|
قراءة في رواية أيتام الجبال للدكتورة نجاة عبد الصمد
فوزات رزق
الحوار المتمدن-العدد: 8483 - 2025 / 10 / 2 - 21:49
المحور:
الادب والفن
أيتام الجبال د. نجاة عبد الصمد نجاة عبد الصمد، كاتبة ومترجمة. توليد سورية من مواليد 1967. لها خمس روايات منها رواية "لا ماء يرويها" الصادرة عن دار منشورات ضفاف في عام 2017 والتي فازت بجائزة كتارا للرواية العربية. كما لها إصدارات في الترجمة عن اللغة الروسية منها قصة "مذكرات طبيب شاب" للكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ لعل أول ما يتوقف عنده القارئ لرواية "أيتام الجبال" للدكتورة نجاة عبد الصمد ذلك الصراع العنيف بين الآباء والأبناء، والذي يمكن أن نسحبه على صراع الأجيال. هذا الصراع الأزلي بين مُثُلٍ راسخة، وأخرى تحاول أن تأخذ لها مكاناً على حساب الأولى. وإن سنّة الحياة وناموس الكون يقتضي بأن ينتصر الجديد على القديم والآخر على الأول، على المستويات كافة الاجتماعية منها والفكرية. وكي ينتصر الجديد على القديم لا بد من معارك قاسية فلا القديم يرمي سلاحه بسهولة. ولا الجديد يكلّ عن السعي لزحزحة ذلك القديم. والحديث عن هذا الصراع ذو شجون لا نريد أن نتوسع فيه إلا بما يخدم هذه الدراسة التي يتجلى فيها هاذ الصراع بصورة واضحة بين "سبيل" بطلة الرواية التي تريد أن تنفتح على الحياة، وبين أبيها الشيخ الصارم الذي يتشبث بمثله وقيمه التي لم تعد توافق العصر. ومن جهة أخرى بين أب وبنت تحاول الخروج من فضاء البقرتين المكلفة برعايتهما، إلى فضاء رحب يتعدى سورية إلى الاتحاد السوفييتي لإكمال دراستها في الطب. فكيف لهذا الشيخ الذي لم يرضخ لإكمال دراسة ابنته في دمشق إلا بعد وساطة أحد المشايخ الذين لا يرد رأيهم؛ كيف له أن يرضى أن تذهب ابنته للدراسة في الاتحاد السوفييتي بلد الكفار؟! وربما كانت أقسى صور الرواية مشهد الوداع بين البنت وأبيها الشيخ الذي جاء بمنهى القسوة. تنقل "سبيل" الموقف الميلودرامي بمنهى الأسى: "بخاطرك يا بيي لا يستدير إليّ. يقول وعيناه تنظران إلى اللاشيء: أنا غضبان عليك. البنت إللي بتدعس كلمة بيها وعيلتها والأجاويد مش بنتي، ولا من عيلتي. الله لا يسلها." ص24. فهذا الوداع من أقسى ما يتصوره المرء وبما تلاه من هواجس سبيل في الطريق إلى جامعتها. وتتعرض الرواية إلى حرمان صديقتها نبيهة من التعليم إلا بما يمكنها من قراءة كتب الحكمة. ومن خلال ذلك تتناول الرواية بنية المجتمع في السويداء من خلال إلقاء الضوء على فئة من رجال الدين المتعصبين دينياً، فتطلق على مكان تواجدهم "حارة الأجاويد" ـ مكان معروف في مدينة السويداء ـ هؤلاء الذين ما زالوا يعيشون في ذهنية القرون الوسطى حينما يحصرون التعليم لغاية واحدة هي قراءة "كتب الحكمة" فحين يبلغون هذا القصد يكون الله قد كفى المؤمنين شر القتال. وتتساءل الرواية عن رد فعل الطفلة نبيهة التي أخرجها ذووها من المدرسة بعد الصف الخامس: "هل صرخت نبيهة؟ اقتداء بقول جوزيي ساراماغو "الله هو صمت الكون، والإنسان هو الصرخة التي تعطية معنى ذلك الصمت"؟ ربما لو صرخت لسمعها منقذ ما، ومدّ إليها حبلاً لتتسلقه..." ص 109 ما يذكرنا بالصرخة التي ماتت على فم الرجال الذي قضوا نحبهم في الصهريج في رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"
ومن هذا الباب تسلط الرواية الضوء على التعصب الذي يمارسه رجال الدين في حارة الأجاويد إذ: "لا تتعاطى حارة الأجاويد مع محيطها من حارات الجهال إلا بواجب الجيرة الذي أوصى به الله، تدير شؤونها وفق تعاليم الأمير السيد عبد الله التنوخي" ص110. مع العلم أن الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي لم يكن منغلقاً وتشهد له سيرته في دمشق حينما أمضى فيها اثنتي عشرة سنة. ولست متأكداً من المصدر الذي يقول إنه أمضى تلك المدة إماماً للجامع الأموي، إلا أن الثابت أن لفيفاً من علماء المسلمين السنة التفوا حوله.
