محمد عبد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 8474 - 2025 / 9 / 23 - 00:17
المحور:
الادب والفن
لم يكن الكتاب الأحمر، الذي يرافق كتبي صباح كلّ اثنين، غير ديوان شعر، أحضره لتجديد استعارته أسبوعًا آخر. وكنتُ، على غير العادة، أسلك الطريق، ضحىً، إلى مبنى مكتبة الجامعة المركزية وحدي. وفي الصالة.. كنتُ، غالبًا، أجد مساحة للانتظار. لا أدري ما الذي يبقيني بعيدًا، أتطلّع إلى طلبة يقفون أمام طاولة عالية تفصل الصالة عن موظفي المكتبة. ومن هناك.. كنتُ أراها تتحرك بين الطاولة ورفوف الكتب، وأحيانًا تختفي في الداخل قليلًا. وفي طرفة العين التي أغفل فيها عنها.. أشعر أنها كانت ترفع رأسها لتراني.
أتذكّر أنها، وأنا أسلمها قصاصة ورق باسم الكتاب وعنوانه، نظرتْ إليّ. ثم قالتْ لي قبل أنْ تذهب لإحضاره: ثمة نسختان فقط منه، واحدة عندي.. يأخذها أخي معه إلى الحرب. وتابعتها تبتعد وشعرها المربوط يتراقص بين كتفيها كذيل فرس جموح.
يحدث ذلك في كلّ مرة أجدد فيها استعارة الكتاب. كانت تُخرج لي بطاقة الكتاب الآخر وتعرضها أمامي: أخاف أن يُفقد هناك. تقول ذلك وهي تتفحّصها، ثم تُعيدها إلى الدُرج. ثم تعيد تذكيري، وأنا أبتعد، بأنّ هناك نسختان فقط من هذا الكتاب.
حين عرضتْ عليّ مرة استبدال نسختي بنسختها، وكانت قد أحضرتها معها، لم أمانع. كانت تقلّبها.. ثم عرضتها أمامي وهي تقول:
- كلّ شيء في الحرب يبلى سريعًا.. حتى الكتب. وهي تخاف أيضًا. يقول أخي إنّه، مرّة، بحث عنه كثيرًا قبل أنْ يجده في زاوية من زوايا الموضع.. في حين أنّه كان بيده عندما بدأ القصف.
وإذ رأتني أنظر إليها مندهشًا.. أضافتْ:
- أنت لم ترَ الحرب بعد.
لم أجدْ ما أقوله. إلا أنّ الكتاب، وأنا أتناوله من يدها الممدودة، كان أخفّ من نسخته الأخرى. قلّبته بين يديّ وأنا أتابعها تدوّن التواريخ على بطاقة الكتاب. يحجب وجهَها عنّي شعرُها الذي تقصّه من الأمام كطفلة.
ذات ضحىً.. ذهبتُ لأعيد الكتاب بعد أنْ أنهيتُ قراءته. كعادتي.. وقفتُ بعيدًا. كانت الصالة فارغة.. وكنتُ أنظر إليها وهي ترتيب كتبٍ على رفٍّ قريب. حين تنبّهتْ إليّ؛ تقدّمتْ نحو الطاولة:
- لم أتوقع مجيئك. اليوم هو الأحد!
- جئتُ أعيد الكتاب.
بحثتْ عن بطاقة الكتاب. أعادتها إليه.. ثم ركنته مع كتب أخرى. شكرتها ومضيتُ وأنا أنتظر سماع عبارتها التي اعتادتْ أنْ تشيّعني بها. وقريبًا من بوابة المبنى.. استدرتُ. وجدتها تنظر إليّ:
- بقيتْ نسخة واحدة، فقط، من الكتاب.
حزيران 2021م
البصرة
#محمد_عبد_حسن (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