|
الاسد ووهم الممانعة كيف حوَّل اليسار الستاليني الطغاةإلى أبطال مُضلِّلين؟
سامر بن عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 19:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
" األسد ووهم الممانعة: كيف حوَّل اليسار الستاليني الطغاةإلى أبطال مُضلِّلين؟ " المقدمة لطالما روّجت بعض األوساط اليسارية في العالم العربي لفكرة انتماء نظام بشار األسد إلى معسكر "مناهضة اإلمبريالية"، واعتُبر هذا االنتماء المفترض حائط صد ّ في وجه التدخالت الغربيةوالمخططات اإلمبريالية في المنطقة. غير أن هذه السردية، التي استندت إلى شعارات وشبكات دعم أيديولوجي أكثر مما استندت إلى الواقع الفعلي لممارسات النظام، شكّلت أحد أبرز العوائق التي حالت دون قدرة اليسار العربي على فهم تعقيدات الثورة السورية. فقد أدّت هذه "األسطورة" إلى قراءة مشوّهة للديناميات الداخلية للثورة، إذ جرى اختزالها في صراع جيوسياسي بين محور المقاومة والمحور الغربي، متجاهلين تماما ً المطالب االجتماعية والسياسية التي فجّرت الحراك الشعبي، وتعامى كثيرون عن الطابع القمعي واالستبدادي العميق للنظام. إن تفكيك هذه السردية الكاذبة ال يعني االصطفاف مع مشاريع الهيمنة الغربية، بل هو شرط ٌ أساسي ّ إلعادة بناء وعي سياسي نقدي، قادر على التمييز بين معاداة اإلمبريالية الحقيقية، وتلك التي تُوظَّف لتبرير الطغيان الداخلي. ما هي الامبريالية تُفهم الامبريالية، وفق أليكس كالينيكوس، على أنها وحدة جدلية بين البُعد االقتصادي للرأسمالية، المتمثّل في توسّع رأس المال وسعيه الدائم لتحقيق الربح، وبين البُعد الجيوسياسي المتمثّل في تنافس الدول الكبرى على النفوذ والسيطرة. هذه الوحدة ال تعني فقط التداخل بين االقتصاد والسياسة، بل تشير إلى أن كال ً منهما يعزّز اآلخر في حركة اإلمبريالية الحديثة. وفي هذا السياق، يقدّم ديفيد هارفي، مستندا ً إلى أعمال روزا لوكسمبورغ، تمييزا ً بين سياقين للتراكم الرأسمالي: األول يتم عبر االستغالل المباشر للعمل داخل النظام الرأسمالي، والثاني يتم عبر ما يسمّيه "التراكم منخالل نزع الملكية"، وهي مقولة يستخدمها لوصف السياسات الكولونيالية التي تستولي على الثروات والموارد بوسائل عنيفة، إما عبر الغزو المباشر أو من خالل حروب بالوكالة. ما يجعل العنف السياسي، ال مجرد أداة عرضية، بل عنصرا ً بنيويا ً في توسّع–بل في استمرار– الرأسمالية العالمية. ومن جهته، يرى لينين أن النزعة العسكرية المرتبطة باإلمبريالية تنبع من التطور غير المتكافئ بين كتل رؤوس األموال في البلدان الرأسمالية الكبرى، إذ يؤدي هذا التطور غير المتكافئ إلى اختالل في توازن القوى االقتصادية العالمية، ما يستدعي بشكل دوري إعادة تقاسم النفوذ العالمي بالقوة، أي عبر الحروب والعنف المنظّم. هكذا، تُشكّل الحرب، لديه، لحظة ضرورية في صيرورة التنافس الرأسمالي الدولي، ال مجرد انحراف عنه. إذن، اإلمبريالية هي تالحم بنيوي بين التوسع االقتصادي والتنافس الجيوسياسي؛ التراكم يتم عبر االستغاللوأيضا ً عبر نزع الملكية بالقوة؛ والحرب هي أداة حتمية إلعادة تشكيل التوازنات في نظام رأسمالي غير متكافئ. كيف نواجهها إن مواجهة اإلمبريالية ال يمكن أن تتم من خالل