سامر بن عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8435 - 2025 / 8 / 15 - 07:43
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
المقدمة
شهدت الساحة التونسية في الفترة الأخيرة صدامًا جديدًا بين نظام قيس سعيّد والاتحاد العام التونسي للشغل، جاء ليؤكد مرة أخرى الطبيعة البونابارتية للنظام القائم، كما سبق أن أوضحنا. فالنظام البونابارتي لا يولد من فراغ، بل ينبثق في لحظة أزمة هيمنة تعصف بالكتلة الطبقية الحاكمة، حين تعجز هذه الأخيرة عن ضمان الاستقرار عبر آلياتها التقليدية، ويصبح لزامًا إعادة ترتيب موازين القوى داخلها
المعركة بين النظام والاتحاد لم تبدأ اليوم، بل تراكمت فصولها منذ مدة، عبر سلسلة من الضغوط والإجراءات والتصريحات التي هدفت إلى تقليص دور المنظمة النقابية وإضعاف قدرتها على التأثير السياسي والاجتماعي. الجديد هو أنّ هذه المواجهة باتت تتجه اليوم إلى العلن، وتتحوّل إلى صدام مفتوح أمام الرأي العام، بما يعكس انتقال السلطة من سياسة الاحتواء الجزئي إلى خيار المواجهة المباشرة
في هذا السياق، يسعى نظام سعيّد إلى تشديد المركزية السياسية والإدارية، من خلال إعادة توزيع أدوار الأجهزة الأيديولوجية للدولة: تهميش الأحزاب أو تحويلها إلى أدوات شكلية، تطويع النقابات أو إضعافها عبر محاصرتها قانونيًا وإعلاميًا، التحكم في الإعلام الرسمي والخاص، وتوجيه القضاء بما يخدم إعادة إنتاج السلطة. إن الصدام مع اتحاد الشغل ليس مجرد نزاع حول ملف اجتماعي أو مطلب نقابي، بل هو حلقة في عملية أوسع تهدف إلى إعادة صياغة البنية الأيديولوجية والسياسية بما يضمن للنظام إحكام قبضته على المجتمع، وإقصاء كل فاعل مستقل يمكن أن يشكل قطبًا بديلًا أو مجالًا لتعبئة جماهيرية خارج السيطرة المباشرة للسلطة
اعادة ترتيب الاجهزة الايديولوجية للدولة
نجح قيس سعيّد، إلى حدّ معتبر، في إعادة توزيع أدوار الأجهزة الأيديولوجية للدولة بما يخدم مشروعه السياسي، مستفيدًا من أزمة الثقة العميقة التي خلّفتها الانحرافات الحزبية بعد 2011. فقد قدّم الأحزاب للرأي العام ككيانات فاسدة وعاجزة عن تلبية تطلعات الشعب، وعمّق خطاب شيطنتها عبر الإعلام الرسمي والمقرّب، لترسيخ صورة أنها هياكل تجاوزها التاريخ. ولم يكن هذا الخطاب طارئًا في مساره السياسي، بل أعاد إنتاجه منذ حملته الانتخابية سنة 2019، حين وصف الأحزاب بأنها وسائط متآكلة بين الشعب ومؤسسات الدولة، مؤكّدًا أن زمنها قد انتهى لصالح "إرادة شعبية مباشرة" يجسّدها مشروعه القائم على المركزية الرئاسية وإعادة هيكلة المجال السياسي خارج الإطار الحزبي التقليدي. وأثناء ذلك، بسط سعيّد سيطرته على القضاء، وحوّل الإعلام إلى مجال لا يكاد يُسمع فيه سوى صدى الأصوات الداعمة له، أو منابر تُعرض فيها "بطولات" وزارة الداخلية، كما هو الحال في برامج مثل بلا قناع أو التاسعة مساء بحضور بوق النظام رياض جراد
واليوم، بعد إتمام هذه المراحل، نصل إلى المواجهة المباشرة مع الجهاز النقابي المتمثل في الاتحاد العام التونسي للشغل، باعتباره آخر ما تبقّى من قوة منظمة قادرة على التأثير في موازين القوى الاجتماعية والسياسية
كيف تطورت العلاقة بين نظام 25 جويلية و الاتحاد العام التونسي للشغل
منذ إعلان قيس سعيّد الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021، حظي بدعم سياسي ونقابي واسع، بما في ذلك من الاتحاد العام التونسي للشغل الذي اعتبر قراراته حينها فرصة لتصحيح المسار. لكن العلاقة بدأت تتدهور تدريجيًا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وغياب الحوار الاجتماعي، إذ عطّلت السلطة المفاوضات وألغت هيئات التحكيم، في وقت شهدت فيه البلاد موجة غلاء وارتفاع بطالة وفقر. منذ 2022، تزايدت مؤشرات التوتر عبر حملات إعلامية وسياسية ضد الاتحاد واعتقالات طالت قياداته، أبرزها عضو المكتب التنفيذي الطاهر البرباري في مارس 2024. وفي يوليو 2025، دفع