|
تقاسيم على وتر المأساة السورية
فوزات رزق
الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 17:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أنا في حالة اللاوزن، لم أعش هذه الحالة قبل الآن. ليس لدي رغبة في أن أكتب شيئاً في ملفاتي المفتوحة، فقد اجتاحني شعور من الألم، لا أكاد أصدق ما يجري على أرض الواقع، لكأنني في حلم. أشعر أن همّاً شخصياً فرض عليّ كي أنقل انفعالاتي بالضمير المفرد، ناسياً أن ما أحمله هم جمعي.
هأنذا أقلب صفحات الفيس، وأراقب انفعالات السوريين، فلا أجد غير الشتائم وتبادل الاتهامات. لا أدري كيف يستطيع السوريون أن يعيدوا بناء دولتهم في هذا المناخ الموبوء، وهذا التنافر والخصام. لا بد لي وأنا أعيش هذا الخصام أن أتذكر عملين أدبيين رائعين يتحدثان عن هذه الحالة التي يعيشها السوريون هذه الأيام. أولاهما رواية اليوناني نيكوس كازانتزاكيس "الأخوة الأعداء"، والثانية للسوري فواز حداد "السوريون الأعداء". لقد صوّر هذان العملان بحرفية حاذقة ما يشبه الحالة السورية التي نعيشها الآن، وبخاصة عمل فواز حداد الذي تحدث عن المجازر التي اركبها حافظ الأسد بحق المدنيين عام 1982
وبالعودة إلى حالة اللاوزن التي أعيشها؛ هل جربتم هذه الحالة؟ إن الكثير من السوريين يعيشونها، أقصد أولئك الذين خرجوا من ثوب الطائفة والإثنية وارتدوا ثوباً سورياً على ظهره الخارطة السورية بمساحة 185 ألف كم مربع، وعلى صدره عبارة "الشعب السوري واحد". وأكاد أجزم أن أحداً من الذين ما زالوا يعيشون حقبة ما قبل التاريخ سوف يخرج إليّ بخطاب طائفي مقيت. يستعرض فيه عضلاته على أخيه السوري من الأم والأب. لم يشهد المجتمع السوري هذه الحالة من التنافر وعدم الانسجام التي يعيشها السوريون هذه الأيام. لقد وحَّدَنا نظام الأسدين ضد كل ما من شأنه أن يرسخ مبدأ الانقسام، وكمِّ الأفواه، وزجِّ المعارضين في غياهب السجون لأتفه الأسباب، فغدا أكثر السوريين في جهبة واحدة ضد حالة القمع تلك. وجاء النظام البديل كما نقول في المحكية: "بدل ما يكحلها عماها. ووضع فوق الدكة شرطوطة، وبعد الحمّة زمهرية". لقد أصر أن يفرقنا أيادي سبأ، وأن يجعلنا شيعاً وقبائل لا نتعارف، فأخذ السوريون الأحرار يقولون: "تزوجنا لننستر، سقى الله على أيام الفضيحة"
منذ دخول هيئة تحرير الشام في الثامن من ديسمبر كانون الأول عام 2024 بادرت السويداء لمد اليد باتجاه دمشق، وكانت بعض فصائل السويداء قد سبقت هيئة تحرير الشام في الدخول إلى دمشق في السابع من ديسمبر الفائت. بيد أن نية أحمد الشرع وسلطته كانت منطوية على الغلّ، إذ لم يكن لديها استعداد ومرونة كي تتعامل كسلطة مركزية تحفظ حق المواطنة للسوريين كافة بعيداً عن التصنيفات المذهبية والإثنية، ومن جانبه أحمد الشرع لم يكن باستطاعته أن يكون رئيساً إلا لمكون واحد من المكونات السورية. وظهر ذلك في كثير من الترتيبات التي وضعها منذ بدء اضطلاعه بمهمة الرئاسية المؤقتة. واللافت أننا لم نرَ في حكم الأسد هذا التنافر بين فئات الشعب السوري على اختلاف منابتهم وشيعهم. صحيح أن آل الأسد استأثروا بالحكم، وخلقوا حولهم مافيات سرقت البلاد، وأرهقت العباد، وكثرت الولاءات والتحكم بمصير الناس. كل هذا صحيح وكثير غيره؛ لكن ما الذي حدث بعد الأسد، حين كان السوريون ينتظرون بلهفة رحيل الطاغية؟ لقد جاء الشرع بعقيدة لا تقبل القسمة. يحمل معه فريقاً جاؤوا من مجاهل التاريخ، يحملون أفكارهم العدمية، يريدون فرضها على الناس بـالسيف كما صرح الكثيرون منهم، دون الحاجة لإيراد عباراتهم الفجة وشعاراتهم العنصرية. حتى بات السوريون المعتدلون يقولون في معرض المقارنة بين نظام الأسد ونظام الشرع: كلا الأخوين ضر... ولكن شهاب الدين أضر... من أخيه