وسوف نلاحظ نقد الرواية للتعصب الديني لدى فئة من المتعصبين الدروز، إذ تشكو سبيل من هذا التطرف الديني: "ربما طالني مصيرها ـ المقصودة نبيهة ـ لو أنني ولدت داخل سور في حارة الأجاويد الساكنة المستقرة. تتوزع داخل مدينتنا كانتونات تغلق على نفسها بإحكام" ص110. ويتجلى ذلك التعصب في شخصية الست البتول ـ وهي شخصية واقعية، لم تصنعها الكاتبة، ولكنها أحسنت وصفها إلى أبعد الحدود: "في صيفي الأول عندما حفظت كتاب الحكمة الأول الذي استغرقت أخت نبيهة ثلاثة أصياف في حفظه... طلبتُ من أمي أن تطبخ أكبر طنجرة رز بحليب، وأضافت إليها قشور البرتقال، وصبتها في صينية واسعة، وزينتها بالجوز، وغطتها بالشاش كيلا يسقط فوقها غبار أو حشرة... رأتها الست البتول ولم تعلق" كان ذلك جزءاً من الطقوس التي تتبعها الست البتول بعد أن تحفظ إحداهن كتاباً من كتب الحكمة. وتتابع سبيل نقد هذه الظاهرة: "جاء وقت الاستراحة... تقدمت منها لأشكرها... وأصب لها في صحن يليق بمقامها...لم تقبل الست تناوله مني: "بيّك بيشتري رز وسكر من المؤسسة الاستهلاكية. بونات الدولة حرام، ما بحط بذمتي أنا والبنات ناكل زاد مش حلال"ص122.
وترصد الرواية توق الطفلة سبيل للانطلاق والخروج من أسر التقاليد. فعندما اشتركت في إحدى المسابقات التي كان تجريها منظمة الطلائع، رصدت هذه الحالة بقولها: "ربطت لي ـ المشرفة ـ شعري على الجانبين كذيلي حصان، يشاغبان على صدري كيفما تحركت. وأنا دائخة من الفرح بخلع الإيشارب، ومن الخوف أن يعلم أبي إنني شلحته" ص140. فماذا كانت النتيجة؟ من خوفها أن يعلم أبوها أنها قد خلعت الإيشارب توترت، وازدادت أفكارها شتاتاً، فخسرت المركز الذي كانت تطمح أن تصل إليه. غير أنها ما لبثت أن اكتشفت أن هذه المسابقات في الطلائع والشبيبة جاءت تكرس فكرة تسييس المجتمع، وربطه بالأب القائد، من خلال تلك المنظمات التي اخترعها نظام حافظ الأسد.