اإلدانة المجردة أو الشعارات األخالقية، بل تقتضي تفكيك بنيتها الجدلية التي تربط التوسّع االقتصاديلرأس المال بالقوة الجيوسياسية للدولة. فاإلمبريالية ليست مجرد سياسة عدوانية، بل منظومة عالمية تتغذى على وحدة عضوية بين رأس المال والشبكات العسكرية والسياسية التي تحميه وتوسّع نفوذه. ولهذا، فإن كسر هذه العالقة يستلزم تشكيل أممية ثورية جديدة، تضم األحزاب الشيوعية الحقيقية في الجنوب العالمي، وتُعيد وصل ما انقطع بين نضاالت شعوب األطراف ونضال البروليتاريا في المركز الرأسمالي. وهو ما شدّد عليه تروتسكي في مفهومه للثورة الدائمة، حيث أكّد أن تحرّر شعوب المستعمرات ال يمكن أن يكتمل دون تحالف عضوي مع الطبقة العاملة فيالبلدان المتقدمة، بوصفها القادرة على شل ّ مركز القرار اإلمبريالي نفسه. ضمن هذا اإلطار، فإن التحالف مع الطبقة العاملة األوروبية واألمريكية يصبح أداة مركزية للضغط على البنى الحاكمة في الغرب من الداخل، من خالل اإلضرابات، وتعطيل سالسل إنتاج شركات السالح والمال،وإرهاق المؤسسات التي تموّل الحروب وتعيد إنتاج المنظومة اإلمبريالية. هذا الشكل من المقاومة يعوق تحول التنافس الرأسمالي إلى مواجهة عسكرية. وفي األطراف، تأخذ المواجهة طابعا ً مزدوجاً: أوالً، على المستوى االقتصادي، بتحرير مجتمعاتنا من نظام التبادل غير المتكافئ الذي يُستخرج عبره فائض القيمة من الجنوب نحو الشمال، وبضرب هيمنة الشركات متعددة الجنسيات، وتقويض البرجوازية الكمبرادورية التي تلعب دور الوكيل المحلي لإلمبريالية. وثانياً، على المستوى الجيوسياسي، من خالل دعم حركات المقاومة ضد االحتالل والتدخل الخارجي، ومجابهة اإلرهاب بوصفه أداة وظيفية تستخدمها اإلمبريالية إلعادة ضبط المنطقة وفق مصالحها. غير أن األهم من مقاومة نتائج اإلمبريالية هو منع إعادة إنتاج شروطها البنيوية، عبر مشروع تحرّري يقوم على التحديث، والحرية السياسية، وتفكيك هيمنة اإلسالم السياسي كأداة لتأبيد الرجعية وتعطيل مشروع التغيير الجذري. وباختصار، فإن مناهضة اإلمبريالية تتطلّب: ضرب البنية االقتصادية لإلمبريالية من خالل تفكيك أنظمة التبادل غير المتكافئ وهيمنة الشركات العابرة. ضرب ذراعها الجيوسياسي في األطراف عبر دعم المقاومة الوطنية ومواجهة اإلرهاب الوظيفي. ضرب العالقة الجدلية بين االقتصادي والجيوسياسي في المركز، من خالل تحالف أممي ثوري يضغط على البنية اإلمبريالية. األسد يحارب من أجل اإلمبريالية لقد رسّخ نظام األسد ــ في بُعده البنيوي ــ دوره كأداة وظيفية في خدمة اإلمبريالية عبر القضاء على كل أشكال الفعلالسياسي التقدمي والمستقل في المشرق العربي. فقد شكّلت ممارساته تجاه الحزب الشيوعي اللبناني نموذجا ً صارخا ً في هذا السياق، حيث قام بالتنسيق مع ميليشيا "حزب هللا" لتصفية وجود الشيوعيين في الجنوب اللبناني، من خالل االغتياالت السياسية (كما في حالة حسين مروة، مهدي عامل، سهيل طويلة، خليل نعوس) وعمليات التهجير والتضييق، ما أدى إلى تفريغ الساحة من أي بديل يساري حقيقي. وبالمثل، خاض النظام حملة قمع منظمة ضد الشيوعيين في سوريا نفسها، عبر االعتقاالت والسجون والتصفية السياسية، ما أسهم في كسر أي إمكانية لنشوء حركة يسارية جذرية داخل