|
من رواية خلع خاتم الطائفية
سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(Suad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8458 - 2025 / 9 / 7 - 00:21
المحور:
الادب والفن
الفصل الثالث: فُلك النجاةِ إلى المجهول
كانت خلفيّة السيارة كأنها صندوق مُعدّ لهذا الغرض؛ صناديق مُحكَمة الإغلاق مصطفّة كجدارٍ صامت، وأرضية مفروشة ببطانياتٍ قذرة تفوح منها رائحةٌ قديمةٌ تشبه مزيج الغبار والرطوبة والسنين. لا نوافذ في هذا القفص المعدني، سوى فجوة صغيرة في الجدار الفاصل بينهم والسائق ونافذة سقفٍ صغيرة تسمح لشظيّة من ضوءٍ باهت أن تخطّ على الجدران خطاً رفيعاً يميّز بين ليلٍ كثيف ونهارٍ أقلَّ عتمة. هناك، في هذا الحيّز الضيّق، أحسّت عفراء أنّها في كهف يشبه سفينة النجاة؛ فُلك نوحٍ الذي قد ينتشلها من طوفان الجحيم الذي أغرقها، أو يبتلعها إن خانها موجُ القدر. "تجاوزنا بغداد"، هكذا قال السائق وهو يهمس من خلف المقعد: "الآن أنتم في أمان". ابتسمت بمرارةٍ لا يراها أحد، فالأمان في العراق صار كلمةً منزوعة النبض، قشرةً هشةً تنكسر تحت أصغر ذبذبة خوف. عفراء لا تدري إن كانت قد وضعت قدمها على طريق النجاة حقّاً أم أنّها انحدرت إلى دهليزٍ أشدّ عتمةً، لكنّها تعرف يقيناً أن الرجوع مستحيل، وأن اختبارات السماء لا تُعاد. ضمّت صغيرتيها إلى صدرها كمن يضمّ قلبه الأخير، تُحصي أنفاسهما كي لا يخذلها الإيقاع، وتسدّ بأكفّها شقوق الارتجاف عن وجهيهما. لم يكن الخوف وحده جاثماً على صدرها؛ كان معه قطيعٌ من الأسئلة والغصّات والرجاء. إلى أين تقود هذه الطرق المتعرّجة؟ ماذا ينتظرها عند أوّل مفترق؟ وهل ستنجح في محو أثرها عن أهل زوجٍ يرون مطاردتها ثأراً مقدّساً لا يهدأ إلا بدمٍ أو خضوع؟ الهروب خطوةٌ، أمّا النجاة فحربٌ تُخاض مع الزمان والمكان والناس والقدر. لم تعد قصّتها شخصيّة فحسب؛ صارت مرآةً لمأساة امرأة تُعاقَب مرّتين: مرّةً لأنّها تجرّأت على كسر القيد، ومرّةً لأنّ قوانين الطائفة والأعراف المتربّصة تحرس أبواب الهواء. في دفاتر الدمّ، الأنثى ظلٌّ يمرّ ولا يُرى، ورقمٌ يُستدعى للتسويات، فإذا رفعت صوتها سُمّي ذلك فجوراً، وإذا صمتت عُدّ صمتُها اعترافاً. كانت الرائحة الثقيلة للديزل تتسلّل إلى رئتيها، تُذكّرها بأنّها ليست سوى حمولةٍ إضافيّة على مركبةٍ تمضي. يهتزّ الصفيح عند المطّبات كأنّه يتنهّد، وتتكاثر الشقوق في الصمت: خشخشةُ صندوق، صريرُ برغيّ، نقرةُ حجرٍ على البدن القديم. ومن النافذة الضيّقة في السقف، تقرأ الزمن: عتمةٌ تتخلخل شيئاً فشيئاً، ثمّ خيط رماديٌّ يزحف على وجه العالم. خارج هذا الصندوق، تُفتَحُ محالّ وتُخبَز أرغفة وتُذاع نشرات، أمّا داخلَه فالساعاتُ تُعدّ بحركة محورٍ ومقياس وقود. "إمّا