وتبدع الكاتبة في تصوير مرحلة تجاوز البرزخ بين الطفولة والمراهقة، تلك المرحلة التي يعيشها الجنسان من الذكور والإناث. حينما تصف سبيل أو تجربة لها أمام الجنس الآخر حينما نافسها نشأت على الريادة: "لم يكن صدري قد نهد، ولا أعرف ماذا يعني أن تنجذب بنت إلى صبي. لكن رائحة غامضة هفّت من يمّه، تكنس المسابقة من رأسي وترميها للكلاب، تدير رأسي وقلبي وتفكيري إليه، تجلوني في لحظات من طفلة لا تكترث بالصبيان إلى صبية مفتونة بنشأت، ظننتني أموت من عشقه. في خيالي لم أعد أراني إلا معه، متعانقين، متشابكي الأيدي والأرجل، نتدحرج على السهل" ص 141. فعلى الرغم من أن نشأت قد تفوق عليها في المسابقة، وكان من الطبيعي أن يوغل صدرها جراء فوزه عليها؛ إلا أن القلب نحّى ذلك الغلّ المفترض، ونزع ذلك النزوع الطبيعي. ولم ينته ذلك النزوع بانتهاء المسابقة فقد صاحبها أثناء رعيها للبقرتين: "لا أذكر كم استمر حبي للفتى الأسمر وأنا أرعى البقرتين وكتابي معي" ص142. إذ لا يستطيع المرء إغفال تغلب نزوع القلب لدى المراهقة على نزوعها نحو التفوق. لقد طغى النزوع الأول على الآخر، وهذا من ناموس طبيعة النفس البشرية فيما يخص هذه المرحلة الدقيقة من العمر. وقد دفعت المراهقة ثمن ذلك الشرود والسرحان في عالم الصبي نشأت ثمناً باهضاً حين فلتت بقرتاها على خضار جارهم أنيس.
وما يزال تابو نارجهنم الذي سيحرق الكفار؛ ما يزال يلاحق سبيل كيفما تحركت: "أمي تحبنا معا ـ تقصد هي وأختها اشتياق ـ ولا تفرق بيننا. ولهما أشكو طعم الحريق الذي هددني ابي أن سألقاه في جهنم" ص151 وكي تخرج سبيل من هذا الانغلاق الديني وجدت الكتاب هو الوسيلة الكفيلة بإخراجها من خندق الأب المتزمت وخندق الست البتول: "أخمدُ غضبي بالقراءة، تشجعني رفيقتاي: "مرحى سبيل مرحى... أنت ذكية، قاتلي عن نفسك كيلا يغلبوك، معاً سوف نحرق الست البتول كي تتفحم، وسوف نغلب أبو فهد ـ كذا في النص ـ وأباك الذي لم ينتشلك من ضرباته" ص152. ولا بد أن نلاحظ هنا التمرد الذي يطال الست البتول حيث تكرس الجهل، كما يطال الأب وأبا فهد كرمز للسلطة البطريركية.
وتوغل الرواية في عالم الفتيات الصغيرات: "تصنع اشتياق لنا لعبة من عودي خشب متصالبين، ورز ثياب وقماش ابيض تغلف به الزر فيصير وجهاً ... " ص152 فهل هو حنين لتلك المرحلة التي تخلو من أعباء الحاضر؟ أم ترسيخ لصفاء الطفولة وبراءتها؟ وربما اكتملت العودة إلى عالم الطفولة بعودة سبيل إلى صورة فاتنة لهذا الضياع في سوق السويداء الضيق: "كنت أسير لصقكِ ـ مناجية أمها ـ أحدق بكل هذا الذي لم يكن في درب الحجل، فغرت مغارة في فمي الصغير على وسعها غربة واستغراباً. اتشبث بالثوب الذي أظنه ثوبكِ رباطي إليكِ، فإذا بي أمسك بتنورة امرأة غريبة" ص 158. أنه صدى للضياع الذي تشعره في غربتها هناك في بلاد الصقيع. وبين حين وآخر يفاجئنا هذا السرد الجميل الذي تختلط فيه الأحلام بالأمنيات: "يسرقني النوم، أرى نفسي صبية تسير في حقل قمح، مكتملة الأنوثة، قمح ذهبي على الأرض، قمح في جدائل شعري الطويل ..."
