أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامر بن عبد السلام - اسطورة العداء بين البرجوازية الوطنية والامبريالية : النظام السوري انموذجا















المزيد.....

اسطورة العداء بين البرجوازية الوطنية والامبريالية : النظام السوري انموذجا


سامر بن عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 8371 - 2025 / 6 / 12 - 13:21
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


المقدمة
لطالما روّجت بعض الأوساط اليسارية في العالم العربي لفكرة انتماء نظام بشار الأسد إلى معسكر "مناهضة الإمبريالية"، واعتُبر هذا الانتماء المفترض حائط صدّ في وجه التدخلات الغربية والمخططات الإمبريالية في المنطقة. غير أن هذه السردية، التي استندت إلى شعارات وشبكات دعم أيديولوجي أكثر مما استندت إلى الواقع الفعلي لممارسات النظام، شكّلت أحد أبرز العوائق التي حالت دون قدرة اليسار العربي على فهم تعقيدات الثورة السورية. فقد أدّت هذه "الأسطورة" إلى قراءة مشوّهة للديناميات الداخلية للثورة، إذ جرى اختزالها في صراع جيوسياسي بين محور المقاومة والمحور الغربي، متجاهلين تماماً المطالب الاجتماعية والسياسية التي فجّرت الحراك الشعبي، وتعامى كثيرون عن الطابع القمعي والاستبدادي العميق للنظام. إن تفكيك هذه السردية الكاذبة لا يعني الاصطفاف مع مشاريع الهيمنة الغربية، بل هو شرطٌ أساسيّ لإعادة بناء وعي سياسي نقدي، قادر على التمييز بين معاداة الإمبريالية الحقيقية، وتلك التي تُوظَّف لتبرير الطغيان الداخلي.
ما هي الإمبريالية
تُفهم الإمبريالية، وفق أليكس كالينيكوس، على أنها وحدة جدلية بين البُعد الاقتصادي للرأسمالية، المتمثّل في توسّع رأس المال وسعيه الدائم لتحقيق الربح، وبين البُعد الجيوسياسي المتمثّل في تنافس الدول الكبرى على النفوذ والسيطرة. هذه الوحدة لا تعني فقط التداخل بين الاقتصاد والسياسة، بل تشير إلى أن كلاً منهما يعزّز الآخر في حركة الإمبريالية الحديثة. وفي هذا السياق، يقدّم ديفيد هارفي، مستنداً إلى أعمال روزا لوكسمبورغ، تمييزاً بين سياقين للتراكم الرأسمالي: الأول يتم عبر الاستغلال المباشر للعمل داخل النظام الرأسمالي، والثاني يتم عبر ما يسمّيه "التراكم من خلال نزع الملكية"، وهي مقولة يستخدمها لوصف السياسات الكولونيالية التي تستولي على الثروات والموارد بوسائل عنيفة، إما عبر الغزو المباشر أو من خلال حروب بالوكالة. ما يجعل العنف السياسي، لا مجرد أداة عرضية، بل عنصراً بنيوياً في توسّع – بل في استمرار – الرأسمالية العالمية. ومن جهته، يرى لينين أن النزعة العسكرية المرتبطة بالإمبريالية تنبع من التطور غير المتكافئ بين كتل رؤوس الأموال في البلدان الرأسمالية الكبرى، إذ يؤدي هذا التطور غير المتكافئ إلى اختلال في توازن القوى الاقتصادية العالمية، ما يستدعي بشكل دوري إعادة تقاسم النفوذ العالمي بالقوة، أي عبر الحروب والعنف المنظّم. هكذا، تُشكّل الحرب، لديه، لحظة ضرورية في صيرورة التنافس الرأسمالي الدولي، لا مجرد انحراف عنه.
اذن الامبريالية تمثل وحدة جدلية بين العنصر الاقتصادي والعنصر الجيوسياسي فاما العنصر الاقتصادي فيبرز من خلال احكام القبض على اسواق بلدان الاطراف عن طريق تغلغل الراسمال الاجنبي و صعود البرجوازية الكمبرادورية التابعة له و اما العنصر الجيوسياسي فنراه في الساسة الكولونيالية التي تهدف الى نزع الملكية اما بطريقة مباشرة او عن طريق حرب بالوكالة و يكون الهدف الرئيسي منه اعادة تقاسم النفوذ بين راسماليات غير متكافئة التطور
كيف نواجهها
إن مواجهة الإمبريالية لا يمكن أن تتم من خلال الإدانة المجردة أو الشعارات الأخلاقية، بل تقتضي تفكيك بنيتها الجدلية التي تربط التوسّع الاقتصادي لرأس المال بالقوة الجيوسياسية للدولة. فالإمبريالية ليست مجرد سياسة عدوانية، بل منظومة عالمية تتغذى على وحدة عضوية بين رأس المال والشبكات العسكرية والسياسية التي تحميه وتوسّع نفوذه. ولهذا، فإن كسر هذه العلاقة يستلزم تشكيل أممية ثورية جديدة، تضم الأحزاب الشيوعية الحقيقية في الجنوب العالمي، وتُعيد وصل ما انقطع بين نضالات شعوب الأطراف ونضال البروليتاريا في المركز الرأسمالي. وهو ما شدّد عليه تروتسكي في مفهومه للثورة الدائمة، حيث أكّد أن تحرّر شعوب المستعمرات لا يمكن أن يكتمل دون تحالف عضوي مع الطبقة العاملة في البلدان المتقدمة، بوصفها القادرة على شلّ مركز القرار الإمبريالي نفسه.
ضمن هذا الإطار، فإن التحالف مع الطبقة العاملة الأوروبية والأمريكية يصبح أداة مركزية للضغط على البنى الحاكمة في الغرب من الداخل، من خلال الإضرابات، وتعطيل سلاسل إنتاج شركات السلاح والمال، وإرهاق المؤسسات التي تموّل الحروب وتعيد إنتاج المنظومة الإمبريالية. هذا الشكل من المقاومة يعوق تحول التنافس الرأسمالي إلى مواجهة عسكرية. وفي الأطراف، تأخذ المواجهة طابعاً مزدوجاً: أولاً، على المستوى الاقتصادي، بتحرير مجتمعاتنا من نظام التبادل غير المتكافئ الذي يُستخرج عبره فائض القيمة من الجنوب نحو الشمال، وبضرب هيمنة الشركات متعددة الجنسيات، وتقويض البرجوازية الكمبرادورية التي تلعب دور الوكيل المحلي للإمبريالية. وثانياً، على المستوى الجيوسياسي، من خلال دعم حركات المقاومة ضد الاحتلال والتدخل الخارجي، ومجابهة الإرهاب بوصفه أداة وظيفية تستخدمها الإمبريالية لإعادة ضبط المنطقة وفق مصالحها. غير أن الأهم من مقاومة نتائج الإمبريالية هو منع إعادة إنتاج شروطها البنيوية، عبر مشروع تحرّري يقوم على التحديث، والحرية السياسية، وتفكيك هيمنة الإسلام السياسي كأداة لتأبيد الرجعية وتعطيل مشروع التغيير الجذري.
وباختصار، فإن مناهضة الإمبريالية تتطلّب:
ضرب البنية الاقتصادية للإمبريالية من خلال تفكيك أنظمة التبادل غير المتكافئ وهيمنة الشركات العابرة.
ضرب ذراعها الجيوسياسي في الأطراف عبر دعم المقاومة الوطنية ومواجهة الإرهاب الوظيفي.
ضرب العلاقة الجدلية بين الاقتصادي والجيوسياسي في المركز، من خلال تحالف أممي ثوري يضغط على البنية الإمبريالية.
الأسد يحارب من أجل الإمبريالية
لقد رسّخ نظام الأسد ــ في بُعده البنيوي ــ دوره كأداة وظيفية في خدمة الإمبريالية عبر القضاء على كل أشكال الفعل السياسي التقدمي والمستقل في المشرق العربي. فقد شكّلت ممارساته تجاه الحزب الشيوعي اللبناني نموذجاً صارخاً في هذا السياق، حيث قام بالتنسيق مع "حزب الله" لتصفية وجود الشيوعيين في الجنوب اللبناني، من خلال الاغتيالات السياسية (كما في حالة حسين مروة، مهدي عامل، سهيل طويلة، خليل نعوس) وعمليات التهجير والتضييق، ما أدى إلى تفريغ الساحة من أي بديل يساري حقيقي. وبالمثل، خاض النظام حملة قمع منظمة ضد الشيوعيين في سوريا نفسها، عبر الاعتقالات والسجون والتصفية السياسية، ما أسهم في كسر أي إمكانية لنشوء حركة يسارية جذرية داخل البلاد.
