أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى النبيه - تتساقط أرواحنا مع تساقط بيوتنا














المزيد.....

تتساقط أرواحنا مع تساقط بيوتنا


مصطفى النبيه

الحوار المتمدن-العدد: 8447 - 2025 / 8 / 27 - 16:22
المحور: الادب والفن
    


كل شيء في غزة يصرخ بالقلق والخوف. نحاول طمأنة أنفسنا بأن القادم سيكون أجمل، لكن وجع البطن يذكّرنا دومًا بالواقع حين نشاهد العائلات تهرب نحو الجنوب، تجرّ أحلامها الممزقة خلفها، وتترك وراءها أطلال بيوتها التي كانت تضحك معها وتتنفس معها. نُوهم أنفسنا بوجود وقت، حتى تقترب الروبوتات من بيوتنا وتدمرها بلا رحمة، وكأنها تريد أن تمحو أثر الحياة نفسها.
ما زالت الحرب تأكل بيوتنا بوحشية، وكأن الحجارة نفسها لعنة تطارد الاحتلال. نحب بيوتنا كما نحب الحياة؛ نبكي عندما يتصدع حجر أو يصبه خدش من تعرية الزمان. كبر البيت كما كبر صغارنا، شاهدناه يخطو خطواته الأولى، يرفع رأسه، يبتسم لنا ويهمس: "أنا أحبكم". واليوم، تتساقط أرواحنا مع بيوتنا كأوراق الشجر.
كيف سيشعر من يشاهد بيتًا يُقصف ويمحى من الوجود بما نشعر به نحن؟ هل يستطيع أن يفهم معنى الحنين والخوف والوجع الذي يلتهمنا؟ لن يستطيع أي مخلوق مهما كان أن يشعر بحزن إنسان فقد بيته وأصبح عاريًا في الشارع. عشرات الأصدقاء فقدوا بيوتهم، ولم يستطع أحد منهم كبح دموعه ونحيبه. إنها الروح، يا الله، تنتزع منا بأكثر من طريقة، نموت يوميًا وبدون مقدمات
اليوم، حاولت أن أغير طريقي، أسير في شارع الجلاء لأوثق ما يحدث. الشوارع مكتظة بالخيام، والوجوه شاحبة ومحايدة، كأن الموت والحياة أصبحا شيئًا عاديًا، وكأن الناس ينتظرون المجهول بصمت على أرصفة المدينة، دون صراخ، دون دموع، وكأن العالم توقف عن الإحساس.
في الطريق وصلني خبر صادم: بيت صديقي المخرج أيمن السويسي دُمّر بالكامل، وتساوى بالأرض. غصت روحي بالمرارة، فحملت هاتفي واتصلت به، كأن روتين الاتصال اليومي قادر على تهدئة قلبه، أو على الأقل أن يحمل بعض المواساة في هذه العتمة الموحشة.
أيمن ما زال يغرق في وجعه بعد أن أصيب ابنه ساهر بالشلل إثر رصاصة طائشة أصابت رأسه. ساهر، المبتسم الذي تزوج قبل الحرب بأشهر، كان يحلم بالأمان والأطفال والحياة الجميلة العائلية الهادئة. نزح أيمن وعائلته في نوفمبر 2023، وكان هدفه الوحيد حماية أبنائه من غول لا يرحم، يغتال المخلوقات والجماد بلا هوادة.
عشنا معه النزوح والخيام والجوع والأمراض، عشنا المرارة والإذلال ونحن نطارد رغيف خبز هارب، فقط لنستمر على قيد الحياة. حاول أيمن التكيف، وأقام حياة جديدة في الزوايدة، اشترى لابنه أدوات التزيين، وبحث عن كرسي، وبدأ ساهر يمارس عمله وسط خيمة صغيرة. لكن القدر لم يرحمهم؛ دب صراع بين عائلتين متناحرتين، وأصيب ساهر في ديسمبر 2024، برصاصة طائشة وهو يمارس عمله، ليبدأ رحلة طويلة من العلاج والألم والأمل المتذبذب.
عادوا إلى غزة، لكن الإمكانيات كانت محدودة بعد أن دُمّر كل شيء من حولهم. لم يستطع أيمن متابعة العلاج في الخارج، ورغم كل ذلك حاول، مستكملاً العلاج محليًا، يزرع الأمل بين الألم واليأس. قبل أسبوع من مغادرة منطقة الصبرة وتدميرها، قال لي: جلسنا عند أحد الأقارب على أمل العودة إلى بيتنا، لكن قصف الحي فجّر آمالنا، وجعلنا مشردين بلا مأوى، نحمل الحزن على ظهورنا ونبحث عن شظايا الأمان وسط الركام والظلام.
اليوم، يحمل أيمن ابنه المريض بين ذراعيه، ويتنقل من مكان إلى آخر، وأخيرًا قرر التوجه نحو الجنوب، ليبحث عن مأوى آمن، ويحاول أن يتنفس وسط عتمة الحياة التي ضاقت بكل ما فيها. ومع ذلك، يبقى قلبه متمسكًا بالأمل، بأمل غدٍ أقل دمًا، وأقل وجعًا، وأقل فقدًا لما أحببنا.
تفيض هذه المأساة بالمعاناة، لكنها أيضًا تذكرنا أننا لسنا مجرد أرقام أو صور. لكل إنسان القدرة على المساعدة، وكل لحظة تضامن يمكن أن تمنح المستضعفين فرصة للاستمرار. عسى أن يكون هناك بريق أمل، وأن تُمنح يد العون لمن لا ذنب لهم إلا أنهم عاشوا على أرض لم تعرف الرحمة.