البالد. ولم يكتف ِ النظام بذلك، بل عمل على إخماد األصوات الصحفية التقدمية كما حدث في اغتيال الصحفي والمفكر سامر قصير سنة2005، أحد أبرز األصوات المناهضة للوجود السوري في لبنان والداعية إلى نهضة عربية ديمقراطية. كما استهدف الصحافيين والكتّاب المستقلين في الداخل السوري، ليمنع أي خطاب نقدي أو تحرّري. وعلى المستوى اإلقليمي، كان دور النظام السوري في تفكيك العراق بعد2003حاسماً؛ إذ فتح حدوده أمام مقاتلي تنظيم القاعدة والجماعات الجهادية، وأسهم في تصدير اإلرهاب والفوضى إلى الداخل العراقي، بالتوازي مع تحالفه العميق مع االحتالل اإليراني عبر الفصائل الشيعية، ما أدى إلى تكريس االحتالل المركب (أميركي–إيراني) للعراق المنهك، في ما يُعتبر مساهمة مباشرة في تمزيق وحدة الشعب العراقي وضرب أي إمكانية لقيام مشروع وطني ديمقراطي. أما على صعيد القضية الفلسطينية، فقد خاضنظام األسد صراعا ً تصفويًا ضد منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة بعد انسحاب االحتالل اإلسرائيلي من بيروت عام1983، حيث قام باالستيالء على مؤسسات ومواقع المنظمة، واستبدال عناصرها بعناصر موالية له، ما أدى إلى اندالع حرب المخيمات في لبنان، والتي كانت بمثابة "حرب إخضاع" قادها النظام ضد إرادة الفلسطينيين السياسية المستقلة. كما ال يمكن تجاهل الدور المبكر للجيش السوري في مجزرة تل الزعتر عام1976، حيث قدّم غطاء ً عسكريا ً مباشرا ً لمميليشيا الكتائب أثناء اقتحامها للمخيم الفلسطيني المحاصر، ما أدى إلى مقتل اآلالف من المدنيين، في جريمة تطهير جماعي ال تزال شاهدة على انحياز النظام ضد القضية الفلسطينية منذ بداياته. ويُضاف إلى ذلك تحالفه مع المجرم إيلي حبيقة، المسؤول عن مجزرة صبرا وشاتيال، حيث احتضنه النظام وروّج له كبطل وطني، مطلقًا عليه لقب "أبو علي"، في مثال صارخ على طمس الحقائق وتحويل الجزارين إلى حلفاء ضمن منظومة السيطرة الطائفية واألمنية التي يديرها األسد. واألخطر من كل ذلك، أن النظام السوري عمد إلى عزل الشعب السوري عن المعادلة الوطنية والقومية، ومن أبرز الشواهد على ذلك تغاضيه المريب عن االعتداءات اإلسرائيلية المتكررة، التي وصلت إلى حد اختراق األجواء السورية وضرب مواقع داخل العاصمة دمشق نفسها، منها الغارة على مشروع المفاعل النووي في دير الزور عام2007، وتحليق الطيران فوق القصر الرئاسي، واغتيال محمد سليمان المسؤول األمني البارز والمقرب من بشار األسد، والمكلف بالتنسيق مع "حزب هللا،" فضال ً عن اغتيال عدد من كوادر الفصائل الفلسطينية داخل األراضي السورية نفسها من قبل الموساد، في اختراق فاضح يؤكد هشاشة الخطاب المقاوم وزيفه. بهذا المعنى، لم يكن نظام األسد عقبة أمام اإلمبريالية، بل كان أحد أدواتها األكثر فاعلية في قمع كل بديل تحرّري فيالمشرق العربي. ويمكن تلخيص هذا الدور في ثالث مسارات متكاملة: ضرب الحركات التقدمية في الداخل السوري واللبناني عبر القمع، التصفية واالغتيال السياسي. تفكيك الدول الوطنية كما في العراق، عبر تصدير اإلرهاب وتمكين النفوذ اإليراني. تحطيم المشروع الفلسطيني المستقل عبر تصفية منظمة التحرير ودعم الفصائل التابعة. وفي المجمل، ال يمثّل نظام األسد أي نقيض لإلمبريالية، بل