هاني عبيد
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 12:16
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الحج إلى الأرض المقدسة
فلسطين الأرض المقدسة، ففيها المسيح ولدَ وعاشَ وبشر وصلب وقامَ ولذلك، ومنذُ فجرِ المسيحيةِ جذبتْ هذهِ الأرض الناسَ منْ كلِ بقاعِ الأرض، فجاءوها حجاجا وزوارا ومكتشفين، وفيها تنسكَ وتعبدَ الكثيرون، وعنها كتبَ الرحالةُ والمكتشفونَ وعلماءُ الآثار، وباسمها أسستْ الجمعياتُ الجغرافيةُ لدراسةِ تاريخها وكشفُ ما تحتويهُ أرضها منْ كنوزٍ ولقى أثريةٌ تميطُ اللثامَ عنْ الماضي وعبقهِ في أرضِ خلعَ الكثيرُ نعالهمْ عندما وطؤها. ألهمتْ قصصُ الكتابِ المقدسِ والأحداث فيهِ رسامي وفناني العصورِ الوسطى فعبروا عنها داخلَ الكاتدرائياتِ والكنائسِ المنتشرةِ في أوروبا والتي تعتبرُ نفائسَ ثمينةً ولوحات جميلة.
ورغمَ أنَ السفرَ كانَ مشقةً ويحملُ مخاطرَ جمةً إلا أنَ الكثيرَ تحملوا متاعبَ السفرِ ومخاطرهِ في سبيلِ أنْ تكتحلَ عيونهمْ بالأرضِ التي سار عليهاَ وعاشَ فيها المسيح، يتبركونَ بترابها ويتقدسونَ بمياهها حتى أنَ بعضهمْ استقرَ وتعبدٌ وتنسكٌ فيها. تُعتبر القديسةُ هيلانة (250-327) م أولَ حاجة مسيحية إلى الأراضي المقدسة. فقد ولدِت في مدينة الرها لأبوين مسيحيين، وهي أم الإمبراطور قسطنطين الذي اعترفَ بالمسيحية كدينٍ في الإمبراطورية الرومانية. زارت فلسطينَ في عام 326م وكان هدفها هو البحثُ عن الأماكنِ المرتبطة بحياة السيد المسيح. يُنسبُ إليها اكتشاف الصليبِ في موقع الجلجثة. أمرت ببناء كنيسةِ القيامة في القدسِ وكنيسةِ الصعودِ على جبل الزيتون وكنيسةِ المهد في بيت لحم. ويُقال عند عودتها من فلسطين استغاث بها رهبانُ سيناء لبناء كنيسةٍ في الموقعِ الذي كلم موسى ربه فيه ولحمايتهم من العذابِ الذي يُعانيه الرهبان في هذه المنطقةِ من هجماتِ البدو، فأمرت ببناء كنيسةٍ في المكان باسم العذراء مريم، كما أمرت ببناء حصنين أو برجين يحتمي الرهبان بداخلهما عند الخطر. وقد بُنيت هذه الكنيسة بواسطة والي القسطنطينية.
أما الحاجة الثانية فكانت سيدة إسبانية تُدعى إيجيريا Egeria ويُعتقد أنها امرأة متدينة أو راهبة من شبه الجزيرة الإيبيرية، وقامت بزيارة الأراضي المقدسة بين عامي 381 و384م. زارت في رحلتها هذه القدس وسيناء وبيت لحم والخليل ونهر الأردن وحرّان في تركيا. تعتبر أول امرأة تكتب رسائل ومذكرات تذكر فيها بالتفصيل الحياة الدينية والطقوس الليتورجية للمسيحيين في الأراضي المقدسة في القرن الرابع الميلادي. ألّفت كتاباً هو "رحلة إيجيريا" Itinerium Egeria ولم يصلنا كتابها كاملاً وقد وصل جزء منه والذي تم اكتشافه في القرن التاسع عشر في دير في إيطاليا.
أما أول حاج رجل جاء إلى الأراضي المقدسة فهو حاج بوردو The Bordeaux Pilgrim وهو مجهول الهوية وجاء من مدينة بوردي جالا وهو الاسم القديم لبوردو. قام هذا الحاج برحلته عام 333م في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير أو ابنه قسطنطيوس الثاني، وكانت رحلته قد تمت قبل سنتين من تكريس كنيسة القيامة التي بنتها الإمبراطورة هيلانة كما تقدم. ترك لنا أقدم دليل على الحج المسيحي يُعرف برحلة حاج بوردو Itinerium Burdigalense وسُميت أيضاً بخط سير رحلة بوردو (خط سير رحلة القدس)، وهو أقدم خط سير رحلة مسيحي معروف حيث وصف فيه الطرق والمواقع في الأرض المقدسة. كان خط سيره الذي وصفه هو ميلانو وأكويلياونيش والقسطنطينية وأنطاكيا ودمشق ومن ثم فلسطين. يعزو البعض هذه الرحلة لحاج يُعرف بالراهب بيريجريموس ولكن ليس هناك معلومات حوله.
