أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - القطار الذي لا ينتظر أحدا: تأملات في سفر الحياة














المزيد.....

القطار الذي لا ينتظر أحدا: تأملات في سفر الحياة


خالد محمود خدر

الحوار المتمدن-العدد: 8488 - 2025 / 10 / 7 - 15:11
المحور: قضايا ثقافية
    


الحياة رحلة سفر طويلة، أشبه ما تكون بقطار يمضي في سكته دون توقف إلا عند محطات معلومة لا نعرف موعدها مسبقا. نولد وفي أيدينا تذكرة لا نعلم متى تنتهي صلاحيتها ولا أين ستكون المحطة الأخيرة. يلقى بنا في عرباته دون خيار، فنبدأ رحلة الاكتشاف، نحمل أسئلتنا الصغيرة، ونكبر ونحن نطل من النوافذ على مشاهد تتبدل كل لحظة، كأننا نرى العالم للمرة الأولى في كل مرة.

في هذا القطار، منا من يغادر باكرا قبل أن يرى أول النوافذ، ومنا من يشيخ متنقلا بين المقاعد، يرصد وجوه الغرباء ويحصي ما تبقى من الضوء. هناك من كتب له أن يجلس قرب النافذة، يراقب شمس النهار وهي تفتح ستائر الأرض وتغمرها بالحياة، وهناك من يسافر واقفا مثقلا بالهموم، يستند إلى جدار من الصبر ويحلم بتذكرة جديدة تمنحه بداية أخرى في محطة لاحقة.

بعض الركاب يعيش رحلته في عربة فاخرة ظنها مصممة له وحده، يرى منها ما يريد ويتغاضى عما يعكر صفوه، لكنه سرعان ما يكتشف أن القطار لا يسير وفق أهوائه، وأنه قد يجد نفسه يوما في عربة مزدحمة بالمكلومين أو المنكسرين. في المقابل، هناك من يختار البساطة، يكتفي بمقعد متواضع لكنه مليء بالسلام الداخلي، يبتسم للغرباء والمعارف ويستمتع بمشاهد الطريق دون شكوى.

يمضي القطار في اتجاه واحد لا عودة فيه إلى الوراء. وكما تقول الأديبة هدى صادق: كلنا ركاب في هذا القطار، بعضنا يجلس، وبعضنا يقف، وبعضنا يتكئ على سؤال لا إجابة له. ومع ذلك، يظل في عرباته دوما شيء يولد، معنى صغير يجعل الرحلة تستحق المضي، فرصة جديدة، لقاء عابر، أو حديث يوقظ فينا الأمل، كأن الصباحات تزرع فينا كل مرة بذرة جديدة للحياة.

في هذا السفر الطويل، تختلف وجوه الناس وطرائقهم في العبور. منهم من تبتلعه دوامة الأيام فلا يدري ما يريد، ومنهم من يرى الغاية ولا يعرف السبيل، وآخر يملك الأدوات لكنه أسير ضعف الثقة. بعضهم يهتز مع كل صوت خارجي أو يتوقف عند أول نجاح كأنه وصل النهاية. أما أولئك الذين يبصرون الغاية بصفاء، فيمضون بثبات، يسمعون النقد بعقل، ويواجهون العوائق بعزيمة. إنهم لا يرون النجاح محطة أو نهاية، بل سلما يرتقون به إلى ما بعدها. هؤلاء وحدهم يدركون أن الحياة ليست محطة تبلغ، بل مسيرة تعاش، وأن القيمة الحقيقية تكمن في طريقة السير لا في نقطة الوصول.

الحياة لا تنتظر أحدا، لكنها تمنحنا دوما فرصا جديدة مع كل توقف صغير. كل محطة فيها استراحة للتأمل وإعادة ترتيب الحقائب التي نحملها، حقائب الذكريات والآلام والأحلام المؤجلة. ومع كل محطة نكتشف أن الأمل هو النافذة الوحيدة التي تطل على الصباحات المجهولة، وأنه ما دمنا نحيا فما زال في القطار متسع لحلم آخر ومعنى جديد.

الحياة في حقيقتها ليست سباقا نحو نهاية، بل نهرا من لحظات تتجدد مع كل نفس. كل توقف فيها فرصة لأن نلتقط أنفاسنا ونراجع ذواتنا ونزرع أثرا طيبا. فالأمل هو النافذة التي تطل على الصباحات المجهولة، والصوت الخفي الذي يهمس لنا: ما دمنا نحيا فما زال في القطار متسع لحلم آخر ولأمل جديد.

وفي أثناء الرحلة، سنتعلم أن نتجاهل ما لا يستحق الوقوف عنده، أحداثا وأشخاصا وأقوالا، لأننا إن توقفنا عند كل تفصيل، ضاعت منا متعة الطريق. وسندرك أن بعض الغرباء يصبحون أقرب إلينا من أهلنا، وبعض الأقربين يغدون غرباء فجأة. سنتعلم أن كل إنسان يحمل داخله قصة وجع، وأن أقوى الناس هم أولئك الذين يبتسمون رغم ما يخفونه من ألم.

في القطار، ستتعلم أن المتواضع واثق، والمتكبر ناقص، وأنك مهما امتلكت من الدنيا فستغادرها كما جئت. لذا ازرع في قلوب الناس شيئا منك، حبا أو احتراما، لأنه الأثر الذي يبقى بعد رحيلك. وستكتشف أن كثيرين يتجاهلونك، ونادرين يفهمونك، وأندر منهم من يواسونك بصدق ليعينوك على إكمال الرحلة.