أحد وكالئها اإلقليميين األكثر فتكا ً بآمال الشعوب في الحرية والعدالة والتحرّر. " االشتراكية الزائفة: تحالف األسد مع البرجوازية الطفيلية واإلمبرياليات المختلفة " لقد كرّس نظام بشار األسد نموذجًا سلطويًا بعيدًا كل البعد عن االشتراكية الحقيقية، رغم شعارات "البعث" التي استُخدمت لتجميل واقع اقتصادي استغاللي ونيوليبرالي. فمنذ التسعينيات، بدأ حافظ األسد، ثم بشار بعده، بإعادة هندسة االقتصاد لصالح برجوازية بيروقراطية–أمنية صاعدة، نشأت من رحم السلطة عبر قوانين كقانون االستثمار لعام1991. هذه الطبقة اندمجت فيها أجهزة األمن وكبار الموظفين مع رجال أعمال جدد، وراكمت ثروات طائلة عبر الفساد، واالحتكار، والسيطرة على القطاعات الحيوية. وبحلول عام2009، كانت تسيطر على نحو70% من الناتج المحلي اإلجمالي، وفق تقديرات محلية، في حين تجاوزت نسبة الفقر50% من السكان قبل الثورة. بعد عام2000، سرّع بشار األسد هذا التحول النيوليبرالي، ففكك نظام الدعم والخدمات العامة، وفتح البالد أمام رؤوس األموال األجنبية والشركات متعددة الجنسيات، ليصبح بذلك حليفًا اقتصاديًا مباشرًا لإلمبرياليات المختلفة، من الواليات المتحدة إلى روسيا، ومن الصين إلى فرنسا. استثمرت شركات مثلSuncorp الكندية (1.2مليار دوالر)، و Royal Dutch Shell البريطانية-الهولندية، و Totalالفرنسية، و CNPCالصينية، و ONGC الهندية، في قطاعات النفط والغاز، بينما توسع القطاع المصرفي الخاص بمشاركة بنوك سعودية وكويتية. كما أنشئت مصانع سيارات مشتركة مع إيران، واستورد النظام السالح من روسيا وفتح لها منفذًا بحريًا استراتيجيًا. هذه البرجوازية لم تُدافع عن المجتمع حين اندلعت الثورة، بل هرّبت أكثر من20مليار دوالر خالل عام2011فقط، وأغلقت نحو500مصنع في حلب، مما أدى إلى تسريح85ألف عامل (أي أكثر من ثلث اليد العاملة الصناعية في المدينة). ووفق غرفة صناعة دمشق، غادر70% من رجال األعمال البالد، في حين موّل القسم المتبقي ميليشيات النظام واستفاد من اقتصاد الحرب القائم على التهريب والمضاربة. بذلك، لم يكن نظام األسد نظامًا اشتراكيًا وال حتى وطنياً، بل كان دولة برجوازية أمنية طفيلية تمارس أقصى درجات القمع والتهميش بحق الطبقات الشعبية، وتفتح البالد أمام النهب الداخلي والخارجي. لقد اختزلت الدولة في تحالف بين العسكر، والمخابرات، ورجال أعمال، حولوا سوريا إلى سوق مغلقة على الفقراء، ومفتوحة أمام اإلمبرياليات، في تناقض جوهري مع مبادئ التحرر والعدالة االجتماعية، ومع أي ادعاء بالممانعة أو السيادة. فشل اليسار الستاليني في التعامل مع الثورة السورية: دعم ميكانيكي يعيد إنتاج قوى الثورة المضادة تعامل اليسار العربي، وفق رؤية ستالينية، مع الثورة السورية كان كارثيًا، حيث اعتمد على دعم ميكانيكي مطلق لنظام بشار األسد دون تحليل دقيق للصراع الطبقي في سوريا. فقد استحضر اليسار مقوالت جاهزة عن دعم "البرجوازيات الوطنية" مقابل اإلمبريالية، وفرض هذه الرؤية على واقع معقد، ما أدى إلى كارثة استراتيجية على مستوى الثورة. هذا االنحياز األعمى منح قوى الثورة المضادة فرصة للركوب على األحداث واستغالل االرتباك داخل صفوف المعارضة إلعادة إنتاج الوضع الطبقي القديم بكل