|
أنا لست نادماً لكنني حزين ومحبط
فوزات رزق
الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 14:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حينما نكتب ذلك نكون في حالة محاسبة مع الذات وذلك عبر أسئلة هامة: إلى أية درجة كانت تشكل الطائفة جزءاً من كياننا وتفكيرنا؟ وهل كنا يوما طائفيين؟
في عام 2012 استضافت السويداء موجة جديدة من السوريين الذي هربوا من نيران بشار الأسد. كانوا خليطاً من السوريين من مختلف المحافظات. دخلوا السويداء بثيابهم التي على رقابهم فقط، وبأقدامهم الحافية، ودموعهم التي لا تكاد تمهلهم. كان بينهم. كان بينهم شيوخ أرهقتهم السنون، ونساء يجتررن مآسيهم، وأطفال انقطعوا عن مدارسهم، ولا بد أن يعودوا إلى دراستهم، دون أن يمتلكوا مقومات متابعة الدراسة. وكنت حينها قد تسلّمت المبلغ المالي عن جائزة الآداب من وزارة الثقافة. ولولا هذا المبلغ لما كنت قادراً على مد يد العون لأولئك الأطفال كي يستأنفوا دراستهم، فهم ثروتنا الباقية. فاشتريت بما تيسر لي من تلك الجائزة قرطاسية تكفل عودة هؤلاء الأطفال إلى المدارس، وبعض الشيء خير من لا شيء.
وما إن علمت أجهزة الأمن بالأمر من خلال توافد أهالي الأولاد إلى البيت لاستلام مخصصات أطفالهم، حتى هاجمت البيت بقون من الأمن السياسي والأمن الجنائي، ونجوت أنا وعائلتي من قبضتهم قبل أن يطبقوا الخناق علينا. في حين دخل الأمن إلى البيت، وصادر المشتريات بعد أن قلب البيت راساً على عقب، ودخلوا مكتبتي فلم يعثروا إلا على الكتب التي أنزلوها من رفوف المكتبة، يريدون أن يبحثوا ربما عن أسلحة بين هذه الكتب المصفوفة في إدراجها. لكنهم لم يعثروا خلف صفوف الكتب إلا على الرفوف التي تشكو الفراغ والعري، والهواء الذي يصفق وجوههم. فغادروا المكتبة، ولم يبق إلا آثار أقدامهم بين الكتب التي تبعثرت في أرجاء المكان.
لم تكتف السلطة آنذاك بهذا الاستقواء، فأحالتني مع ابني إلى المحكمة بتهمة النيل من هيبة الدولة، ومساندة الإرهاب. وأنا حتى ذلك الوقت لم أدرك أن مساعدة الأطفال ليعودوا إلى مدارسهم عمل يرقى إلى النيل من هيبة الدولة ويصب في خانة الإرهاب.
من جانب أخر كانت ابنتي وأخواتها قد جندن أنفسهن مع أخريات لخلق مناخ نفسي للنساء النازحات اللواتي تركن خلفهن بيوتاً عامرة في أرياف دمشق ودرعا والحسكة ودير الزور وغيرها من المحافظات السورية، فأقمن لهن جلسات دعم نفسي، تخللها الحكايات الطريفة والمؤلمة بآن، كي تفصح كل واحدة منهنّ عن معاناتها، في جو أسريّ حميم. وأقمن لهن دورات للأعمال اليدوية، وتكفلن بتصريف أعمالهن خارج القطر، ليكوّن مردودها المادي دخلاً لأولئك الذين تركوا أرزاقهم وهربوا.
لم نكن نحن الوحيدين الذين خففنا لمساعدة هؤلاء السوريين النازحين، أردنا أن يشعروا أنهم بين أهلهم وذويهم، صحيح أننا لم نستطع أن نمحو الحسرة والألم من نفوس أولئك البائسين، لكننا على الأقل استطعنا أن ننتزع الخوف ونزرع مكانه السكينة والأمل.
لقد تشكلت في السويداء أكثر من مجموعة لجمع التبرعات والدعم النفسي. كانت تأتينا التبرعات من أبنائنا المغتربين. وقد قمت بإحصاء المبلغ الذي وصلني من المغتربين في الكويت على سبيل المثال، فزاد عن ثلاثة ملايين ليرة سورية حين كان الدولار لا يتعدى الخمسة والأربعين ليرة. لم نكتب ذلك تفاخراً، فلا يجوز التفاخر حين القيام بالواجب، بل على المرء أن يشعر بالخجل حينما يقصر عن أداء واجبه.