الموت… أو الهرب إلى المجهول" هكذا تضع عفراء المعادلة على ميزان أمومتها، وتعرف أنّ الكفّة لا تحتمل الحياد. الحرّيّة ليست ترفاً حين يكون القيدُ سكيناً على عُنق البنات. كانت تتذكّر طفولتها المصادَرة، طفلةً أُلبست الحجاب قبل أن تفهم معنى الستر، ومنعت من اللعب قبل أن تتقن الهجاء. الآن، وهي تَحمل ابنتيها، تشعر أنّها تُهرّب مستقبلَهما من حفرةٍ حُفرت لهما باسم الشرف والسمعة والعشيرة، وأنّ عليها أن تدفع فديةً من قلبها في كلّ خطوة. مدّت يدها المرتجفة إلى الهاتف، تُقلّب الشاشة كمن ينقّب عن نبعٍ في أرضٍ عطشى. ظهرت رسائل كثيرة، لا تدري متى وصلت، فالهاجسُ حين يعلو يصير حجاباً على الحواس. كلماتٌ من أهلها الذين تركوها، مثل قلوبٍ دامية وراء حدودٍ لا تُرى. ما إن قرأت السطور الأولى حتى انفجرت الدموع؛ دموعٌ حرّة كجيادٍ أُطلقت من عقال. "نحن في عمّان… كيف أنتِ؟" أحسّت أنّ صدرها يتنفّس للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل، وأنّ حبلاً من نورٍ امتدّ إليها عبر الصحاري والحدود ونقاط التفتيش. يا ابنتي، يا حبيبتي… كيف حالك وحدك هناك؟ غيابك يثقل أيامي، كأن الليل جثم على صدري." ثم أتبعتها بأخرى: "كل لحظةٍ تمرّ من دونك، أشعر أنني اسير في عالم فارغ. سامحيني إن قصّرت، سامحيني إن تركتك في مواجهة المصائب وحدك." واخرى، أشبه باعترافٍ دامع: "كنتُ أظن أنني قوية، لكنني بدونك أضعف من ظلّ يتلاشى مع غروب الشمس. أشتاق أن ألمسك، أن أضمّك، أن أسمع حتى تنفّسك." وأردفت: "نامي يا ابنتي بطمأنينة… فأنا أسهر لك بالدعاء. ليت يدي تطال جبينك، فأمسح عنك كل هذا العناء." أسرعت تكتب لهم: كلماتٌ قصيرة، لكنّها مكتوبة باتقادٍ داخليّ لا يُرى. تطلب منهم ألّا يذكروا اسمها لأحد، وأن يُبقوا على الدعاء مشتعلاً، وأن يهيّئوا لها ظلاً تدخل فيه حين تصل. في تلك اللحظات الخاطفة، أدركت ما لم تكن تنتبه إليه من قبل: أنّ النجاة شبكةُ تفاصيل صغيرة تصنع المعجزة؛ شال يخفي ارتجاف كتف، زجاجة ماء محشورة عند الزاوية، شريحة هاتفٍ احتياطيّة في بطانة حقيبة، شهادات ميلاد مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، مشبكُ شعرٍ يمكن أن يفتح قفلاً صغيراً إن أُغلِق عليها الباب. وأكثر من التفاصيل، كانت هناك شيفرةٌ بشريّة تُفكّك المصيدة: كلمةُ مرورٍ اتفقوا عليها مع السائق، نظرةٌ يرسلها من مرايا السيارة عبر فجوة بينهما تعني "اصمتي الآن"، وأخرى تعني "تنفّسي". كانت تحسب المسافات بنبض قلب، وتستمع إلى حدسها لتميّز بين يدٍ تُسعف ويدٍ تتاجر بالبؤس. فالهاربون، كما تعلّمت في قسوة التجربة، يصيرون سوقاً، وأسماؤهم بضائع. لكنّها آثرت أن تصدّق هذا الرجل الذي عرّفه لها القدر، لأنّ الشكّ إن زاد حوّل الحياة إلى سجنٍ بلا قضبان. "أنا ضعيفةٌ"، تقولها في سرّها دون جلدٍ للذات، بل باعترافٍ صادقٍ بحقيقةٍ تفرضها الجغرافيا والقوانين. ضعفُها ليس اختياراً، بل نتيجةُ منظومةٍ تُسقِط النساء خارج إنسانيّتهنّ. ومع ذلك، كانت في هذا الضعف قوّةٌ من معدنٍ آخر؛ قوّةُ من يعرف أنّ عليه أن ينجو لا لأنّه الأقوى، بل لأنّ خلفه من هم أضعف. كانت تتعلّم بسرعة: كيف تُسكت رعبها كي لا يفزع الصغيرتان، كيف تقسم لقمتها إلى ثلاثٍ متساوياتٍ ولو جاعت، وكيف تجعل من الصمت معبراً حين يصير الكلام فخّاً. مرّت السيارة بمحاذاة أولى نقاط التفتيش خارج العاصمة. هدأت السرعة، ولاذت الأصواتُ بحذرٍ جليّ. كان قلبها يطرق كما لو أنّه يوشك أن يُسمَع. تشبّثت بثوب الصامت، ودفنت وجهي الطفلتين في حضنها كي لا تُغريهما همسات الأسئلة. سمعت تحيةً غليظة، ثمّ تبادلَ هويةٍ ونظرةٍ وخشخشة أوراق نقدية. انطلقت السيارة بعد دقائق، دقائق لم تقيسها عقاربُ ساعةٍ بل ساقيةُ عرقٍ سالت من صدغها إلى فكّها دون أن تجرؤ على مسحها. في فسحةٍ قصيرةٍ من الطريق، مالت عفراء برأسها نحو النافذة الصغيرة فوقها تُصغي إلى السماء. كان المساء يضع أولى خرزاته على عنق الأفق. فكّرت: "المجهول ليس أرحم من الماضي، لكنّه على الأقل مساحةٌ يمكن أن يُكتب فيها نصّ جديد". تذكّرت أحلامها اليتيمة التي تُركت عند بوابات المدرسة: أن تدرس، أن تصير ممرّضةً تمسك يدَ مريضٍ بلا خوف، أن تعمل مربّيةً تعلم الأطفال أن العالم أوسع من حدود الطائفة وأدفأ من جدار العشيرة. تلك الأحلام لم تعد قصاصاتٍ في دفتر؛ صارت أسباباً للنجاة. كتبت لأهلها مجدّداً: "إذا وصلنا إلى الحدود سأخبركم… لا تُقلقوا، واستمروا بالدعاء، فالدعاء حبلٌ وأنا أتسلّق". شعرت بأنّ عمّان لم تعد اسماً بعيداً على لافتة، بل حضناً يتشكّل في الخيال. ليس أمامها وأمام طفلتيها إلا خياران: الموتُ في ماضيها الذي يعرف سبلَها كلُّ متربّصٍ، أو الهربُ إلى المجهول حيث يمكن للأقدار أن تُعيد ترتيب الأوراق. اختارت المجهول، لا لأنّها تُحبّ المغامرة، بل لأنّ الحياة أحياناً تُختصر في منعطفٍ واحدٍ: أن تمنح أبناءك غداً أفضل أو تسلّمهم لذئاب الأمس. في هذا الاختيار، قد تبدو عفراء ضعيفةً في عيون القانون العاثِر، لكنّها في ميزان المعنى أقوى ممّن صاغوا لها السلاسل. واصلت السيارة ابتلاع الطريق، وحين غلب النورُ غبشَ العتمة، أحسّت أنّ قلبها بدأ ينسجم مع إيقاعٍ جديدٍ للكون. همست لنفسها وهي تطبّق جفنيها: "لن أعود إلى القيد، ولو كان الطريق إلى الحرّيّة مفروشاً بالخوف. سأحمل المجهول كصحيفةٍ بيضاء، وأكتب عليه أسماءنا بثبات". ثمّ شبكت أصابعها بأصابع طفلتيها، كأنّها توقّع مع الغد معاهدةً لا تملك سواها: أن تبقى على قيد الأمل، مهما تكسّر في الطريق من جسور.