أبعاده االستغاللية والقمعية. اليوم، يتجلى هذا الواقع فيتصاعد نفوذ الجماعات اإلرهابية مثل «هيئة تحرير الشام»بقيادة اإلرهابي الجوالني، التي تستغل الفراغ السياسي والفوضى لتعزيز سلطتها وفرض نظام جديد من السيطرة الطائفية والعسكرية، بعيدًا عن أي مشروع تحرري أو ديمقراطي حقيقي. بهذا الفشل في تقديم بديل ثوري واضح ّ وفعال، ساهمت هذه الرؤية في تمكين قوى رجعية ال تمت للمطالب الشعبية بأي صلة. نقد تروتسكي للبرجوازية الوطنية: تطبيقات على النظام السوريواليسار الستاليني تُظهر التجربة التاريخية ألنظمة "االستقالل الوطني" التي تقودها البرجوازية البيروقراطية، كما في حالة النظام السوري، عجزًا بنيويًا عن قيادة مشروع تحرر وطني حقيقي أو مواجهة اإلمبريالية بفعالية. وقد انتقد ليون تروتسكي هذا النمط من األنظمة مبكرًا، مشددًا على أن البرجوازية الوطنية في دول العالم المستعمر أو شبه المستعمر ال تملك القدرة أو اإلرادة لمواجهة اإلمبريالية حتىوإن رفعت شعارات مناهِضة لها، ألنها في النهاية تخشى أكثر ما تخشاه الحراك الشعبي المستقل والثورة االجتماعية. هذا ما تحقق فعليًا في سوريا، حيث تبنّى نظام األسد خطابًا "ممانعًا" ظاهريًا، في حين عقد تحالفات اقتصادية واسعة مع قوى إمبريالية مثل روسيا والصين وفرنسا وكندا، وفتح أبواب االستثمار والنهب أمام الشركات متعددة الجنسيات. الخطورة الحقيقية في هذه األنظمة أنها تحت شعار "محاربة اإلمبريالية" تختزل التناقض الرئيسي في الصراع الخارجي، متجاهلة تمامًا التناقضات الطبقية الداخلية. فتمنع أي تعبير مستقل للطبقات الشعبيةباسم "الوحدة الوطنية"، وتقضي على أي إمكانية لتشكل بديل جماهيري حقيقي عبر أحزاب كرتونية، نقابات بيروقراطية خاضعة، وإعالم مطوّع يردد شعارات السلطة. ويبرز ذلك جليًا في البنية السياسية والتمثيلية التي أنشأها النظام السوري، وتحديدًا عبر "الجبهة الوطنية التقدمية،" التي تضم حزب البعث مع أحزاب شكلية كالحزب الشيوعي السوري وغيرها، حيث ينص ميثاق الجبهة صراحة ً على عدم وجود أي تناقضات سياسية داخل النقابات أو اتحادات الطلبة، ما يعني أن هذه الكيانات، من نقابات عمالية إلى اتحادات طالبية، أصبحت أدوات إدارية بيد السلطة، ال تعبيرات تنظيمية حرة. هذا ليس مجرد قمع تنظيمي، بل إلغاء للتعدد والتناقض الطبقي من الحياة السياسية. وفي حال نشوب حرب مع اإلمبريالية، كما حدث في العراق وسوريا، تجد هذه األنظمة نفسها بال قاعدة شعبية حقيقية، بال تنظيمات مستقلة، بال مشروع بديل، وبال "أجسام وسيطة"تؤسس لمرحلة ما بعد الحرب. وبالتالي، تفقد أي سند داخلي فعلي، وتُنتج حالة من الفوضى الشاملة تُمأل عادة ً بقوى الثورة المضادة، كجماعات اإلسالم السياسي المتشددة، التي ال تعبّر عن تطلعات الجماهير بل عن فراغ سياسي تركه النظام عن قصد. في الحالة السورية، كان صعودقوى مثل "هيئة تحرير الشام" بقيادة الجوالني نتاجًا مباشرًا لهذا الفراغ، إذ تمكنت من االستيالء على الثورة باسم "البديل"، رغم أنها ال تمثّل أي مشروع تحرري فعلي، بل مجرد ارتداد رجعي مغلّف بشعارات دينية. هكذا، نجد أن السياسات الستالينية التي تبناها اليسار التقليدي العربي، عبر دعم غير مشروط ألي نظام يرفع شعارات "معاداة