ولم يكتفِ النظام بذلك، بل عمل على إخماد الأصوات الصحفية التقدمية كما حدث في اغتيال الصحفي والمفكر سامر قصير سنة 2005، أحد أبرز الأصوات المناهضة للوجود السوري في لبنان والداعية إلى نهضة عربية ديمقراطية. كما استهدف الصحافيين والكتّاب المستقلين في الداخل السوري، ليمنع أي خطاب نقدي أو تحرّري.
وعلى المستوى الإقليمي، كان دور النظام السوري في تفكيك العراق بعد 2003 حاسماً؛ إذ فتح حدوده أمام مقاتلي تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية، وأسهم في تصدير الإرهاب والفوضى إلى الداخل العراقي، بالتوازي مع تحالفه العميق مع الاحتلال الإيراني عبر الفصائل الشيعية، ما أدى إلى تكريس الاحتلال المركب (أميركي – إيراني) للعراق المنهك، في ما يُعتبر مساهمة مباشرة في تمزيق وحدة الشعب العراقي وضرب أي إمكانية لقيام مشروع وطني ديمقراطي.
أما على صعيد القضية الفلسطينية، فقد خاض نظام الأسد صراعاً تصفويًا ضد منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من بيروت عام 1983، حيث قام بالاستيلاء على مؤسسات ومواقع المنظمة، واستبدال عناصرها بعناصر موالية له، ما أدى إلى اندلاع حرب المخيمات في لبنان، والتي كانت بمثابة "حرب إخضاع" قادها النظام ضد إرادة الفلسطينيين السياسية المستقلة. كما لا يمكن تجاهل الدور المبكر للجيش السوري في مجزرة تل الزعتر عام 1976، حيث قدّم غطاءً عسكرياً مباشراً لمميليشيا الكتائب أثناء اقتحامها للمخيم الفلسطيني المحاصر، ما أدى إلى مقتل الآلاف من المدنيين، في جريمة تطهير جماعي لا تزال شاهدة على انحياز النظام ضد القضية الفلسطينية منذ بداياته.
ويُضاف إلى ذلك تحالفه مع المجرم إيلي حبيقة، المسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيلا، حيث احتضنه النظام وروّج له كبطل وطني، مطلقًا عليه لقب "أبو علي"، في مثال صارخ على طمس الحقائق وتحويل الجزارين إلى حلفاء ضمن منظومة السيطرة الطائفية والأمنية التي يديرها الأسد.
والأخطر من كل ذلك، أن النظام السوري عمد إلى عزل الشعب السوري عن المعادلة الوطنية والقومية، ومن أبرز الشواهد على ذلك تغاضيه المريب عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، التي وصلت إلى حد اختراق الأجواء السورية وضرب مواقع داخل العاصمة دمشق نفسها، منها الغارة على مشروع المفاعل النووي في دير الزور عام 2007، وتحليق الطيران فوق القصر الرئاسي، واغتيال محمد سليمان المسؤول الأمني البارز والمقرب من بشار الأسد، والمكلف بالتنسيق مع "حزب الله"، فضلًا عن اغتيال عدد من كوادر الفصائل الفلسطينية داخل الأراضي السورية نفسها من قبل الموساد، في اختراق فاضح يؤكد هشاشة الخطاب المقاوم وزيفه.
بهذا المعنى، لم يكن نظام الأسد عقبة أمام الإمبريالية، بل كان أحد أدواتها الأكثر فاعلية في قمع كل بديل تحرّري في المشرق العربي. ويمكن تلخيص هذا الدور في ثلاث مسارات متكاملة:
ضرب الحركات التقدمية في الداخل السوري واللبناني عبر القمع، التصفية والاغتيال السياسي.