وقد أدانت الرواية العقل الذكوري في أكثر من موضع وبخاصة في النظرة إلى المرأة حين تتحدث سبيل عن أبيها: "كم سمعت من أبي مرويات عن بطولات أسلافنا الذكور... ولم أسمع منه مرويات عن نساء عائلتنا، وكأن لا نساء أنجبت وربت هؤلاء الرجال، ولا هم أنجبوا البنات. كأن غصناً من عائلتنا لم يورق تاء التأنيث" ص173 وذلك في إشارة للنزوع البطريركي في مجتمع الجبل لدى جيل الآباء وفي إطار التربية تعرضت الرواية إلى مسألة تربوية هامة في الحياة الأسرية حينما يشعر أحد الأولاد بفقدان العدل بينه وبين أحد الإخوة من قبل الوالدين. إذ تتعرض سبيل لهذا الشعور بمرارة وقد أجادت الرواية في رصد هذه الظاهرة. فحين تم تمزيق جلاء سبيل الذي رُصد فيه تفوقها من قبل اشتياق لم يثر ذلك حفيظة الأب. على حين أنه يحرص كي تحصل اشتياق على وثيقة تفوقها من منظمة الطلائع بدلاً من التي فقدتها: "أركب اشتياق خلفه على موتوره إلى مقر منظمة الطلائع. بعد أخذ ورد وتهرب منهم، وإصرار منه، استعاد دليل ريادة ابنته، أعطوه وثيقة بدبلة ممهورة بختم بدل من ضائع. أصغر من الأصلية" ص184
وما تزال هذه الرواية تخطفنا بين حين وآخر، إلى أمداء من العشق، عشق المراهقة حينا، وعشق الكتاب حينا آخر، لكن أجمل العشق الذي يمكن أن نقرأه هو المزيج من عشق الكتاب والكاتب معاً حينما تلقي الرواية الضوء على غسان كنفاني. فتتحدث سبيل: "لم أكن أعرف ماذا أريد، كنت محمومة بحب جديد، هناك في فضاء المكتبة، هبط عليّ هوى رجل، نزل من الرفّ كما الحمل على مريم تحت جذع نخلتها" ص192. وإذ به غسان كنفاني يخرج لسبيل من "خيمة أم سعد، وعائد إلى حيفا" كأننا نرى الغيرة تشتعل في قلب هذه السبيل من غادة السمان للفوز بقلب غسان كنفاني.
وحين يتوغل القارئ في الرواية لا بد له من البحث عن سر الكره المتبادل بين الأب والأم من جهة وبين سبيل من جهة أخرى. وطالما صرحت سبيل بذلك، مع أن كل شروط العطف والمحبة متوفرة لدى سبيل المجتهدة في مدرستها وفي العمل في البيت. فهل النزوع الديني لدى الأب هو وراء هذا الكره حينما يقول لها: "لو قريت كل كتب الدنيا آخرتك على جهنم كرفة" ص193. وماذا عن الأم؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات عما لم تجب الرواية عنها بشكل جلي. لكن القارئ لا بدَّ أن يحيل ذلك إلى نزعة الأب الدينية، وشعور سبيل بالظلم. فهل هذه يكفي؟ ربما. لقد أبدعت الكاتبة في الغوص حتى العمق في نفس سبيل حين تتلقى انفعالات والدها الشيخ الذي ضبطها بالجرم المشهود، حين التقط الكتاب الذي كان بيدها، يتحدث فيه غسان كنفاني عن حادثة اغتصاب إحدى الفدائيات: "أستعيد صورته، يقفل الصفحة متطيراً من عبارة محوطة بالأحمر ـ لقد ضاجعوني تسعة أيام ـ منغلقاً على صمت أحدَّ من التعنيف، جامداً أمامي، كأنه مثلي أشدُّ يأساً من أن يهددني بالطرد من بيته" ص194. فلعل ذلك كان سبباً في تأجيج هذا الكره في قلب الأب. فلا تتوانى الرواية بلسان سبيل عن نقد هذا التشدد الديني وطريقة "الأجاويد" في التعامل مع الناس، كأنما هم وسطاء عند الله، وقيّمون على الجنة، حتى يصل الأمر إلى نقد توريث مشيخة العقل في جبل العرب. يقول عمُّها نجيب مخاطباً الأجاويد: "لو تقبلون يا معشر الأجاويد أن أستلم ديني من رب العالمين وحده بلا وسيط، لن أتأخر لحظة، لكن عقلي لا يقبل أن أستلم ديني من شيخ عقل وصل إلى المشيخة بالوراثة" ص214.