اإلمبريالية"، قد ساهمت في شرعنة أنظمة قمعية فاسدة، أغفلت التناقض الطبقي، ومنعت بناء حركة ثورية حقيقية، وهيّأت المسرح النهيارات كارثية تمهد الطريق أمام عودة اإلمبريالية من بوابات الفوضى والتطرّف. الخاتمة في الختام، يكشف تحليل البنية الوظيفية لنظام األسد وتفاعل اليسار العربي معه عن مأساة ثالثية األبعاد: فمن جهة، حوَّل النظام شعارات "االشتراكية" و"المقاومة" إلى غطاء ٍ لتحالفه العضوي مع اإلمبرياليات عبر اقتصاد النهب والتحالف مع البرجوازية الطفيلية. ومن جهة ثانية، أعاد اليسار الستاليني إنتاج أسطورة "البرجوازية الوطنية المناهضة لإلمبريالية" رغم أدلة القمع الممنهج للحركات التقدمية وتفكيك الدول العربية. أما البُعد الثالث، فهو الكارثة الشعبية: فبين مطرقة نظام ٍ أفقر الشعب وحوَّل الثورة إلى حرب ٍ أهلية، وسندان يسار ٍ تخلّى عن نقده الطبقي، تمكَّنت القوى الرجعية من اختطاف غضب الجماهير وتحويله إلى فوضى تخدم اإلمبريالية ذاتها. إن سوريا اليوم ليست سوى مختبر ٍ مفتوح ٍ لدرس ٍ تاريخي ٍ قاسٍ: ال تحرر دون كسر التحالف بين رأس المال والقمع، وال مناهضة حقيقية لإلمبريالية من دون مواجهة الوكالء المحليين الذين يمهّدون لسيطرتها. ومهما طال الزمن، تبقى مهمة اليسار الجذري إعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح: تحرير اإلنسان أوالً، ألن أي مشروع ٍ تحرري ٍّ يبدأ بقمع شعبه ليس سوى وهمٍ قاتل.
#سامر_بن_عبد_السلام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حركة النهضة والطبقات الاجتماعية في تونس: قراءة ماركسية في مس
...
-
البيروقراطية في تونس بين الجذور الاستعمارية والفشل الإصلاحي:
...
-
الثورة الدائمة و يوغسلافيا - ميشال بابلو
المزيد.....
-
أوقفوا الحصار على غزة!
-
محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية ضي
...
-
الشيوعي العراقي: ندين العدوان ونتضامن مع الشعب الإيراني
-
بول مورفي معتقل في مصر في رفح
-
ضربات على إيران وحصار على رفح وتنسيق مع الخليج… من يردع إسرا
...
-
معركة لوس أنجلوس
-
إيران، تحت وقع إضراب سائقي الشاحنات
-
كلمة الرفيق الإدريسي عبد الرزاق، الأمين العام للاتحاد الدولي
...
-
على هامش قيام عمال ميناء (فوس سور مير) الفرنسية برفض تحميل ا
...
-
عمدة نيويورك يحذر المتظاهرين المناهضين لهيئة الهجرة والجمارك
...
المزيد.....
-
الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي
...
/ مسعد عربيد
-
أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا
...
/ بندر نوري
-
كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة
/ شادي الشماوي
-
الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة:
...
/ رزكار عقراوي
-
متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024
/ شادي الشماوي
-
الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار
/ حسين علوان حسين
-
ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية
/ سيلفيا فيديريتشي
-
البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية
/ حازم كويي
-
لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات)
/ مارسيل ليبمان
المزيد.....
|