ومع مرور المحطات، ستفهم أن السعادة قناعة وطريق مستقيم يبدأ من الانشغال بإصلاح النفس بدل مراقبة عيوب الآخرين، وأن حديثنا الصادق مع ذواتنا أغنى من كل أحاديث الناس. فعندما تمرض قليلا، تدرك كم كنت غنيا بالعافية، وكم أن نفسك هي الرفيق الوحيد الذي لا يغادرك.

ستعرف أن القوة ليست في الصراخ، بل في الصمت عند الألم، وليست في الانتصار، بل في احتفاظك بإنسانيتك وسط الخذلان. أن تسعد الآخرين وأنت تتألم، أن تنهض بعد السقوط، أن تبقى نقي القلب رغم قسوة العالم، تلك هي البطولة الحقيقية.

قال نجيب محفوظ: لا تعامل الناس على قدر سوئهم، بل على قدر صلاحك، لأنك حين ترتقي في روحك، تصير مرآة للحياة لا ظلا لها. وقال مصطفى محمود: الكل يهرول ليلحق بشيء لا يدري أنه سراب، والعمر يمضي، وآخر المطاف مثواه التراب. أما جورج أورويل فذكرنا بالحقيقة الكبرى: لم يكن البقاء على قيد الحياة هدفا، بل البقاء إنسانا.

في قطار الحياة، لكل إنسان قصة حزن خفية لا ترى. أحدهم يعاني من خذلان الأحبة، وآخر من غربة وسط الأهل، وثالث يبكي رحيل من أحب دون وداع. ومع الوقت، ندرك أن الصبر والتواضع لا يصدران إلا ممن هو واثق بنفسه، وأن الكبر لا يسكن إلا قلبا يشعر بالنقص.

إن قطار الحياة لا يتوقف عند خيباتنا ولا يتراجع لأجل أحزاننا، لكنه يعلمنا في كل محطة أن نكون أكثر وعيا وصلابة. فالحكمة ليست في النجاة من العثرات، بل في القدرة على مواصلة السير بعدها بنفس نقية.

في النهاية، لا أحد يستطيع إيقاف القطار، لكن يمكن لكل منا أن يجعل من مقعده محطة ضوء صغيرة تضيء الطريق للآخرين. فالحكمة الكبرى ليست في أن نصل، بل في أن نبلغ سلاما داخليا حين نفهم معنى العيش، ونزرع في الطريق ما يجعل مرورنا فيه جديرا بالذكر.

الحكمة ليست في أن تصل، بل في أن نسير ونحن نحمل معنى الوصول، ونترك في أثرنا ما يشهد أننا كنا يوما عابرين جميلين في قطار الحياة.

هكذا تمضي رحلة القطار.



#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخيانة الكبرى للنفس تكون حين يتم جعلها ضحية من أجل إرضاء ال ...
- عندما تسقط الاقنعة: دروس في الوفاء والخذلان
- ثمة مواقف من الجحود وعدم الوفاء لا تُغتَفَر
- برنامج المسامح كريم : دروس مباشرة في الاعتذار والتسامح بين ا ...
- ثقافة الاعتذار إطار حضاري لبناء الثقة واحترام الذات والآخرين ...
- التواضع قوة لا ضعف يكمن فيه سرّ النجاح ومحبة الناس وخلود الأ ...
- الطيبة اختيار و شجاعة في الزمن الصعب لا يراها الكثير
- في الذكرى الحادية عشرة لمذبحة قرية كوجو: الإبادة قيدت ضد مجه ...
- خراب البيوت لا يأتي من بعيد
- إصدار الأحكام على الآخرين بين وهم الفطنة وحقيقة التطفل
- في ذكراها الحادية عشر: الإبادة الجماعية للإيزيديين تظل جرحا ...
- حين أصبح اطفال الإيزيديين بضاعة رخيصة في أسواق النخاسة الداع ...
- حين تختطف البراءة بأيدي قوى الشر والظلام الدواعش ، أطفال سنج ...
- ليكن الجميع القدوة الحسنة كي لا تُختطف الأوطان والإنسان مرة ...
- التغير المناخي في العراق وأثره في تفاقم الأزمة المائية
- نيكولا تيسلا عبقري سبق زمانه وأقلق عقول الحكومات/ الجزء الرا ...
- نيكولا تيسلا عبقري سبق زمانه الذي أقلق عقول الحكومات / الجزء ...
- نيكولا تيسلا عبقري سبق زمانه وأقلق عقول الحكومات / الجزء الث ...
- نيكولا تيسلا عبقري سبق زمانه وأقلق عقول الحكومات / الجزء الا ...
- حين تُصبح النوايا الطيبة خطرا قاتلا على أصحابها من ابناء الا ...


المزيد.....




- كرات مشتعلة تتساقط فوق رؤوس المتفرجين في الصين بعد خلل في عر ...
- المتحدث باسم خارجية قطر يكشف تطورات محادثات خطة ترامب بشأن غ ...
- تحليل بصري لاحتجاجات -جيل زد-.. ماذا يحدث في المغرب؟
- بعد عامين من حرب غزة: ما الذي حققه كل من نتانياهو وحماس؟
- أصعب لحظات الحرب على غزة
- من رسامة صغيرة إلى جريحة لا تخرج من البيت.. قصة فايزة التي أ ...
- تقرير خاص: كيف غيرت حرب غزة خريطة الصراع في الشرق الأوسط؟
- فيديو - روسيا تدعو إلى رفع العقوبات عن أفغانستان وتحذّر من أ ...
- فرنسا: 48 ساعة حاسمة.. وضغوط على ماكرون من معارضيه ومن حلفائ ...
- بعد عامين من هجوم حماس على إسرائيل.. الحرب ماتزال مشتعلة في ...


المزيد.....

- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت
- الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان / د. خالد زغريت
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد محمود خدر - القطار الذي لا ينتظر أحدا: تأملات في سفر الحياة