أما الرجل الثاني في الحج إلى فلسطين فكان القديس جيروم (342/347-420) م. فقد ولِد في ستريدون وهي قرية بالقرب من أمونا والتي تُعرف اليوم ليوبليانا عاصمة سلوفينيا. زار القديس جيروم بيت لحم لأول مرة عام 386م بعد أن ترك روما واستقر أولاً في أنطاكيا ثم في القدس وأخيراً استقر في بيت لحم حيث أمضى حياته في أقبية تحت مغارة المهد، حيث كتب في إحدى رسائله "ها أنا أعيش في مغارة بجانب المغارة التي ولِد فيها المسيح". قام بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية والتي تُعرف باسم الفولغات Vugata وكانت الترجمة الرسمية للكنيسة الكاثوليكية لأكثر من ألف عام. يوجد في بيت لحم دير القديس جيروم. ذكر المؤرخ سقراط السكولاستيكي ويوسابيوس القيصري عن إقامة جيروم في بيت لحم.
أما أركولف فهو أسقف من الغاليين Gallus gente episcopus ولم يُعرف عن أسقفيته شيء. زار الأراضي المقدسة حوالي العام 674 أو 685م وظل ما يقرب من تسعة شهور في القدس. وصف أركولف وادي قدرون ومسجد عمر وكنيسة القيامة وكنيسة المهد ويذكر أن سور القدس كان يضم أربعة وثمانين برجاً وست بوابات.
ويقول أحد رهبان دير جارو بشمال إنجلترا وأحد العلماء البارزين في العصور الوسطى بأن أركولف قد أصابته عاصفة أو غرقت به سفينة خلال رحلة عودته فقذفت به الأمواج إلى جزيرة إيكوملهيل بالقرب من ساحل إسكتلندا وهناك استقبله أدمنانوس رئيس دير إيوان، ويُقال إن أركولف أخبره برحلته وأراه مخططات أرضية لبعض كنائس القدس التي رسمها على ألواح شمعية. ويُعتبر أدمنانوس هو المؤلف لمذكرات أركولف. ويقدم أركولف معلومات كثيرة حول بناء المسجد الأقصى والجامع الأموي الكبير في دمشق ويصف الخليفة معاوية بأنه كان متعاطفاً مع المسيحيين.
وبعد اركولف بإحدى وخمسين سنة حضر إلى الأراضي المقدسة الرحالة الإنجليزي وليبالد في عام 723م. فقد وصل إلى طرطوس في زمن الأمويين وكان معه سبعة من رفاقه ثم تابع سيره إلى حمص حيث تم اعتقالهم لأنهم شكّوا بكونهم جواسيساً إلا أن الخليفة أطلق سراحهم لعدم وجود دليل على ذلك الأمر. تابعوا سيرهم إلى دمشق فالناصرة وطبريا ونهر الأردن والبحر الميت وبيت المقدس ثم الخليل ونابلس.
أما وليبالد Willibad فقد زار الأراضي المقدسة عام 723م حيث يصف زيارته للقدس وأنه زار الكنيسة التي وجِد فيها الصليب، حيث وجد في هذا المكان ثلاثة صلبان من الخشب خارج الجناح الشرقي للكنيسة، ثم زار كنيسة القيامة وكنيسة صهيون ورواق سيدنا سليمان. لقد زار وليبالد القدس أربع مرات خلال زيارته حيث كان يتنقل في الاراضي المقدسة ويعود للقدس. وقد زار في هذه الرحلة مدن دمشق واللد وقيسارية ودمشق وسبسطية ثم غادر إلى عكا فالقسطنطينية فنيقية وأخيراً عاد إلى بلاده.
أما الرحالة برنارد الحكيم Bernard the wise فقد زار الأراضي المقدسة في عام 870م. بدأ رحلته من روما فالإسكندرية ومدينة بابليون في مصر ومنها رحل إلى دمياط فالعريش والرملة وقرية عمواس وأخيراً القدس. وقد ذكر أن الإمبراطور شارلمان زار القدس وتكلم باللغة اللاتينية. أما الكنائس التي زارها فهي: كنيسة السيدة العذراء وجبل الجمجمة (هكذا يصفه) وكنيسة قسطنطين وكنيسة القيامة وكنيسة سيمون على جبل صهيون وكنيسة القديس ستيفن والمكان الذي أنكر فيه بطرس المسيح ومعبد سليمان الذي يحتوي مسجداً للمسلمين، وإلى الجنوب توجد البوابات الحديدية حيث قاد الملاك القديس بطرس بعيداً عن السجن، وهي لم تفتح بعد. ثم زار الجلجثة وكنيسة السيدة مريم، وكنيسة في المكان الذي غدر فيه بالسيد المسيح وبها المنضدة ذات الأربعة أرجل الذي تناول عليها المسيح وحواريه العشاء الأخير. وفي وادي يوسفات توجد كنيسة على شرف القدسي ليونتيوس التي سيأتي إليها السيد المسيح ليحكم.
هذه أهم الرحلات إلى الأراضي المقدسة قبل حروب الفرنج (التي تُسمى الحروب الصليبية) والتي دشنت بداية الطوفان الأوروبي على الأراضي المقدسة، ظاهرها دينياً وجوهرها تجارياً. وبعد انتهاء هذه الحروب استمرت رحلات الأوروبيين إلى الأراضي المقدسة وبدأ بعدها عصر الامتيازات للدول الأوروبية من قبل السلطة العثمانية.
#هاني_عبيد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