الفصل الرابع: ليلةٌ على حافّة المجهول سألت عفراء، وصوتها يزاحم رجفةَ العجلات: ــ "أين نحن؟" أجاب السائق وهو يثبت عينيه على الطريق: ــ "باتجاه الشمال… إلى السليمانية. سنرتاح هناك، ثم نُكمل غداً، على الأغلب، نحو تركيا". شهقت، كأنّ الهواء انكسر في صدرها: ــ "تركيا؟" قال ببرودٍ ناعم: ــ "ومن تركيا ستتدبّرين أمركِ إلى أوروبا… هكذا كان الاتفاق". همستُها خرجت كاستغاثة: ــ " لكنّي أريد الذهاب حيث أهلي… إلى عمّان". التفت قليلاً، ضاق صوته: ــ "ولماذا لم تُخبِريني من قبل" ــ "أنا آسفة… لم أعلم إلّا قبل قليل أن أهلي في الأردن". هزّ كتفيه كمن يزيح عن نفسه عبئاً: ــ "هذا صعب عليّ… عندي مشاغل والتزامات". توقّفت السيارة عند باحةٍ إسمنتيةٍ واسعة تحدّها حيطانٌ عالية، كراج نصف مظلم، تتدلّى على مدخله مصابيح نيون ترتعش كنبضٍ مُجهَد. أطفأ المحرّك، نزل، وقال وهو يغلق الباب: ــ " لقد وصلنا. الليل طويل، ولا أقود في الظلام. والسيارة تحتاج وقوداً. سنرتاح حتى الفجر". همّت بالنزول وراءه، وابنتاها لا تزالان في غفوةٍ معلّقة بين تعبٍ وخوف، فتعلّقت بصوت رجاءٍ يُبلّل الحصى: ــ "أرجوك… أنا وحيدة. ليس لي ولأطفالي في هذه العتمة غير ضميرك ورحمتك". رفع حاجبيه، ثم تمتم: ــ "أديتُ ما عليّ… سنرى غداً. ربما أجد من يوصلكِ إلى حدود الأردن. الآن أريد النوم… هل تريدين المجيء معي؟ اسوَدّت الدنيا في عينيها. فهمت الإشارة التي لا تُقال. غصّت الدموع في حلقها ثم قالت بثباتٍ هشّ: ــ "لا… سأبقى مع طفلتيّ في السيارة. رجاءً… فكّر في هؤلاء الصغار… إن كان لك أولاد". تنهّد السائق بمللٍ، ومال برأسه: ــ "سأحاول غداً". ثمّ استدركت بهمسٍ متخاذل: ــ "إذا أمكن… اشترِ لهم شيئاً من الطعام والماء". لم يُجِب. أغلق الأبواب بإحكام، وابتلعته العتمة مع وقع خطواتٍ تتباعد. عاد الصمتُ يزحف بثقلِ زيتٍ مسكوب. خلفيّة السيارة، تلك الحُجرة المعدنية التي ظنّتها «كهف سفينة نوح» ساعة هروبها، بدت الآن كقبوٍ يتهامس فيه الظلام. بطانياتٌ قذرة تفوح منها رائحةُ العتق والرطوبة، صناديقُ مغلقة مرصوصة كجدرانٍ صمّاء، نافذة سقفٍ صغيرة لا تُري إلا خيطاً شاحباً من الضوء. في الخارج، نباحُ كلابٍ ضالة، صفيرُ ريحٍ يجرّ غبار الساحة، وضحكاتٌ متقطّعة لرجلين مرّا ثم ابتعدا. مدينةٌ غريبة، طالما سمعَت أنّها تشتهر بسماسرةِ الدعارة والاتجار بالبشر وبالأعضاء؛ اسمها وحده صار فزّاعةً بالنسبة لها. تساءلت وهي ترتجف: "هل يمكن أن يبيعني السائق؟ هل أنا سلعة على قائمة الأسعار؟" جلست تُحاذي الباب من الداخل، تسند ظهرها إلى لوح الصفيح، وتضمّ ابنتيها إلى صدرها كمن يحرس نبضه بمفتاح. كانت طفلتها الكبرى تهمهم بنومٍ مضطرب، فمرّرت كفّها على جبينها وتنفّست بعمقٍ كي تُسكت رعشة القلب. في تلك اللحظة انفتح في رأسها ميزانٌ لا يعرف الإنصاف: خياران لا ثالث لهما؛ موتٌ معلومٌ في حضن الطائفة وقوانينها التي تخلط الشرف بالدم، أو هروبٌ إلى مجهولٍ قد يبتلعها ويعيدها أشلاءً في خبرٍ صغير. اختارت المجهول. ليس لأنّ فيه بطولةً، بل لأنّ فيه احتمالَ نجاةٍ لطفلتين لا تفهمان من العالم سوى رائحة أمّهما. راحت تُجرد ما تملك: حقيبةٌ صغيرة في الزاوية، فيها نسخٌ لشهادات الميلاد وجواز سفر مطويّة في كيسٍ بلاستيكيّ، بعض النقود في جيبٍ خفيّ، شريحة هاتفٍ احتياطية، قطعةُ خبزٍ يابسة، زجاجة ماءٍ نصف ممتلئة، ومشبكُ شعرٍ معدنيّ. «هذه ليست مقتنيات،» قالت لنفسها، «هذه أدواتُ حياة.» سحبت هاتفها. البطارية تُعلن تمردها على الصبر. فتحت الرسائل: حروفٌ من أهلها في عمّان، محمّلة بحرارةٍ لم تكن تملك وقتاً لذرفها حين وصلتها. كتبت بسرعةٍ متمايلة على إيقاع الرجفة: "أنا في كراجٍ على أطراف السليمانية… لا أعرف المكان تماماً. الرجل يقول نتحرّك فجراً. أحتاج طريقاً إلى الأردن. لا تُجيبوا كثيراً… سأبعثُ الموقع إذا استطعت" وبينما أصابعها تتلمّس الأزرار، لاح وجهٌ عزيز يطفو في خاطرها: "أم أحمد". ذلك الصوت الذي شقّ صمتاً ثقيلاً في ليلةٍ سابقة وقال: "لن أترككِ وحدكِ". فتحت محادثاتها، كتبت: "أنا هنا… المدينة التي حذّرتِني منها. اشك ان الرجل يساوم ظلي. إن عرفتِ أحداً أميناً يوصلني إلى حدود الأردن حيث اهلي، فافعلي… الليلة طويلة، وأنا لستُ إلّا أمّاً تخشى على طفلتيها". أرسلت الرسالة، ثم نزعت الشريحة وأخفتها في بطانة الحقيبة. "إن عاد السائق وفي عينيه سؤالٌ لا أستطيع دفعه،" همست، "فلن يجد لديّ وسيلةً للابتزاز" الوقتُ يمشي ببطءِ قطرةٍ على جدار. تعلّم الهاربون، في مدارس الظلام، أنّ الساعة لا تُقاس بالدقائق بل بتناوب الأصوات: سيارةٌ دخلت ثم خرجت، بوّابةٌ صريرُها يتلو ركودها، أقدامٌ مرت من جوار الباب ثم ضاعت. في الداخل، كان البردُ يتسلّل مثل قطّةٍ لا تُصدر صوتاً. خلعت معطفها وغطّت الصغيرتين، ثم ضمّت كتفيها تحت حجابها كي تحفظ حرارةً تكفي لفجرٍ بعيد. تذكّرت بيتها الأوّل، وجدارَ الطفولة حين كان اللعبُ مباحاً قبل أن يتكلّس. تذكّرت صوت أمّها يناديها من شرفةٍ تشبه صدر الوطن قبل أن يحتله القتلة. ثم عادت إلى حيث هي الان… إلى هذه العلبة المعدنية التي تكوّر فيها الزمن، وإلى قلبٍ يحفر بأظافره نافذةً نحو الصبر. في غمرة الصمت، انفتح بابُ الذاكرة على وجه الزوج وأهله، وهم يسوقون اسمَ الشرف كالمطرقة: «الشرفُ لا يُفاصل، والدمُ يُغسل بالدم.» كانت ترتعش من تذكّر تلك الجلسات التي تُدار فيها حياتها كصفقةٍ فوق طاولةٍ ملوّثة بالحجج؛ يدٌ تمسك دفترَ العشيرة، وأخرى تلوّح بآياتٍ تُنتزع من سياقها، وفمٌ يقرع على طبلةِ الفتاوى القديمة. كلّ ذلك صار