وربما كانت أعلى درجات الشعرية التي يمكن أن يصادفها القارئ في هذه الرواية حين تلتقي سبيل بتميم، زميلها في الجامعة زاباروجيا فتنداح الشاعرية فيضاً لا تقف في وجه اندياحه سدود: "انحدرت أصابعه صوب كتفي إلى ظهري، من فوق معطفي الجوخ، وعادتا نحو أذني من جديد، قرّب وجهه، لفحتني أنفاسه شديدة الحرارة، تخالطها رائحة البيرة على حموضة، سرت نمال إلى عنقي الذي ما زال مشنوقاً بشال الصوف الأسمر، زحزحه تميم قليلاً، يفسح ليديه أن ينسلا من تحته..." ص221 وما تلبث اللغة أن تلدغك حرارتها. فتكاد تذهب بك بقوة اندفاعها إلى أمداء من فيض سحري مجنون: "تنبت في عينيه عروق حمراء صغيرة، تتصلب يداه، يطبق بيدي على وسط حوضه المنتفخ تحت البنطال الجديد، المتصلب كصلصال مشوي، الساخن ككأس شاي يشتهيه بردان، مدهش الملمس تحت يدي، كأنه منقار جنيّ. أضغطه فيموج، بين ضغط يدي وارتخائها يميد العامود كأفعى سعيدة، يغريني بالتشبث به وأنا سعيدة..." ص222. ربما كانت هذه الصفحات التي تناولت تلك الحميمية بين سبيل وتميم هي أكثر الصور دلالة وصدقاً على ذلك الاندفاع الذي يعيشه الشباب في تلك المرحلة العمرية وقد خرجوا من نطاق الرقابة الصارمة، وبخاصة تلك الرقابة التي كانت تعيشها سبيل في بيت يغلق نوافذه جميعها على الحياة خارج كتب الحكمة. وربما كان ذلك الانغلاق ناتجاً عن مسألة هامة تتعلق بالتابو الجنسي في المجتمعات الغلقة. فالحديث عن الجنس والأنوثة والنزعات الطبيعية بين الجنسين تجاه الأخر تعدّ من الحرمات: "فالحديث عن الجسد محظور، الأنوثة ذاتها عيب، والصمت عنها هو التعبير الصريح عن عدم الاعتراف بها، صمت أشدّ ثقلاً من أية مكاشفة" ص244 ولهذا كان استخدام الإيماءات غير الصريحة للتعبير عن أعضاء الجسد جزء من هذه التعمية: "النطق باسم عضو أنثوي يخالف الأدب، والحال أصعب مع الفرج، اسمه "هذاك المطرح" ص245. ولذلك فإن اللجوء إلى تحريف بعض الكلمات والأفعال الجنسية جزء من هذه التعمية. فكلمة شرطوطة بدلاً من شرموطة، وكلمة "بس، أو هس" بدلاً من الكس. والعضو الذكري للطفل عزيزة، أو زوزي. فالفصل المتعلق بهذه التعميات في المجتمع النسائي غاية في الإمتاع والبلاغة. ص245 وما بعد
ولا بد من الإشارة إلى أن الرواية تنطلق في أبهاء رحبة حينما تتحدث عن هواجس القلوب فتراها تنقل سفراً زاخراً باللهفة في لقاء سبيل وتميم في تلك المدينة الأوكرانية، ثم ما تلبث أن تعود إلى تلك اللهفة بحرارة أكثر مع عماد في الدورات الصيفية قبل البكلوريا حيث يجتمع مزيج من الطلبة شباباً وصبايا لتكون دورة التقوية ساحة صراع بطلتها سبيل. وتتصاعد الشاعرية في الرواية حتى تحلق بالقارئ على أجنحة الأثير: "ظننتني أقفز عن الأرض شبرين، لكنني لبثت جامدة، سقط الخبر عليّ هادئاً كما لو أنني أكشف عن عجين طوّعته بالدلك وزودته بخميرة تكفي فلا يفاجئني انتفاشه..." ص292 وتخفت حتى تظنك تقرأ تقريراً صحفيا حين تتحدث عن السير في مطبات العذل وتكسير المجاذف. ومن جميل ما في الرواية من توشية السرد بأغنيات ومقاطع من كتب وأقوال بعض المشاهير تكسب النص مزيداً من الرواء؛ تلك الأغنية لامرأة روسية تسير حافية فوق الثلج تنادي حبيبها: "يا حبيبي خذني معك في هذا السفر سأكون زوجتك لكن عندي زوجة خذني إذاً أختاً لك ـ كذلك عندي أخت خذني إذاً غريبة تصحبك" ص335 وإذا علمنا أن سبيل قد تذكرت هذه الأغنية خلال رحلة جميلة مع صديقها تميم؛ أدركنا متانة الربط بين الأغنية والحالة النفسية التي تعيشها سبيل مع صديقها.