تفكيك الدول الوطنية كما في العراق، عبر تصدير الإرهاب وتمكين النفوذ الإيراني.
تحطيم المشروع الفلسطيني المستقل عبر تصفية منظمة التحرير ودعم الفصائل التابعة.

وفي المجمل، لا يمثّل نظام الأسد أي نقيض للإمبريالية، بل أحد وكلائها الإقليميين الأكثر فتكاً بآمال الشعوب في الحرية والعدالة والتحرّر.
"الاشتراكية الزائفة: تحالف الأسد مع البرجوازية الطفيلية والإمبرياليات المختلفة"
لقد كرّس نظام بشار الأسد نموذجًا سلطويًا بعيدًا كل البعد عن الاشتراكية الحقيقية، رغم شعارات "البعث" التي استُخدمت لتجميل واقع اقتصادي استغلالي ونيوليبرالي. فمنذ التسعينيات، بدأ حافظ الأسد، ثم بشار بعده، بإعادة هندسة الاقتصاد لصالح برجوازية بيروقراطية – أمنية صاعدة، نشأت من رحم السلطة عبر قوانين كقانون الاستثمار لعام 1991. هذه الطبقة اندمجت فيها أجهزة الأمن وكبار الموظفين مع رجال أعمال جدد، وراكمت ثروات طائلة عبر الفساد، والاحتكار، والسيطرة على القطاعات الحيوية. وبحلول عام 2009، كانت تسيطر على نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق تقديرات محلية، في حين تجاوزت نسبة الفقر 50% من السكان قبل الثورة.
بعد عام 2000، سرّع بشار الأسد هذا التحول النيوليبرالي، ففكك نظام الدعم والخدمات العامة، وفتح البلاد أمام رؤوس الأموال الأجنبية والشركات متعددة الجنسيات، ليصبح بذلك حليفًا اقتصاديًا مباشرًا للإمبرياليات المختلفة، من الولايات المتحدة إلى روسيا، ومن الصين إلى فرنسا. استثمرت شركات مثل Suncorp الكندية (1.2 مليار دولار)، وRoyal Dutch Shell البريطانية-الهولندية، وTotal الفرنسية، وCNPC الصينية، وONGC الهندية، في قطاعات النفط والغاز، بينما توسع القطاع المصرفي الخاص بمشاركة بنوك سعودية وكويتية. كما أنشئت مصانع سيارات مشتركة مع إيران، واستورد النظام السلاح من روسيا وفتح لها منفذًا بحريًا استراتيجيًا.
هذه البرجوازية لم تُدافع عن المجتمع حين اندلعت الثورة، بل هرّبت أكثر من 20 مليار دولار خلال عام 2011 فقط، وأغلقت نحو 500 مصنع في حلب، مما أدى إلى تسريح 85 ألف عامل (أي أكثر من ثلث اليد العاملة الصناعية في المدينة). ووفق غرفة صناعة دمشق، غادر 70% من رجال الأعمال البلاد، في حين موّل القسم المتبقي ميليشيات النظام واستفاد من اقتصاد الحرب القائم على التهريب والمضاربة.
بذلك، لم يكن نظام الأسد نظامًا اشتراكيًا ولا حتى وطنياً، بل كان دولة برجوازية أمنية طفيلية تمارس أقصى درجات القمع والتهميش بحق الطبقات الشعبية، وتفتح البلاد أمام النهب الداخلي والخارجي. لقد اختزلت الدولة في تحالف بين العسكر، والمخابرات، ورجال أعمال، حولوا سوريا إلى سوق مغلقة على الفقراء، ومفتوحة أمام الإمبرياليات، في تناقض جوهري مع مبادئ التحرر والعدالة الاجتماعية، ومع أي ادعاء بالممانعة أو السيادة.