#مصطفى_النبيه (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بكائيات يوم جديد لوحة سوداء في قاموس الانتكاسات
- ينهشني الحنين
- المثقف اليتيم
- المثقفون والفنانون في غزة يحتضرون
- هل للمثقف اليتيم في غزة أب شرعي؟!
- ليس بعد هذا الموت موت
- فنانو غزة: هل تسمعوننا
- المحرقة
- السينما تنتصر على الموت- مبادرة من المسافة صفر- للمخرج العبق ...
- فرضيات الحرب والإبادة
- يوميات الحرب - مملكة المعلبات
- ظل طويل
- الفن أساسه المعرفة
- تشريع قانون جمهورية الأفكار الملكية المطلقة في بناء مؤسساتنا ...
- شكرا لمن يسرقون أحلامنا
- - الصامت - رواية استقصائية صنعها الأديب المبدع شفيق التلولي
- - بورتريه قديم- رواية تاريخية تحاكي جزءاً مهما من تاريخ الثو ...
- رواية -الهليون- ثورة إنسانية توثق مرحلة جذرية في تاريخ الشعب ...
- فيلم -ماجدة- عمل فني بنكهة إنسانية عالمية للمخرج المصري المت ...
- مسلسل -بوابة القدس- تجربة إنتاجية مميزة تعتمد على أسلوب التش ...


المزيد.....




- «أوديسيوس المشرقي» .. كتاب سردي جديد لبولص آدم
- -أكثر الرجال شرا على وجه الأرض-.. منتج سينمائي بريطاني يشن ه ...
- حسن الشافعي.. -الزامل اليمني- يدفع الموسيقي المصري للاعتذار ...
- رواد عالم الموضة في الشرق الأوسط يتوجهون إلى موسكو لحضور قمة ...
- سحر الطريق.. 4 أفلام عائلية تشجعك على المغامرة والاستكشاف
- -الكمبري-.. الآلة الرئيسية في موسيقى -كناوة-، كيف يتم تصنيعه ...
- شآبيب المعرفة الأزلية
- جرحٌ على جبين الرَّحالة ليوناردو.. رواية ألم الغربة والجرح ا ...
- المغرب.. معجبة تثير الجدل بتصرفها في حفل الفنان سعد لمجرد
- لحظات مؤثرة بين كوبولا وهيرتسوغ في مهرجان فينيسيا السينمائي ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى النبيه - تتساقط أرواحنا مع تساقط بيوتنا