تذكرت كل ما سبق وأنا أتحدث ما ابنتي التي ما زالت في السويداء. كانت تحدثني والدموع تغالب بسمتها كيلا تثقل عليّ أنا ذلك الرجل الثمانيني الذي لم تُبق لي الحياة من مباهج الدنيا إلا أن أرى ذلك الوطن معافى، لا تحتكره طائفة من جهة البحر، ولا تجتاحه قبيلة من جهة الصحراء. وكل ما تبقى لي من أمنيات أن جده مضيئاً، تشرق الشمس على كل جزء منه، ليعم الضياء كل ذرة تراب فيه... عظيماً، لا يلغي فيه الإنسان الإنسان، فمن يلغي الآخر فسوف يكون عرضة للإلغاء... حراً، لا يحتله الوهم، ولا تحاصره الضغينة والحقد.
حدثتني ابنتي عن رجال الأمن العام التابعين لحكومة أحمد الشرع الذين كانوا يدخلون البيوت فيُخرجون أصحابها، ويباشرون نهبها. حدثتني عن رجال العشائر البواسل المؤمنين بالله ورسوله، اللذين جاؤوا من كل حدب وصوب لتطهير السويداء من رجس الدروز الخنازير الكفرة، وإعادتها إلى حضيرة الإسلام. حثتني عن أسواق السويداء المنهوبة عن بيوت السويداء المحروقة عن الجثث المتفسخة في الشوارع عن الدموع في عيون من تبقى من النساء والأطفال والشيوخ
غير أن حديثها عن تالا كان أكثر إيلاماً، تالا ذات الأربعة عشر عاماً والتي كانت تنتظر نتائج الشهادة الإعدادية. طالتها يد الغدر وهي بين والديها قبل أن تكتحل عيناها بفرحة النجاح. قالت لي ابنتي: أتذكر تالا ابنه صديقنا الدكتور حسام؟ أجل أذكرها منذ أن كانت طفلة لا تتجاوز السنتين. كانت أمها تحملها على خاصرتها وهي في عداد كروب يتولى مساعدة النازحين في السويداء من المناطق السورية المنكوبة. تلك الطفلة التي أبت إلا أن تساهم بحملة الإغاثة. تحمل ألعابها معها وتقدمهم عن طيب خاطر للأطفال الذين حرمتهم ظروف النزوح من متعة شراء الألعاب. تالا التي أصبحت صبية جميلة تبرعت بشعرها لإحدى مريضات السرطان، هل هناك من يشبه تالا في هذا الإيثار؟!
أسأل نفسي الآن السؤال الذي لا بد منه في هذا السعير الطائفي الذي اشتد أواره مع مجيء هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع الذي نصب نفسه رئيساً للمرحلة الانتقالية. تعالوا بنا نستقرئ التاريخ، هل حدث مثل هذا في تاريخ سورية المعاصر؟
حين غزا إبراهيم باشا المصري سورية في عام 1832 تخطى أسوار عكا ووصل دمشق. وأرد فرض التجنيد الإجباري وجمع الضرائب، فامتنع الدروز عن تأدية الضرائب وإرسال أبناءهم للخدمة في جيش إبراهيم باشا. فجرد حملة عسكرية عام 1837لتأديب الجبل. وتحالف الدروز بقيادة الشيخ إبراهيم الهجري مع عشائر السلوط بقياده الشيح ارشيد الحميد. وقد روى الدكتور فندي أبو فخر في كتابه "انتفاضات الشام على إبراهيم باشا" إحدى الوقائع التي كان الدروز وقبيلة السلوط "السنة" يقاتلون حملة إبراهيم باشا "السني" جنبا إلى جنب: "في إحدى هذه المعارك اشتبك الثوار مع قوات إبراهيم باشا في موقع "غروة" في منطقة اللجاة الوعرة، وشتتوا شمل الحملة. ولحق بفلول المنهزمين عدد من الفرسان السلوط، على رأسهم الشيخ ارشيد الحميد، يطاردونهم، ويعملون فيهم السيف. وحينما عادوا من مطاردة فلول الحملة، كان الشيخ ارشيد الحميد يرفع سيفه وقد تخضبت يمينه بالدم. ومعه أخوه الشيخ شحاذة الحميد. فحياه الشيخ إبراهيم الهجري بهذه الأبيات مرتجلاً: كفك محنى يا أرشـــــــيد وبيكم للجنة يا أرشـــــيد يا ارشيد الغاوي يا ارشيد يا بو يحيى يا عنيــــــــد يا بطل