وتعالج الرواية مسألة في غاية الأهمية تنحصر في المعاملة القاسية من قبل الأب تجاه بعض الأبناء ما يولد رد فعل يؤدي إلى الرغبة بالانتقام. لقد عانت سبيل من قسوة الأب وطالما تذكرت عبارته: "عاصية، يلعن خلقتك، على النار كرفتة" ما أدى إلى أن تتمنى له الموت في كثير من المواقف، وهو أصعب ما يمر به الأبناء مع الآباء. غير أن هذه الأمنية ما تلبث أن تتوارى حينما يبدي الأب بعض الالتفات ما يشي بقسة الحرمان من حنان الأب. وبالإضافة للعلاقة سبيل المتأرجحة بأبيها فقد رسمت الرواية بكفاءة عالية الضغوط التي مورست على سبيل من أجل ثنيها عن مشروع سفرها حتى من الآنسة فدوى التي كانت سنداً قول لها: "أنا ما ربيتك هيك، أنا غضبانة عليك" ص312. وإضافة لذلك فقد رصدت الرواية الصراع بين سبيل وأبيها حيال سفرها بكفاءة عالية.
والآن كيف تعاملت الكاتبة مع نصها الجميل؟ وما هي الأدوات التي استخدمتها لتوصيل ما أرادت إيصاله؟ ولعل أول ما يمكن ملاحظته في السرد أن الأحداث لا تسير وفق التراتب الزمني فهذه المشاهد التي تتذكرها وهي في القطار الذي يتجه بها إلى زاباروجيا حيث جامعتها كثيراً ما تعود بها خطفاً إلى السويداء والبقرتين والعلاقة مع الأم والأب والأخوات. وثمة تلميح بارع يغني عن التصريح في كثير من مفاصل الرواية: "كان أبو ذيب مختصاً بالحلاقة، وقلع الأضراس وأشياء أخرى تخص الصبيان" ص 28. والحديث على لسان طفلة توخياً للأدب الذي ينبغي أن تكون عليه الطفلة من ذكر ما تعتقد أنه يخدش الحياء، أي عملية الختان لدى الصبيان. كما لا بد من ملاحظة العناية برمزية المكان من خلال تصوير اللباس الشعبي للنساء، فتصف أمها قائلة: "تمشي فتبرق تنورتها العربية، زاهية الألوان بكسرات رشيقة تمتدّ من خصرها إلى الأرض. وفوقها مملوك معقود على خصرها، بمتانة " ص28 وثمة حرص على إنطاق الشخصية بما يناسب مستواها العمري وافكري. فالطفلة تتحدث بعفوية الصغار: "سمح لنا مأمون أن نلتهم ما شئنا من أكواز التين واغتنم الفرصة لينزل سرواله ويرينا فخوراً أن الحلاق أبو ذيب قد شذب حمامته، ولم يقصّر من طولها" ص28 وكثيراً ما وظفت الرواية الأمثال الشعبية في خدمة النص لما لها من أثر في رسم ثقافة بيئة الرواية. فالعناية برسم البيئة يسبغ مصداقية على العمل الروائي: "لم يعجب فرم البقدونس ستي مهجة، هيك خشن مش راح تقبله الآنسة. المثل بيقول: "اتقن شغلتك ولو كانت سخرة" ص138 ولا بد من الوقوف عند مراعاة الحالة النفسية في تصوير انفعال الشخصيات. فحينما أرادت الكاتبة أن تصور اللهفة في حديث تميم الذي فاض به لسبيل في المقهى، لجأت الكاتبة لحذف واو العطف من تلك الجمل المتتابعة الذي افضى بها تميم. وهي محاولة بارعة لنقل تلك اللهفة عبر تداعي انفعالاته. لقد كان لحذف واو العطف قدرة فائقة في نقل النبض الذي كان يتسارع في قلبي تميم: "قال أحبك...أريد أن نكمل مشوارنا سوى. قال رايتك أيام نادينا الثقافي كأيقونة. قال... نويت السعي بكل ما أملك..." ص341. فتتابع فعل قال دون حرف العطف أتى بفعل قصدي على وقع دقات القلب. ولا بد من ملاحظة قدرة الكاتبة على تمثل البيئة بكل مفرداتها وبخاصة اللهجة الشعبية والأمثال المصاحبة لوقوعات الحياة اليومية.
