أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أكرم شلغين - التعايش والاحترام














المزيد.....

التعايش والاحترام


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8472 - 2025 / 9 / 21 - 02:54
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كتابه الأشهر دليل حرب العصابات (1961)، شدّد الجنرال الكوبي ألبرتو بايو — الذي درّب كاسترو وغيفارا — على أن نجاح المقاتل لا يتوقف على السلاح وحده، بل على العلاقة مع السكان المحليين. ففي الفصل المعنون "العلاقات مع السكان" يكتب:
"يجب على المُقاتل أن يحترم عادات وتقاليد ودين السكان المحليين، حتى لو كانت غريبة عنه. الثقة تُبنى بالاحترام، لا بالقوة." هذا المبدأ لم يظل حبرا على ورق؛ بل يتردد صداه في شهادات لاحقة. ففي سيرة غيفارا التي كتبها جون لي أندرسون، نقرأ أن بايو كان يكرر أمام طلابه: "لا تحاولوا تغيير عقائد الناس، بل اكسبوا ثقتهم باحترام ما يقدسون" (1). أما في كتاب فيدل كاسترو حياتي، فيروي كاسترو نفسه أن بايو كان يوصيهم قائلا: "لا تضحكوا على صلاة أحدهم، فربما كانت صلاته هي التي ستفتح لكم باب بيته" (2). أي كانت تعليماته، وربما غير متوقعة لدى عدد كبير من الناس، تركز على احترام معتقدات الجميع، وخاصة الدينية. وكأن بايو يذكّر بأن الثورة الحقيقية لا تُبنى على السلاح وحده، بل على القدرة على احترام البنية الرمزية للناس الذين يعيشون بينهم.
وفي الصفحة الأولى من كتابه تفسير الثقافة، يذكّرنا الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز بأن التعامل مع ثقافات الآخرين لا ينبغي أن يكون من باب الاستخفاف أو المساءلة المتعالية، بل من باب الاحترام والتفهم، حتى حين تبدو ممارساتهم "غريبة" أو غير منسجمة مع منطقنا الخاص (3).
هاتان الرؤيتان — رؤية العسكري الثوري ورؤية العالِم الأكاديمي — تلتقيان عند نقطة واحدة: لا بقاء ولا معنى لأي مشروع إنساني إن لم يقم على احترام تنوّع البشر واختلافهم.
وهنا يمكن أن نستدعي مثالا من عمق تاريخنا السوري: تدمر. هذه المدينة الصحراوية، التي تحوّلت في القرنين الأول والثالث الميلاديين إلى عقدة تجارية عالمية، لم تكن لتزدهر لولا قدرتها على دمج ديانات وثقافات مختلفة في فضاء واحد. في معابدها كان يُعبد بعل شمين إلى جانب أغليبول ومالِكبل، وتظهر آلهة مثل اللّات وهي تُقارب بالإلهة الإغريقية أثينا. هذا "الدمج الديني" لم يكن مجرد ترف فكري، بل كان وسيلة عملية لضمان العيش المشترك بين التجار والقبائل القادمة من فارس، واليونان، وروما، والجزيرة العربية (4)(5). لقد فهم أهل تدمر باكراً أن احترام معتقدات الآخرين ليس ضعفاً، بل قوة استراتيجية.
وإذا وسّعنا المشهد إلى تاريخ سوريا ككل، نجد أن مدناً مثل أنطاكية وحلب ودمشق كانت مراكز ازدهار لأنها كانت مفتوحة أمام الأرمن واليونان والعرب والترك واليهود والمسيحيين والمسلمين. كلما ضاق الأفق وتقدّم التعصب، خبا الوهج. وكلما ساد الاحترام المتبادل، ازدهرت التجارة والفكر والفن (6).
لم يختفِ هذا الفهم العميق. فالصوفية تمثل عبر التاريخ الإسلامي مساحة روحية وفكرية رحبة تقبل الآخر وتؤكد على الوحدة الجوهرية للأديان، كما يظهر في فكر جلال الدين الرومي (7). وكذلك المفكرون المعاصرون حيث أنتجت المنطقة مفكرين كبار دافعوا عن هذا الفهم، مثل محمد أركون في مشروعه نقد العقل الإسلامي (8)، الذي دعا إلى قراءة التراث بمنظور أنثروبولوجي يفكك المسلّمات ويفهمها في سياقها التاريخي، أو أدونيس في نقده الثوري للشعر والتراث.
والعالم والتاريخ بدورهما يقدمان أمثلة مماثلة: في الأندلس، ازدهرت العلوم والفلسفة في لحظة "التعايش" بين المسلمين والمسيحيين واليهود (9). ولكن حين طغى التعصّب، كما في محاكم التفتيش الإسبانية، انهار ذلك الثراء وتحوّل إلى قمع وهجرة وخسارة للطاقات (10).
إن ما قصده بايو وغيرتز، وما تعلّمناه من تدمر والأندلس وتجارب التاريخ، هو أن الاحترام ليس مجاملة، بل شرط وجود. من لا يحترم الآخر لا يمكنه أن يفهمه، ومن لا يفهم الآخر لا يمكنه أن يتعايش معه، ومن لا يتعايش، محكوم بالانقراض أو العزلة.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخير والشر: معادلة الإنسان والكون بين الفطرة والضرورة
- جلنار والفراشة
- السوري… الحلم المؤجل والحرية الغائبة
- النقاء السياسي واللغة
- الاغتراب الجيلي وابتعاد الشباب عن الشأن العام في سوريا
- الروبوت الحامل: بين التحرر من العقم وفقدان قدسية التجربة الإ ...
- مأزق الساحل السوري: جذور وتداعيات
- مومياء الفارس
- اختطاف النساء
- السلطة الحقيقية: الثقة بدلا من الخوف و المساواة بدلا من التف ...
- حين تموت الأحاسيس ببطء
- المثقف المستقل والولاء للحقيقة في عصر الانتماءات الجامدة
- حين تُحرق الكتب وتنجو الأفكار: من ابن رشد إلى فهرنهايت 451
- الحرية والإبداع: ركيزتا التقدم ونهضة الأمم
- التسامح والمصالحة: قوة الأمم في مواجهة أحقاد الماضي
- الدين: من مصدر للسلام إلى أداة للصراع
- أرض تأكل أبناءها
- بين العنف والعفو: مقاربات أدبية وفلسفية في طبيعة الإنسان
- ونتساءل عن لوطن
- الموت: التأمل في اللايقين الحتمي


المزيد.....




- الاحتلال يفرض إغلاقاً شاملاً على الضفة وينشر كتيبتين إضافيتي ...
- السوربون جامعة فرنسية بدأت كلية لتعليم المسيحية على ضفاف نهر ...
- الأحد في بيروت.. مورغان أورتاغوس من الإنجيلية إلى اليهودية؟ ...
- اليهودية الأمريكية روت فايس: حياة في خدمة الإنسانية
- لغات على حافة النسيان.. معركة المصريين الأخيرة لإنقاذ السيوي ...
- تثبيت تردد قناة طيور الجنة للأطفال الجديد 2025 TOYOUR EL JAN ...
- تركيا ترفض تسليم إسرائيل نقشا -يثبت الوجود اليهودي في القدس- ...
- فوق السلطة.. وزير فرنسي سابق: الإسلام الدين الأكثر اعتناقا و ...
- كل ما تريد معرفته عن دورة العاب التضامن الاسلامي واماكن إقام ...
- ترامب يشتم النائبة المسلمة إلهان عمر ويدعو لعزلها.. فما الأس ...


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أكرم شلغين - التعايش والاحترام