وراءها الآن، لكنّ صوتَ المطاردين لا يزال يركض في أذنيها. وضعت يدها على فمها كي لا تسمع بكاءها. الأمهات حين يبكين وحيداتٍ، يخجلن من دموعهنّ أمام أطفالهنّ، فيحوّلنها إلى حكايات. همست للصغيرتين بحكايةٍ مبتكَرة كي تناما: "هناك طائرٌ صغير، كان له بيتٌ في شجرةٍ عالية. جاء ريحٌ شرّير، كسّر الأغصان. فطار الطائرُ ومعه فرخان… ظلّ يطير حتى وجد شجرةً أخرى. الطائر لا يخاف حين يحمل صغاره… الصغار هم جناحاه". وهي تحكي، كانت تُقنع نفسها معهما بأنّ لها جناحين. كلّما ارتعشت، ضغطت على كفّها مشبكَ الشعر المعدنيّ. تذكّرت أنّه يفتح قُفلاً صغيراً إن احتاجت ويمكنها استخدامه كأداة للدفاع. التفاصيل الصغيرة لا تصنع البطولة، لكنها تمنع الهزيمةَ من أن تكتمل. مرّت ساعةٌ أو أكثر، لا فرق. طرقاتٌ خفيفةٌ على المعدن أفزعتها. انتصبت كمن يتهيّأ للذبح. ثمّ هدأت الطرقات وتلاشت. وضعت أذنها على الجدار، سمعت حفيفَ أكياس، وحواراً مقطّعاً بلهجةٍ غير مألوفة. "يا ربّ…" قالت وهي تشدّ الطفلتين إلى صدرها. كتبت رسالةً مقتضبة لأهلها: "إن لم أكتب عند الفجر… اتصلي بأم أحمد. قولي لها: "الميزان، ستفهم." كانت كلمة السرّ التي اتفقت عليها مع الجارة قبل أن تغادر بغداد؛ تفصيلٌ مشفّرٌ لم تنتبه من قبل إلى أهميّة وجوده. في غفلةٍ من الخوف، غفَتْ دقائق. حين فتحت عينيها كان الضوء يزحف من نافذة السقف كخيطِ لبنٍ على وجه الليل. بردُ الفجر له طعمُ ماءٍ قديم، يعضّ العظامَ ببطء. عادت لتفقد الهاتف. رسالةٌ من أم أحمد: "اعطي السائقَ هذا الرقم، سيهاتفه رجلٌ في محطةٍ قريبة. لا تخرجي معه وحدكِ. ابقي حيث أنتِ حتى اكتب لكِ. الأردن أولى من أوروبا… والأمانُ أوّل الطريق." ابتسمت ابتسامةً صغيرة لا يشبهها سوى دعاءٍ تحقق. كتبت: "حسنٌ. أنا أنتظر". وقبل أن تُعيد الهاتف إلى الحقيبة، أبلغت أهلها: "ثمة بصيص. ابقوا على الدعاء." ثمّ أسندت جبينها إلى الجدار تستجلب ما تبقى من سكينة. الخوف لم يخرج من السيارة، لكنه تراجع خطوةً إلى الخلف، كذئبٍ يعرف أن في اليد حجراً. نظرت إلى ابنتيها، ورأت في وجهيهما سبباً يتقدّم على كلّ التبريرات: الحرّيّة ليست شعاراً في لافتةٍ سياسية، الحرّيّة هذا الصباحُ الذي يمكن أن يُفتح بلا خوف، وهذا الحليبُ الذي يُشرب بلا كراهة، وهذه المدرسةُ التي تدخلها البنات بلا وصمةٍ معلّقة على جباههنّ. حين ارتجّ القفلُ أخيراً، انقبض قلب عفراء كما لو كان يتهيّأ لاستقبال قدرٍ جديد. شدّت على معطفها، تتوسّل منه دفئاً واطمئناناً، واستعدّت لكلّ الاحتمالات التي قد تخبّئها خشبةُ الباب الحديدي. وحين انفتح، ظهر السائق أمامها، ملامحه مرهقة، لكن عينيه تخلو من الندم، كأنما اعتاد أن يرى الخوف في وجوه الآخرين فلا يحرّك فيه شيئاً. رمقها نظرةً سريعة، ثم قال بخشونةٍ تخالطها نبرةٌ عملية باردة: ـ "هيا… سنملأ الوقود. بعد ذلك… سنواصل إلى الأردن، ولكن ستدفعين ثلاثة أضعاف المبلغ." سقطت الكلمات على صدرها كصخرةٍ هوت من جبل، لكنها تماسكت، كأنها تعلّمت أن الحياة في المنفى تبدأ من لحظةٍ كهذه: لحظة ابتزازٍ لا مهرب منه. ردّت بصوتٍ هادئٍ خالٍ من الجدال، فيه من الشكر ما يشبه الخوف: ـ "كما تريد… فقط خذنا إلى هناك." لم تعد تثق به، ولا بغيره من الرجال الذين يبدّلون وجوههم بين قناعٍ وقناع، لكنها بدأت تثق بأسبابها الخاصة: رقم هاتفٍ تحفظه في ذاكرتها كآية نجاة، صورة لطريقٍ مرسومة في ذهنها تتجه غرباً، وقلبٍ يتعلّم أن القوة ليست صرخة، بل أن تمضي خطوةً أخرى رغم الارتجاف. في اللحظة نفسها، وصلتها رسالة قصيرة على هاتفها المخبّأ بين يديها المرتجفتين: "ستصلين بالسلامة. اكتبي لي حال وصولك." كان التوقيع باسم "أم أحمد"، جارتها الطيبة، المرأة التي كانت تطرق بابها أيام المحن بقدرٍ من الحنان يضاهي الأمومة. أدركت عفراء أن هذه الروح النقية لا تزال تحرسها من بعيد، وأنها على الأرجح هي من تواصلت مع السائق ليعيد النظر في وجهته. دمعت عيناها، لكنّها أخفت الهاتف في صدرها، كما لو كان تعويذة نجاة لا تريد للقدر أن ينتزعها منها. تنفّست بعمق، حاولت أن تزرع في رئتيها شيئاً من الشجاعة كي لا تنهار أمام طفلتيها. فتحت باب السيارة، خرجت للحظةٍ قصيرة، أصلحت وضع البطانية فوق جسديهما الصغيرين، ثم أعادت أطرافها بعنايةٍ أمّ تعاند القسوة. نظرت إليهما، تغطيان وجهيهما ببراءةٍ حالمة، وتساءلت في سرّها: كيف لطفلتين صغيرتين أن تدفعا ثمن خطايا وطنٍ يطارد أمهما كأنها مجرمة؟ كانت الشوارع خارج الكراج مظلمة، يتسلل إليها ضوءٌ باهت من مصابيح متعبة، والهواء يختلط فيه برد الليل برائحة الزيت المحترق. بدت المدينة غريبة، كأنها فمٌ مفتوح يتهيأ لابتلاعها. وكل خطوة كانت تحسّها كسيرٍ فوق جمر المجهول، لكنها مضت، بحذر، تتشبّث بالحلم البعيد: أن تصل، فقط أن تصل، ثم تفكّر بعدها كيف ستبني حياة جديدة من رماد قديم. وفي أعماقها، كانت تعلم أنها لم تهرب وحدها من سطوة الطائفية، بل هربت من تاريخٍ أراد أن يجعل منها ظلاً لا يملك جسداً. كل خطوة على هذا الطريق كانت إعلاناً صغيراً ضدّ القيد، وصلاةً خفيّة بأن تكون حريتها ثمناً يليق بتضحياتها. هكذا، في تلك اللحظة التي بدت صغيرة في ظاهرها، كانت عفراء تعبر من كونها ضحية مطاردة إلى امرأة تصنع قدرها بقدميها المرتجفتين، تكتب قصتها بالحذر والخوف، ولكن أيضاً ببصيصٍ لا ينطفئ من الرجاء. كان الفجر قد استوى، والكراجُ يكشف ملامحه... بقعُ زيتٍ كخرائط سوداء، قطّتان تتشمّسان بحذر، عاملٌ يتثاءب، ومئذنةٌ بعيدةٌ تُخرج من حنجرتها الأذان الأوّل. ابتسمت. قالت في سرّها: «كان الموتُ يعرف عنواني في الأمس، أمّا المجهول… فليس له عنوان. هذا حسن.» ثمّ أعادت ابنتيها إلى الصندوق، جلست بينهما، وكتبت في قلبها معاهدةً جديدة: "لن أبيع نفسي ولا بناتي للخوف، ولن أسمح لاسم الطائفة أن يكون صكَّ ملكيةٍ لأجسادنا. إن كان المجهولُ هو الثمن… فليكن. لكنّي سأدفعه وأنا ممسكةٌ بأيديهما، لا مُساقَةٌ وحدي كنعجةٍ إلى الذبح". يتبع
