أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - الإنسان… جسرٌ أم بحر؟














المزيد.....

الإنسان… جسرٌ أم بحر؟


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 11:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


Facebook: @NaootOfficial

بعد مشاهدتي مسلسل "لعبة الحبّار"، الذي سأخصص له مقالا قادمًا، ومسلسل "عرض الثمانية" وكلاهما إنتاج كوري، وكذلك فيلم بلاتفورم" الإسباني، تأملتُ هشاشة الإنسان وقسوته وساديته وطمعه، فكرتُ في طبيعة "الإنسان" العجيبة، ووددتُ أن نتشارك الأفكارَ حول هذا اللغز.
ما الإنسان؟ منذ بدايات الفكر، لم يكن سؤال "ما الإنسان؟" سؤالًا معرفيًا فقط، بل سؤالًا وجوديًا. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجرؤ على مساءلة ذاته حول ذاته. لذلك ظلَّ السؤالُ عصيًا؛ كلُّ إجابة تُضاف إلى سجلّ المحاولات، لا إلى تقرير الحسم.
على مدار الأزمنة ظلت محاولات تعريف “الإنسان” مراوغة. الفلاسفة، الشعراء، المتصوفة، جميعهم حاولوا الإمساك به، لكن ما أن يظنّوا أنهم قبضوا عليه حتى يتفلّت من بين أيديهم. أهو كائنٌ عابرٌ لا يملك إلا أن يتجاوز ذاته؟ أم هو جوهرٌ سرمديّ يتلألأ بأنوار الغيب؟ يرى "نيتشه" أن الإنسان مجرد "جسر" فوق هاوية؛ لا بد أن يعبره ليصل إلى ضفة "الإنسان الأعلى” أو الإنسان الفائق. بينما يرى المتصوفة أن الإنسان بحرٌ من اللؤلؤ، كلما غاص فيه انعكست فيه أنوارُ الحق. وبين هذين الحدّين: الجسر المعلّق فوق الفراغ، والبحر الممتد بلا قرار، تتأرجح صورةُ الإنسان، نصفها غياب ونصفها حضور.
في كتابه "هكذا تكلّم زرادشت" لم يرَ "نيتشه" في الإنسان إلا كائنًا غيرَ مكتمل أو مشروعًا هشًّا في حال عبور دائم، أي: جسرٌ بين الحيوان و”الإنسان الأعلى”. فالإنسانُ ليس غايةً بل مرحلةٌ في رحلة طويلة، لا يحق له أن يستقر، لأن الركون موت. فالجسر ليس مكان إقامة، بل ممرٌّ محفوف بخطر السقوط في الهاوية، قيمته في أنه يتيح العبور. الإنسان إذن عنده كائن في صيرورة، يحيا بالقدرة على تجاوز نفسه، ويهلك متى ظنّ أن إنسانيته غايةٌ مكتملة.
أما المتصوفة فقد قلبوا المعادلة. لم يروا الإنسان جسرًا يُلغى، بل مرآةٌ يُتجلّى فيها الحقُّ تعالى. الإنسانُ بحرٌ بلا قرار، إذا غُصتَ فيه وجدتَ الدُرر واللآلئ، وكلُّ غوصٍ كشفٌ جديد. الإنسان عندهم ليس طريقًا نحو "ما بعد"، بل كيانٌ في ذاته يكفي للامتلاء بالنور، حتى يُشعُّ ضوؤه.
"الإنسان الكامل" عند "محيي الدين ابن عربي"، هو الجامعُ بين الحق والخلق. صورة تتجلّى فيها الأسماءُ الإلهية. وفي "الفتوحات المكية" يصف "آدمَ" بأنه جلاءُ مرآة الوجود، إذ أراد اللهُ أن يرى أعيانَ أسمائه فخلق العالم، ثم جعل الإنسانَ جامعًا لها. هنا لا حاجة لعبور إلى مستقبل مُتخيَّل، بل لغوص في الداخل حيث يكتشف المرءُ أن النورَ الذي ينشده يسكن قلبَه منذ البدء. "الإنسان" عند المتصوفة ليس كائنًا ناقصًا يسعى للكمال كما عند "نيتشه". بل هو مكتملٌ بالقوة، يحتاج فقط إلى كشف الحُجُب ليكتشف طبقات النور. كأنما الإنسان بحرٌ من اللآلئ، كل غوص يكشف عن جوهرة، وكل جوهرة تعكس وجهًا من وجوه الله جلّ وعلا.
وتبدو المفارقة صارخة بين الرؤيتين: النيتشوية والصوفية. عند "نيتشه"، الإنسان ناقصٌ مهدّد بالسقوط، عليه عبور المستقبل من أجل الاكتمال والسموّ. وعند المتصوفة، الإنسانُ مكتملٌ بالفعل لكنه محجوب عن ذاته، يحتاج إلى الكشف لا إلى العبور. "نيتشه" يضع الغايةَ في الأفق البعيد، والمتصوفة يضعونها في القلب. لكنهما يتفقان في رفض صورة الإنسان النهائية المستقرة. فالإنسانُ الراهن غير مكتمل عند "نيتشه"، ولا هو الحقُّ عند المتصوفة بصورته الظاهرة دون حفر في العمق بحثًا عن النور. الفيلسوف يضع المصيرَ في المستقبل، والمتصوفُ يضعها في العمق. الأول يصوغ الإنسان بالنار، والثاني يسكبه بالنور. ورغم التناقض، يلتقي الاثنان في ثورتهما على الجمود، ورفضهما أن يكون الإنسانُ نهايةً ميّتة. "نيتشه" يحطم أوثان الاكتفاء، والمتصوفة يحطمون أوثان الظاهر. هذا يرفع شعار: تجاوزْ نفسَك لتسمو، وأولئك يرفعون شعار: اكشف نفسَك لتُضيء. وفي الشعارين إعلانٌ أن الإنسان مشروع مفتوحٌ لا يُغلق. عند "نيتشه"، الغياب هو وقود الحركة. وعند المتصوفة، الحضور هو سرّ الكشف.
ويبقى السؤال: هل على الإنسان الاحتراقُ ليولد من رماده، أم يتقشّر ليصفو ويصير مرآة للنور؟ هل الإنسانُ جسر فوق هاوية، أم بحرُ لؤلؤ يتلألأ بأنوار الحق؟ والمفارقةُ الطريفة أن الإنسان إما جسرٌ فوق بحرٍ، أو بحرٌ يعلوه جسرٌ! ويظل الإنسان لغزًا لا يقبل الحسم، مثل طيف يمر على ضفاف المعنى دون أن يستقر.
ولعلّ الحقيقة أن الإنسان جسرٌ وبحر في آن. يعبر الأزمنةَ كما يغوص في الأعماق. من يراه جسرًا فقط يعيش قلقَ المجهول، ومن يراه بحرًا فقط قد يغرق دون كشف. أما من يجمع بين السعي والغوص، بين الشوق إلى المستقبل والبحث في العمق، فقد يقترب من صورة الإنسان الأجمل: كائنٌ يتجاوز نفسَه ويكشفها في اللحظة ذاتها.