فشل اليسار الستاليني في التعامل مع الثورة السورية: دعم ميكانيكي يعيد إنتاج قوى الثورة المضادة
تعامل اليسار العربي، وفق رؤية ستالينية، مع الثورة السورية كان كارثيًا، حيث اعتمد على دعم ميكانيكي مطلق لنظام بشار الأسد دون تحليل دقيق للصراع الطبقي في سوريا. فقد استحضر اليسار مقولات جاهزة عن دعم "البرجوازيات الوطنية" مقابل الإمبريالية، وفرض هذه الرؤية على واقع معقد، ما أدى إلى كارثة استراتيجية على مستوى الثورة. هذا الانحياز الأعمى منح قوى الثورة المضادة فرصة للركوب على الأحداث واستغلال الارتباك داخل صفوف المعارضة لإعادة إنتاج الوضع الطبقي القديم بكل أبعاده الاستغلالية والقمعية. اليوم، يتجلى هذا الواقع في تصاعد نفوذ الجماعات الإرهابية مثل «هيئة تحرير الشام» بقيادة الإرهابي الجولاني، التي تستغل الفراغ السياسي والفوضى لتعزيز سلطتها وفرض نظام جديد من السيطرة الطائفية والعسكرية، بعيدًا عن أي مشروع تحرري أو ديمقراطي حقيقي. بهذا الفشل في تقديم بديل ثوري واضح وفعّال، ساهمت هذه الرؤية في تمكين قوى رجعية لا تمت للمطالب الشعبية بأي صلة.
نقد تروتسكي للبرجوازية الوطنية: تطبيقات على النظام السوري و اليسار الستاليني
تُظهر التجربة التاريخية لأنظمة "الاستقلال الوطني" التي تقودها البرجوازية البيروقراطية، كما في حالة النظام السوري، عجزًا بنيويًا عن قيادة مشروع تحرر وطني حقيقي أو مواجهة الإمبريالية بفعالية. وقد انتقد ليون تروتسكي هذا النمط من الأنظمة مبكرًا، مشددًا على أن البرجوازية الوطنية في دول العالم المستعمر أو شبه المستعمر لا تملك القدرة أو الإرادة لمواجهة الإمبريالية حتى وإن رفعت شعارات مناهِضة لها، لأنها في النهاية تخشى أكثر ما تخشاه الحراك الشعبي المستقل والثورة الاجتماعية. هذا ما تحقق فعليًا في سوريا، حيث تبنّى نظام الأسد خطابًا "ممانعًا" ظاهريًا، في حين عقد تحالفات اقتصادية واسعة مع قوى إمبريالية مثل روسيا والصين وفرنسا وكندا، وفتح أبواب الاستثمار والنهب أمام الشركات متعددة الجنسيات.
الخطورة الحقيقية في هذه الأنظمة أنها تحت شعار "محاربة الإمبريالية" تختزل التناقض الرئيسي في الصراع الخارجي، متجاهلة تمامًا التناقضات الطبقية الداخلية. فتمنع أي تعبير مستقل للطبقات الشعبية باسم "الوحدة الوطنية"، وتقضي على أي إمكانية لتشكل بديل جماهيري حقيقي عبر أحزاب كرتونية، نقابات بيروقراطية خاضعة، وإعلام مطوّع يردد شعارات السلطة. ويبرز ذلك جليًا في البنية السياسية والتمثيلية التي أنشأها النظام السوري، وتحديدًا عبر "الجبهة الوطنية التقدمية"، التي تضم حزب البعث مع أحزاب شكلية كالحزب الشيوعي السوري وغيرها، حيث ينص ميثاق الجبهة صراحةً على عدم وجود أي تناقضات سياسية داخل النقابات أو اتحادات الطلبة، ما يعني أن هذه الكيانات، من نقابات عمالية إلى اتحادات طلابية، أصبحت أدوات إدارية بيد السلطة، لا تعبيرات تنظيمية حرة. هذا ليس مجرد قمع تنظيمي، بل إلغاء للتعدد والتناقض الطبقي من الحياة السياسية.
وفي حال نشوب حرب مع الإمبريالية، كما حدث في العراق وسوريا، تجد هذه الأنظمة نفسها بلا قاعدة شعبية حقيقية، بلا تنظيمات مستقلة، بلا مشروع بديل، وبلا "أجسام وسيطة" تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب. وبالتالي، تفقد أي سند داخلي فعلي، وتُنتج حالة من الفوضى الشاملة تُملأ عادةً بقوى الثورة المضادة، كجماعات الإسلام السياسي المتشددة، التي لا تعبّر عن تطلعات الجماهير بل عن فراغ سياسي تركه النظام عن قصد. في الحالة السورية، كان صعود قوى مثل "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجولاني نتاجًا مباشرًا لهذا الفراغ، إذ تمكنت من الاستيلاء على الثورة باسم "البديل"، رغم أنها لا تمثّل أي مشروع تحرري فعلي، بل مجرد ارتداد رجعي مغلّف بشعارات دينية.