2025.09.06
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
Suad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين خيوط العزلة وسيف المصير
-
من رواية، خلعُ خاتَم الطائفية
-
قصة، طيف، على حدود العدم
-
سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2 6) قراءة إنسانية في ملا
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل،
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل،
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة، قراءة إنسانية لسيرة بطل،
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة،(4) قراءة إنسانية لسيرة ب
...
-
جدلية المقدّس والخراب في قصيدة -أقنعة المكائد- للشاعر طارق ا
...
-
سلام عادل: سيرة إنسانٍ يسبق الثورة (3) الكونفرنس الثاني للحز
...
-
قربان الأم... صرخة في وجه الموت
-
الخطوط المشتركة بين غرو وكلاين فيما يتعلق بفلسفة العار وعقيد
...
-
عندما يكون الفكر ثالثهم!
-
سلام عادل: سيرة إنسانٍ سبق الثورة (2) قراءة إنسانية في ملامح
...
-
سلام عادل: الإنسان الذي سبق الثورة. قراءة إنسانية لسيرة بطل
-
على حافة الأبوة... حين بكى الجليد-
-
الهروب من الماضي: قراءة في رواية «بين غربتين» لسعاد الراعي د
...
-
نرجسية الأديب والناقد: الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي
-
جمعة عبد الله: معاناة بين قهرين في رواية -بين غربتين- سعاد ا
...
-
عرض لرواية بين غربتين للكاتبة سعاد الراعي،
المزيد.....
-
فيلم “صوت هند رجب” يفوز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقي
...
-
-فوات الأوان- لمحمد أبو زيد: في مواجهة الوقت الذي أفلت
-
صوت هند رجب: فيلم عن غزة يفوز بالأسد الفضي لمهرجان البندقية
...
-
فيلم -هند رجب- يفوز بالأسد الفضي في مهرجان البندقية السينمائ
...
-
جائزة الأسد الفضي لـ -صوت هند رجب- في مهرجان البندقية السينم
...
-
-صوت هند رجب-... أبرز الأفلام المرشحة لنيل -الأسد الذهبي- بم
...
-
أبكى الجمهور... فيلم التونسية كوثر بن هنية حول غزة مرشح لنيل
...
-
فيلم -هجرة- للسعودية شهد أمين يفوز بجائزة -NETPAC- في مهرجان
...
-
مهرجان البندقية السينمائي: اختتام دورة تميزت بحضور قوي للسيا
...
-
-التربية-: إعادة جلسة امتحان اللغة العربية لطلبة قطاع غزة في
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|