إلغاء جلسة تفاوض بنقابة النقل إلى تنفيذ إضراب لثلاثة أيام، فجاء الرد بهجوم سياسي وإعلامي من أنصار الرئيس، بلغ ذروته في 7 أغسطس 2025 حين حاصروا المقر المركزي للاتحاد بساحة محمد علي وحاولوا اقتحامه، مطالبين بحلّه، فيما تبنّى الرئيس ضمنيًا “مشروعية” التحرك وتحدث عن ملفات فساد يمكن استخدامها ضد النقابيين. اعتبر الاتحاد ذلك محاولة ممنهجة لإضعافه ومنعه من عقد مؤتمره العام في مارس 2026، وأعلن خطوات تصعيدية أبرزها مسيرة 21 أغسطس 2025، وسط إدانات حزبية ونقابية ودولية للهجوم وتحذيرات من المساس بحرية العمل النقابي
ماذا عن موقف الاتحاد العام التونسي للشغل
في مواجهة الأزمة الحالية مع نظام سعيد، اختار الاتحاد العام التونسي للشغل نهج الحذر وتفادي المواجهة المباشرة، كما يتضح من البيان الأخير للاتحاد. ويعود هذا الموقف إلى ثلاثة عوامل اساسية: أولاً، البيروقراطية النقابية التي تقوده، والتي تتمسك بالحفاظ على مصالحها وتخشى أي مواجهة قد تهدد وضعها التقليدي ومكاسبها المكتسبة؛ ثانياً، الأزمة الداخلية المستمرة التي يعاني منها الاتحاد منذ سنوات، والتي تضعفه وتحدّ من قدرته على خوض صراع علني فعال مع النظام، مما يجعل الاستراتيجية الدفاعية هي الخيار الأبرز له في هذه المرحلة ، و اخيرا، تدهور صورة الاتحاد لدى قسم كبير من الشعب التونسي الذي اعتبره مسؤؤل مسؤؤلية مباشرة عن الركود و تعطيل عجلة الاقتصاد.
ما هو موقفنا كشيوعيين
على اليسار الثوري أن يحدد موقعه من الصراع الراهن بوضوح، فيعتبر أن التناقض مع البيروقراطية النقابية، رغم خطورته، يبقى ثانويًا أمام التناقض الرئيسي مع نظام قيس سعيّد الذي يقود هجمة سلطوية تستهدف تشديد المركزية وإخضاع كل أجهزة المجتمع المدني، بما في ذلك الاتحاد العام التونسي للشغل. ومن هذا المنطلق، يصبح الدفاع عن الاتحاد كصرح عظيم وقلعة نضال تاريخية في وجه مساعي النظام لتفكيكه أو حله مهمة أساسية، على أن يُقرن هذا الدفاع بضرورة الفصل بين الاتحاد ككيان جماهيري ومنجز تاريخي، وبين قيادته الحالية التي تمثل البيروقراطية النقابية المتخاذلة. وعلى الشيوعيين أن يطرحوا بوضوح أن الحل لا يكون إلا داخليًا، على أيدي أبناء طبقتنا العاملة، الذين يقع على عاتقهم واجب الدفاع عن الاتحاد باعتباره مكسبهم الأهم، وفي الوقت نفسه النضال ضد البيروقراطية النقابية حتى يُبنى مجددًا على أساس قواعده العمالية. والأهم أن محاربة البيروقراطية النقابية يجب أن تتم على مديين: على المدى القريب، عبر النضال المباشر ضد ممارساتها والضغط من أجل إصلاحات داخلية كبرى، مثل تعديل النظام الداخلي وإلغاء تنقيح الفصل 20، وإعادة هيكلة الاتحاد بما يضمن ديمقراطية القرار النقابي؛ وعلى المدى البعيد، عبر تكثيف التثقيف النقابي ورفع الوعي الطبقي، وتشريك العمال في صياغة القرارات وربط النضال الاقتصادي بالسياسي. ولا بد من التأكيد أن جذور البيروقراطية النقابية تكمن في ضعف الوعي الطبقي لدى القواعد وغياب الرقابة الفعلية من طرفهم على القيادة، وهو ما يفرض على اليسار الثوري العمل الحثيث على معالجة هذه الأسباب حتى يستعيد الاتحاد طابعه الكفاحي والديمقراطي.
خاتمة
في النهاية، على الشيوعيين في تونس اليوم أن يدافعوا عن الاتحاد العام التونسي للشغل في وجه هذه السلطة البونابارتية المقيتة التي تفتك بالشعب، وأن يتجذروا في صفوف الطبقة العاملة ويسلحوها بالنظرية الثورية، بهدف تحويلها من طبقة في حد ذاتها إلى طبقة لذاتها واعية بمصالحها التاريخية. وعلى هذه الطبقة العاملة أن تتصدى بحزم للدفاع عن أهم مكسب لها، وهو الاتحاد، في مواجهة البيروقراطية النقابية من جهة، ونظام 25 جويلية البونابارتي الشعبوي من جهة أخرى، هذا النظام الذي لا يمثل سوى امتدادًا لسيرورة الفناء وأداة بيد الطبقات السائدة لمواصلة استغلال الشعب و تجهيله وتهميشه.
#سامر_بن_عبد_السلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