ولعل ما حدث في السويداء يشير بشكل قاطع إلى نية السلطة الجديدة على تفكيك البنية السورية التي كانت قبل اليوم في أشد حالات التلاحم، إن كان في عهد آل الأسد، أو ما قبل آل الأسد. فقد دأب نظام الأسد طوال سنوات الثورة، منذ عام 2011 على بث روح الفرقة بين الموحدين الدروز والعشائر في السويداء، فباء بالفشل. فكان الفريقان يفوتون الفرصة على النظام في كل مرة. وقد شهدت ساحة الكرامة في السويداء مشاركة واسعة فعالة ودائمة من عشائر السويداء، ما يؤكد على اللحمة الوطنية، وأن العلاقة بين الموحدين والعشائر كانت في حالة انسجام تام. والمرة الوحيدة التي نجح فيها نظام الأسد في إيقاد نار الفتنة كان عام 2000 حين حرّك عملاءه من العشائر. لكن الانتماء السوري لدى الطرفين من الدروز والعشائر نجح في لملمة الجراح، وتطويق تلك الفتنة.
ومن جانب آخر فإن العلاقة بين الموحدين والعشائر كانت عميقة الجذور على مدى التاريخ، وكان التعاون قائماً بين الموحدين والعشائر على أسس المصالح المشتركة. إذ كان الموحدون الدروز يوكلون رعاية مواشيهم للعشائر مقابل ربع الانتاج من خلائف القطعان، وهو ما اصطلحوا عليه بـ "الفلاج". والأكثر من ذلك؛ فقد كانت نساء الموحدين الدروز "يعزبن" وينصبن خيامهن في الربيع بين خيام عشائر البدو. ويبقين في حماية رجال هذه العشائر طوال موسم الربيع من أجل القيام بمهمة حصد موسم القطيع من السمن واللبن والصوف. وترسيخاً للعلاقة الوثيقة بين البدو والدروز هناك قول سائد في الجبل: "الراعي من أهل البيت" يدخل دون استئذان، ينام في المضافة ويأكل، وتوكل له مهمات أسرية. فهل هناك دلالة أكثر من هذه الدلالة عن الانسجام الذي جاءت سلطة الشرع لتخريبه وتأجيج نار الفرقة بين الفريقين؟!
ولو عدنا إلى علاقة الموحدين الدروز بالعشائر عبر التاريخ لوجدنا تلك الأواصر التي كانت قائمة على وحدة المصير، ووحدة الهم المشترك. فقد شهد التاريخ تحالفات ما بين الموحدين الدروز والكثير من العشائر. ولا بد في هذا المجال من ذكر شخصيات بدوية سجلت اسمها بحروف من نور في الثورة السورية الكبرى. وهنا يأتي ذكر خلف الجوزي من قبيلة العظيمات. فمن هو خلف الجوزي؟ عندما نزح الثوار إلى النبك في صحراء السعودية بعد الثورة السورية الكبرى 1927 كان بين الثوار المرحوم أبو حسن يحيى رزق، وأبو حسين محمد رزق. وكان خلف الجوزي من عشائر البدو الذين تربطهم صداقة بهؤلاء الأهل. كان خلف الجوزي يحمل الزاد والمتطلبات على ظهر جمل؛ إضافة إلى الرسائل بين الثوار في المنفى والأهل في الداخل، ويتجه من ملح الواقعة جنوب شرقي السويداء متجهاً بحمله إلى النبك بمسير يوم كامل لرفد الثوار بما يحتاجون من الزاد وغيره من المستلزمات، وإيصال الرسائل بين الثوار والداخل السوري. وكثيراً ما ألقت الدوريات الفرنسية القبض على خلف الجوزي، وكان يتخلص منها بفطنته مرة، وبجسارته مرة أخرى. حتى أنه اضطر إلى التهام الرسائل التي كان يحملها للثوار درءاً لوقوعها بيد إحدى الدوريات الفرنسية. أخيراً ألقي القبض عليه دون أن يتمكن من تخليص نفسه. وزجوا به في سجن صلخد. وضربوه مئة عصا بالعدد كي يفشي عن علاقته بالثوار فأبى. وقد أطلقوا على هذه العصا التي كان يُضرب بها حلف الجوزي "أم خلف" وكان الجنود الفرنسيون يهددون بها السجناء حينما يخالفون الأوامر بقولهم: الآن سنأتيك بأم خلف.