***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هندسة عين شمس … العظيمة
- -أولاد- الدكتورة -سهير-
- -زهرة النار-… الحلمُ يخفقُ في الرماد
- -القمة-: -غزّة- امتحانُ الضمير العالمي
- اليوم العالمي للقانون… العدلُ ماءُ الحياة
- سبتمبر … شهر أمي
- الأخلاقُ والمحبة والتجديد… ثلاثيةُ الرسالة في خطبة الوزير
- زجاجُ سيارتي المصدوع… والفلاسفة
- “نجيب محفوظ-… سيدُ المفارقات
- الضحايا جلاّدون … في The 8 Show
- “مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني
- في مديح -العُسر- … و-التصوّف-
- أبي … وأبي الروحي
- موسمُ الرياض سعوديًّا… وعقلٌ لا يعجبه العجب!
- أقلامُهنَّ … في ميزان البحث الأكاديمي
- احترامُ جلال الموت
- -مصرُ- و -غزّة”… التاريخُ يشهدُ بما يُغنينا عن الكلام
- فيروز … هاكِ مِنديلي لتُخبّئي دموعَك
- -كتالوج-... الأبوة والأمومة
- الأميرُ النائم … والساهرون على حُلمه


المزيد.....




- مقال بجيروزاليم بوست: هل تفقد إسرائيل اليهود في الشتات؟
- يهود أمريكا ينتقدون إسرائيل: 61% يتحدثون عن جرائم حرب و39% ع ...
- TOYOUR EL-JANAH TV .. خطوات تنزيل تردد قناة طيور الجنة على ن ...
- الجماعة الإسلامية في باكستان تدعو للتمسك بحقوق الفلسطينيين
- بينها السعودية ومصر والأردن.. بيان مشترك لـ8 دول عربية وإسلا ...
- “حدثها بسهولة” تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات وا ...
- سوريا تنتخب أول برلمان بعد الأسد.. وترشح أول يهودي منذ 1967 ...
- الاحتلال يعتقل ثلاثة مواطنين من كفر الديك غرب سلفيت
- بين يقظة الروح وغفلة العالم تأملات وجدانية فلسفية في زمن الت ...
- %61 من اليهود الأميركيين يتهمون إسرائيل بارتكاب جرائم حرب بغ ...


المزيد.....

- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - الإنسان… جسرٌ أم بحر؟