وبقيت مسألة عدم التقيد بالتتابع الزمني، فهي من إحدى خواص السرد، لكنه في هذه الرواية لا يتيح أمكانية تتبع نمو الشخصيات نمواً تصاعدياً، أذ تبرز الشخصيات في أدوار عمرية مختلفة بعيداً عن الترتيب العمري. وذلك على شكل بانورامي يعرض المراحل الحياتية للشخصيات على دفعات دون التقيد بالنمو الذي يفصح عن طبيعة تطور الشخصيات
وكثيرا ما دخلت الرواية في مسارات الإيمان وانتقدت نظرة الدين لخلق الكون، مستندة إلى مقولات دين التوحيد. ونظرة دين التوحيد للخلق وتفنيد نظرية التقمص مستفيضة في بسط عقيدة التوحيد مما يرهق النص دون أن يقدم ما يمكن أن نعتبره ضخ ماء جديدة في بنية النص الروائي. كما تتطرق الرواية في أحد فصولها إلى حادثة اغتيال الرئيس السوري السابق أديب الشيشكلي في البرازيل على يد أحد أبناء السويداء. وربما كان إقحام هذه الحادثة في النص الروائي يشكل عبئاً أكثر مما يغني السرد. إلا أن ما أنقذ النص أن الرواية انتقدت ما صاحب الحادثة من فخر بهذا العمل من أهازيج. بيد أن الحادثة بحد ذاتها لا تخلو من سوء الإقحام. وما صاحب ذلك من العزف على المظلومية الدرزية.
أخيراً فإن دخول الشيخ أبي حمد محسن الملحم والأستاذ نبيل الملحم على الخط ربما يرشحان الرواية في كثير من مفاصلها إلى الدخول في مسألة التجنيس الأدبي، لتلتبس الرواية بالأدب السيري. وما يرشح لذلك دخول هاتين الشخصيتين المعروفتين على مستوى محافظة السويداء على النص كعنصرين فاعلين في إعطاء ما يشبه الفتوى من الشيخ الجليل المرحوم أبي حمد محسن الملحم بجواز واستحسان دراسة الفتاة للطب. ولا تخلو بعض فصول الرواية من يوميات تشير إلى وقائع تاريخية لا تخدم العمل الروائي وتخرجه من أدب الرواية إلى أدب المذكرات اليومية. ومن ذلك الفصل المتعلق بوفاة المرحوم سلطان الأطرش وما صاحب ذلك من تفاعل من قبل الطلبة في مدارس السويداء. ص228 وما بعد وقد أثار تساؤلي إدخال أغنية فيروز "وقف يا أسمر" التي كان يغنيها والد سبيل أثناء حفره لخط المياه. فما هي رمزيتها؟ وهل يستقيم ترديدها من قبل الشيخ حسن الديان مع ما رسمته الرواية له من التزام بالوقار لدرجة التعصب؟ كيف يتفق أن يغني لفيروز "وقف يا سمر في إلك عندي كلام". فحينما نرسم الشخصية الروائية لا نستطيع الخروج عن النمط الذي اخترناه للشخصية، كما لو أننا نرسم شخصية شيخ معمم يرتدي بنطالاً. وكل الاستشهادات بأغاني فيروز مقحمة لم يُحفر لها مكان مناسب في السرد الروائي. ص 166 كما تنقل الرواية صورة ليست دقيقة عن مجتمع السويداء حول النظر لغير الدروز من مجتمع السويداء حين تتحدث سبيل عن نظرة الطالبات للباسهن: "وجِلت البنات منا، نظراتهن كانت أقبح من شتيمة، تهامسن أننا ربما إسلام مش دروز. من جماعة أغراب السنة" ص168. والصحيح أنه لم يحدث ونحن أطفال في أواخر الخمسينيات أن شعرنا بهذا الشعور، وتوجسنا ممن يختلف عنا في العقيدة. كما أن الرواية تغالي في رسم صورة وتصرف بعض المعلمات: "طلبتُ من الموجهة أن تدرجنا في شعبة اللغة الإنكليزية... أجابتني وهي تطقطق في بالعلكة في فمها: وتتطلّبين أيضاً؟ ألا يكفي أننا قبلنا بك" ص168 فهذه الصورة للمعلمة هي صورة مغرقة في استثنائيتها. وربما كانت صورة الأهل الذين يعتبرون القراءة في كتاب ما جريمة تستوجب العقاب: ""كلتانا متورطتان بالقراءة وإخفاء الأدلة عليها عن أبي" ص180 وثمة إقحام حوادث إقحاماً غير محكم كما في حاثة الشابين القاصرين اللذين انتقما لشرفهما بقتل أختهما التي اختارت الزواج من بدوي. ص186
وفي نهاية المطاف لا بد من الإشارة إلى أن كثيراً ما تبرز هوية الكاتبة الشخصية في النص السردي حتى تقترب الرواية من النص السيري. وفي رواية نجاة نجد ملامح بعض شخصيات واقعية تجلّى ذلك بالمرحومة الأستاذة الفاضلة فدوى سنيح التي أجادت الكاتبة في رصد دورها التربوي. والشيخ الجليل أبي حمد محسن الملحم والصحفي نبيل الملحم. ما يشير إن أن الرواية تقترب أحياناً من السيرة الذاتية إن ذلك أشكال الذي يتمثل في عدم قدرة القارئ على الفصل بين بطلة الرواية سبيل، وبين شخصية الكاتبة ربما يظل موضع تساؤل. ذلك حينما لجأت الكاتبة إلى سرد سيرتها الشخصية أو ما يشبه سيرتها الذاتية التي تتداخل مع بطلة الرواية سبيل التي أوفدت إلى اكرانيا لإتمام دراستها، ما يتطابق تناماً مع السيرة الشخصية للدكتورة نجاة التي نالت شهادتها من أكرانيا في الاتحاد السوفييت سابقاً. وما يوطئ للرأي السابق أمران: الأول السرد بضمير المتكلم "أنا" والثاني التطابق بين سيرة سبيل وبين سيرة الكاتبة.
وخلاصة القول إن كل ما ذكر من ملاحظات لا يخفف من حرارة هذه الرواية وقدرتها على أن تحفر لنفسها مكانا بين الأدب الروائي الرفيع
#فوزات_رزق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل استطاع أحمد الشرع أن يسحب بساط السياسة من السويداء؟
-
قراءة نقدية لرواية صائد اليرقات للكاتب أمير تاج السر
-
قراءة في رواية نساء الخيال للروائي ممدوح عزام
-
تقاسيم على وتر المأساة السورية
-
هل سيكون اقتحام السويداء في 13 تموز نهاية أحمد الشرع؟
-
أنا لست نادماً لكنني حزين ومحبط
-
الخيميائي بين استحضار التراث والقيمة المضافة
-
هل بتنا في عصر ما قبل الدولة؟
المزيد.....
-
انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
-
انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب 2025
-
لا أسكن هذا العالم
-
مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
-
بيان إطلاق مجلة سورياز الأدبية الثقافية
-
سميّة الألفي في أحدث ظهور لها من موقع تصوير فيلم -سفاح التجم
...
-
عبد الله ولد محمدي يوقّع بأصيلة كتابه الجديد -رحلة الحج على
...
-
الممثل التونسي محمد مراد يوثق عبر إنستغرام لحظة اختطافه على
...
-
تأثير الدومينو في رواية -فْراري- للسورية ريم بزال
-
عاطف حتاتة وفيلم الأبواب المغلقة
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|