وقد ذكر الدكتور فندي أبو فخر في كتابة " انتفاضات الشام على مظالم إبراهيم باشا" كيف تحالف الموحدون الدروز بقيادة الشيخ إبراهيم الهجري مع قبيلة السلوط بزعامة الشيخ ارشيد الحميد في مقاومة جيوش إبراهيم باشا في حملته على جبل العرب عام 1837. وقد تحدثت عن هذه الواقعة في كتابي "حكايات الأمثال وأصول التعابير الشعبية" الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب. نشر إلكتروني"، وذلك في حكاية المثل "كفك محنّى يا ارشيد" هذه العبارة التي غدت مثلاً شعبيا يطلق للتعبير عن حسم الأمر بنجاح. وقد جاءت في معرض مدح الشيخ إبراهيم الهجري للشيخ ارشيد الحميد والإشادة ببطولته التي أبداها في موقعة "غروة" ضد جيوش إبراهيم باشا المصري جنباً إلى جنب مع الموحدين الدروز إذ أنشد الشيخ الهجري: كفك محنى يا أرشـــــــيد وبيكم للجنة يا أرشـــــيد يا ارشيد الغاوي يا ارشيد يا بو يحيى يا عنيــــــــد يا بطل وانت الصنديـــــد عن وجه العرضي ما تحيد وبالفرسي إلكم عادات واللافت أن الشيخ إبراهيم الهحري "الدرزي" يبشر ارشيد الحميد "البدوي السني" بالحنة، خلافا لما هو قائم من اختلاف في المعتقدات.
وقد دونت في كتابي "حكايات تروى في جبل العرب" الصادر عن الهيئة السورية العامة للكتاب حكاية الشيخ حمود الجربا شيخ قبيلة الجربان، الذي جلا عن مضارب قبيلته في العراق لخلاف جرى بينه وبين قبليته، وبحث عمن يجيره، كما جرت عادة القبائل، فلم يجد غير الموحدين الدروز في "الضلع"، فاتجه من العراق قاصداً "الضلع" أي جبل العرب، معلناً أنه يسير بحماية الدروز كيلا يتم الاعتداء عليه في رحلته إلى الضلع. والحكاية ما زال يتناقلها الموحدون الدروز في مضافاتهم، والعشائر في دواوينهم
أردنا من هذا لاستعراض أن نبين أواصر العلاقة الحميمة بين الموحدين الدروز والعشائر البدوية التي لم تشهد عبر التاريخ ما شهدته على يد العشائر التي استنفرها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ضد الموحدين الدروز، ولم يجد الشرع حرجاً في أن يشكر العشائر على ما قاموا به في السويداء من قتل وسلب وانتهاك الحرمات، شاكرا لهم نخوتهم العربية، معتبراً أنهم لبوا نداء الواجب لتحرير السويداء. وقد وثق النشطاء في السويداء هذا الجرائم بالصوت والصورة كيلا يكون هناك مجال للتنصل من هذه الجرائم أمام الهيئات الدولية المعنية بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
#فوزات_رزق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل سيكون اقتحام السويداء في 13 تموز نهاية أحمد الشرع؟
-
أنا لست نادماً لكنني حزين ومحبط
-
الخيميائي بين استحضار التراث والقيمة المضافة
-
هل بتنا في عصر ما قبل الدولة؟
المزيد.....
-
رجال الإطفاء يسيطرون على حريق غابات مهول بعد اندلاعه قرب إحد
...
-
حرائق تجتاح أوروبا: دمار واسع وعمليات إخلاء جماعي وسط موجة ح
...
-
ابتكار طبي لافت: زرع أنسجة بشرية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعا
...
-
عون للارجاني: لبنان منفتح على إيران في حدود السيادة والاحترا
...
-
آخر صانع طرابيش في لبنان..هل تندثر هذه الحرفة التقليدية؟
-
8 شهداء بيوم واحد في مجاعة غزة والاحتلال يستهدف لجان تأمين ا
...
-
احتجاج نادر في الصين يكشف تقاعس الشرطة والسلطات المحلية وينذ
...
-
نيويورك تايمز: روسيا مشتبه بها في اختراق نظام ملفات المحكمة
...
-
كاتب روسي: ازدواجية معايير ترامب بالتعامل مع الدكتاتوريين ته
...
-
هل تنهي العدالة الانتقالية في سوريا الإفلات من العقاب؟
المزيد.....
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|