وانت الصنديـــــد عن وجه العرضي ما تحيد وبالفرسي إلكم عادات فأجابه الشيخ شحاذة الحميد أخو الشيخ ارشيد الحميد مرتجلاً: نادى الهجري ابراهيم نادى بالصوت العظيم حنا شفرات السيــوف بالمعارك باللــــــــجاة حنا شفرات الحديـــــد بالهنادي بالشــــلفات حميدة تعج الزغاريــد للنشامى أهل الصيت هلي بهم تغاويـــــــت باللقا يوم العـــــركات وما زالوا في الجبل يستخدمون عبارة "كفك محنى يا ارشيد" حينما يجهزون على أمر عصيب، أو ينتهون من عمل صعب فندي أبو فخر. انتفاضات الشام. ص76
وحين قامت الثورة السورية الكبرى عام 1925 رفع السوريون راية القتال تحت قيادة "الدرزي" سلطان باشا الأطرش. وقاتل الجميع تحت لوائه، مطلقين عليه: القائد العام للثورة السورية الكبرى. وحين عاد الثوار الدروز من منفاهم عام 1936 إثر توقيع المعاهدة السورية الفرنسية. استقبله الدمشقيون بحفاوة بالغة. ووصف الصحفي منصور أبو الحسن هذا الاستقبال لقوله: "جاء الثوار من مدينة عمان بالقطار، وتم استقبالهم في محطة القدم بدمشق بحشود شعبية كبيرة، وفرشوا الأرض أمامهم بالسجاد الأحمر، وكان سلطان الأطرش يركب في سيارة مكشوفة، ويرد على التحيات والهتافات الترحيبية للناس الذين اصطفوا على جانبي الطريق. وخلال مرور موكب الثوار في حي الميدان الدمشقي المجاهد، لاحظ المذيع الذي كان يتولى التغطية الإعلامية للاستقبال، أن النساء في حي الميدان، كن يقفن على جانبي الطريق وعلى الشرفات أو عند الأبواب والنوافذ وهنَّ يضعن النقاب على وجوههن للفرجة على الموكب ومشاهدة سلطان باشا. فما كان من ذلك المذيع إلا أن وجّه مكبر الصوت الذي كان بيده نحو أولئك النسوة، مخاطبا إياهن، وبأعلى صوته، و بتأثر كبير، قائلا : "يا أمهاتنا، ويا أخواتنا، ويا بناتنا! يا نساء دمشق! ارفعن النقاب عن وجوهكن، فهذا أبوكم سلطان". أي أنه من محارمكن". فأين نحن اليوم من هذه الحميمية.
أثمة بيان آخر بعد هذا البيان؟! أم أننا أمام فتنة اصطنها التكفيريون... فئة من السورين يملكون ذاكرة السمك حينما يرفعون العداء لمكونات أصيله من مكونات الشعب السوري، ويحملون فكر ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب. وجنودهم من شيشان وأوزبيك وتركسان، وحداؤهم الصريح: بالذبح جيناكم. فأية دولة يمكن أن تبنى على أيدي هؤلاء؟!
#فوزات_رزق (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخيميائي بين استحضار التراث والقيمة المضافة
-
هل بتنا في عصر ما قبل الدولة؟
المزيد.....
-
جذبت ملايين المعجبين.. لماذا غزت دمية -لابوبو- الصينية العال
...
-
لجنة تقصي الحقائق في سوريا تعلن نتائج تحقيقاتها في أحداث الس
...
-
-كفى لهذا الظلم وهذه الوحشية-.. أردوغان داعيًا لموقف دولي بش
...
-
بعد عقود من الجدل.. هل آن أوان إعادة الثقة في العلاج الهرمون
...
-
باريس تطالب بدخول الصحافة إلى غزة.. وكالاس: قتل مدنيين ينتظر
...
-
دخان الحرب يتصاعد من دير البلح: توغّل إسرائيلي يشعل جبهة وسط
...
-
البنتاغون يسحب كامل قوات مشاة البحرية من لوس أنجلوس بعد عودة
...
-
في بيان غير مسبوق.. وكالة الأنباء الفرنسية تحذر من الموت بال
...
-
حداد وطني وغضب في بنغلادش غداة مقتل 31 شخصا في تحطم طائرة عس
...
-
أسرار باريس | لآلئ من بحر التاريخ!
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|