخطر غامض مجهول الملامح. في هذا المناخ، لا يُربى الفرد العربي على أن يكون فاعلًا نقديًا، بل على أن يكون تابعًا لصوت الجماعة، ويقيس صوابه بمدى تطابقه مع ما يراه “الناس” لا مع ما يمليه عليه العقل أو الضمير.

وحين يظهر صوت نقدي داخل هذا النسق، لا يُقابل بالحوار، بل يُصنف فورًا في خانة “الطابور الخامس”، أو يُتهم بأنه “انسلخ من مجتمعه” أو أنه ناكر للثوابت. وهكذا يتضح أن الفكر الجمعي ليس مجرد وعاء للمعتقدات، بل آلية دفاع جماعية لحماية النسق من زعزعة الداخل. إنه ليس فقط ما نعتقده، بل ما نحرسه دون وعي، خشية أن نواجه سؤال الذات.

هذا النمط من الفكر لا يُنتج وعيًا نقديًا قادرًا على التطور، بل يُنتج استقرارًا شكليًا هشًا سرعان ما يتصدع أمام أي أزمة سياسية أو اقتصادية أو فكرية. ولهذا كثيرًا ما تفاجأ المجتمعات العربية بانفجارات غضب مفاجئة، أو موجات شك عارمة، أو صعود تيارات تطرف حادة؛ لأن هذه المجتمعات لم تدرّب أفرادها على مساءلة الأفكار، بل على كبتها.

لا يمكن تحرير الفكر الجمعي بقرارات فوقية أو خطابات طارئة، بل عبر عملية عميقة لإعادة تشكيله من الداخل: من خلال نظام تربوي جديد يزرع التفكير النقدي منذ الصغر، وإعلام مسؤول يفتح المجال لتعدد الأصوات، ومؤسسات ثقافية تشجع التساؤل لا التبعية. لا يدخل المجتمع إلى الحداثة إلا حين يتصالح مع فكرة أن الإجماع ليس فضيلة مطلقة، وأن الأسئلة لا تهدد النسيج، بل تقويه. فالمجتمعات لا تنهض حين تكرر ذاتها، بل حين تراجعها.

إن الفكر الجمعي، لكي يكون حيًا، يجب أن يتسع للهامش، لا أن يُقصيه. فالمجتمع الحي ليس من لا يختلف فيه الناس، بل من يعرف كيف يحوّل اختلافهم إلى طاقة بناء لا إلى أداة قمع.



#كرم_خليل (هاشتاغ)       Karam_Khalil#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا الجديدة… في البحث عن الأخلاق المفقودة والعقد الاجتماعي ...
- المستبدّ وصانعه: في علم النفس الجمعي للمطبل السوري
- ثقافة الكراهية في سوريا… حين يصبح الاختلاف عداء
- الموالاة الجديدة.. وجه آخر للانحطاط السياسي السوري
- أحياء في ضمير الثورة: الشهداء الذين حموا سوريا أحياءً وأموات ...
- حين يصبح الإجماع قيدًا: في نقد الوعي الجمعي العربي
- الليبرالية: مشروع وجودي أم مجرد جهاز قانوني؟
- تركيا بين اهتزاز الداخل وتشابك الإقليم: قراءة في الواقع والم ...
- سوريا بين خطاب المركزية وأزمة التشكل: قراءة في مسارات إعادة ...
- سوريا في معترك المواجهة: الخطة الوطنية للتصدي لهيمنة الإحتلا ...
- من بوق الحدث إلى عقل الأمة: الإعلام ودوره في بناء الثقة والو ...
- بسّام العدل: من بريق الطائرة إلى ظلام القمامة قصة خيانة تكشف ...
- بين الموعظة والقانون: رحلة الإنسان بين خلود الفكرة وفناء الج ...
- قانون قتل الإخوة في الدولة العثمانية: بين السلطة والفوضى
- التحول السوري: قراءة في المرحلة الراهنة وتوصيات لبناء الدولة ...
- أهمية العلاقات السورية الأمريكية في هذه المرحلة الحساسة
- تجاذبات وإعادة رسم للخارطة الجيوسياسية في سوريا
- الخصخصة في سوريا.. حديث في الإيجابيات والسلبيات والطريق نحو ...
- وسائل الإعلام في مجتمعات ما بعد النزاع: بين الهيمنة والتحرر
- ظاهرة التكويع وسلطة الأمر الواقع


المزيد.....




- رغم تسلمها الأسرى الأحياء و13 جثة.. إسرائيل تدرس فرض عقوبات ...
- إسرائيل تلوح بعودة العمليات العسكرية بغزة بسبب جثث الأسرى
- رغم تسلمها الأسرى الأحياء و13 جثة.. إسرائيل تدرس فرض عقوبات ...
- اعتقال عشرات المحتجين في قابس جنوبي تونس
- هذا ما نعرفه عن جثث الأسرى الإسرائيليين المتبقين في قطاع غزة ...
- اعتقال عشرات المحتجين في قابس جنوبي تونس
- اعتقال عشرات المحتجين في قابس جنوبي تونس
- مشوهة وبلا أسماء.. كيف يتعرف الطب الشرعي بغزة على جثث الأسرى ...
- فتح: إعدام هشام الصفطاوي يكشف الوجه الحقيقي لـ-حماس-
- مندوبة تركيا لدى اليونسكو: إسرائيل لا تملك حق حظر الأونروا


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - كرم خليل - الفكر الجمعي بين الجمود والتحول: أزمة الوعي العربي في مرآة الذات