هكذا، نجد أن السياسات الستالينية التي تبناها اليسار التقليدي العربي، عبر دعم غير مشروط لأي نظام يرفع شعارات "معاداة الإمبريالية"، قد ساهمت في شرعنة أنظمة قمعية فاسدة، أغفلت التناقض الطبقي، ومنعت بناء حركة ثورية حقيقية، وهيّأت المسرح لانهيارات كارثية تمهد الطريق أمام عودة الإمبريالية من بوابات الفوضى والتطرّف.
الخاتمة
في الختام، يكشف تحليل البنية الوظيفية لنظام الأسد وتفاعل اليسار العربي معه عن مأساة ثلاثية الأبعاد: فمن جهة، حوَّل النظام شعارات "الاشتراكية" و"المقاومة" إلى غطاءٍ لتحالفه العضوي مع الإمبرياليات عبر اقتصاد النهب والتحالف مع البرجوازية الطفيلية. ومن جهة ثانية، أعاد اليسار الستاليني إنتاج أسطورة "البرجوازية الوطنية المناهضة للإمبريالية" رغم أدلة القمع الممنهج للحركات التقدمية وتفكيك الدول العربية. أما البُعد الثالث، فهو الكارثة الشعبية: فبين مطرقة نظامٍ أفقر الشعب وحوَّل الثورة إلى حربٍ أهلية، وسندان يسارٍ تخلّى عن نقده الطبقي، تمكَّنت القوى الرجعية من اختطاف غضب الجماهير وتحويله إلى فوضى تخدم الإمبريالية ذاتها.
إن سوريا اليوم ليست سوى مختبرٍ مفتوحٍ لدرسٍ تاريخيٍ قاسٍ: لا تحرر دون كسر التحالف بين رأس المال والقمع، ولا مناهضة حقيقية للإمبريالية من دون مواجهة الوكلاء المحليين الذين يمهّدون لسيطرتها. ومهما طال الزمن، تبقى مهمة اليسار الجذري إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح: تحرير الإنسان أولاً، لأن أي مشروعٍ تحرريٍّ يبدأ بقمع شعبه ليس سوى وهمٍ قاتل.
________________________________________



#سامر_بن_عبد_السلام (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاسد ووهم الممانعة كيف حوَّل اليسار الستاليني الطغاةإلى أبط ...
- حركة النهضة والطبقات الاجتماعية في تونس: قراءة ماركسية في مس ...
- البيروقراطية في تونس بين الجذور الاستعمارية والفشل الإصلاحي: ...
- الثورة الدائمة و يوغسلافيا - ميشال بابلو


المزيد.....




- أوقفوا الحصار على غزة!
- محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ضي ...
- الشيوعي العراقي: ندين العدوان ونتضامن مع الشعب الإيراني
- بول مورفي معتقل في مصر في رفح
- ضربات على إيران وحصار على رفح وتنسيق مع الخليج… من يردع إسرا ...
- معركة لوس أنجلوس
- إيران، تحت وقع إضراب سائقي الشاحنات
- كلمة الرفيق الإدريسي عبد الرزاق، الأمين العام للاتحاد الدولي ...
- على هامش قيام عمال ميناء (فوس سور مير) الفرنسية برفض تحميل ا ...
- عمدة نيويورك يحذر المتظاهرين المناهضين لهيئة الهجرة والجمارك ...


المزيد.....

- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد
- أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا ... / بندر نوري
- كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة / شادي الشماوي
- الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: ... / رزكار عقراوي
- متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024 / شادي الشماوي
- الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار / حسين علوان حسين
- ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية / سيلفيا فيديريتشي
- البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية / حازم كويي
- لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات) / مارسيل ليبمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامر بن عبد السلام - اسطورة العداء بين البرجوازية الوطنية والامبريالية : النظام السوري انموذجا