أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامر بن عبد السلام - ضد الشاشة المستعمِرة: في راهنية مشروع الطاهر شريعة وتجاوز حدوده(نسخة محينة و مطورة)















المزيد.....

ضد الشاشة المستعمِرة: في راهنية مشروع الطاهر شريعة وتجاوز حدوده(نسخة محينة و مطورة)


سامر بن عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 07:08
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ضد الشاشة المستعمِرة: في راهنية مشروع الطاهر شريعة وتجاوز حدوده
مقدّمة
تُشكّل الإمبريالية الثقافية أحد أكثر أوجه السيطرة الحديثة خفاءً وفعالية؛ إذ لم تعد الهيمنة الغربية تكتفي بإخضاع الشعوب بالقوة العسكرية أو الاقتصادية، بل امتدّ مشروعها إلى احتلال المخيّلة وتوجيه المعنى عبر أدوات الفكر والثقافة والإعلام. في هذا الإطار، يلتقي نقد إدوارد سعيد للاستشراق مع تحليل نعوم تشومسكي للدعاية الإعلامية في فضح الدور الذي تلعبه الثقافة في إنتاج تبعية رمزية للعالم الغربي، حيث تتحوّل المعرفة والفن والخطاب إلى أدوات لإعادة إنتاج السيطرة، وتثبيت موقع الغرب كمرجع كوني، مقابل تهميش الآخر وتشويهه
غير أن هذه السيطرة لم تمرّ دون مقاومة. فقد برزت منذ منتصف القرن العشرين أشكال متنوّعة من الرفض الثقافي، استهدفت تفكيك المنظومات الخطابية المفروضة، والسعي إلى تأسيس بدائل تُعبّر عن الذات المسلوبة. ومن أبرز هذه الجبهات السينما، التي لم تَعُد مجرّد وسيلة ترفيهية أو سردية، بل تحوّلت إلى فضاء للصراع الرمزي والسياسي. وفي هذا السياق، برزت تجربة الطاهر شريعة في تونس كنموذج مبكّر لـ"السينما التحررية"، حيث دعا إلى إنشاء خطاب بصري مستقل يُناهض التبعية الثقافية، ويعيد للسينما دورها كأداة للتفكير الجماعي والتحرّر الوطني. فبموازاة تفكيك الخطاب الاستعماري، سعت هذه السينما إلى إنتاج أشكال فنية منبثقة من الواقع المحلي، ومنتصرة للعدالة والكرامة و التحرر
الإمبريالية الثقافية كامتداد للهيمنة الشاملة
ليست الإمبريالية الثقافية مجرد ظاهرة موازية للهيمنة العسكرية والاقتصادية، بل هي امتداد مباشر لها، تمثّل طورًا متقدّمًا من السيطرة، حيث لا تكتفي بإخضاع الجغرافيا والثروات، بل تتسلل إلى البنية الرمزية لتُعيد تشكيل الإنسان نفسه. فهي تسعى إلى إنتاج إنسان ذي بُعد واحد، بتعبير هربرت ماركوز، منزوع الجدلية، مفصول عن أسئلته التاريخية والطبقية، مهيّأ للتكيّف مع واقع التبعية لا لمقاومته. في شبه المستعمرات، تعمل هذه الإمبريالية على تفكيك شروط الصراع الاجتماعي، لا بالقمع المباشر فقط، بل بتدمير الجدل داخل البنية الفوقية، من خلال فرض نزعة جمالية واحدة، وأنماط إخراجية متشابهة، ومضامين استهلاكية تعيد إنتاج الواقع القائم بوصفه أفقًا لا يمكن تجاوزه
والأخطر من ذلك أن هذه الهيمنة لا تُقنع فقط بتفوّق الإنسان الغربي، بل تُنتج قابلية داخلية لدى شعوب الجنوب لتصديق الأساطير الاستشراقية حول تخلفها الطبيعي، واحتياجها الدائم لوصاية الخارج. فهي تعيد إنتاج الآخر الأفريقي والشرقي، لا ككائن مضطهَد فحسب، بل ككائن ناقص القيمة في نظر ذاته، منسلخ عن تاريخه وجسده ولغته. وبهذا المعنى، فهي لا تُمهد فقط لقبول النموذج الغربي كنمط حياة، بل أيضًا لقبول هيمنته كقدر، بل واستعماره من جديد، تحت غطاء الحداثة والتنمية والمواكبة
السينما كسلاح مركزي في مشروع الهيمنة الثقافية
ضمن ترسانة الإمبريالية الثقافية، برزت السينما كواحدة من أخطر أدوات الهيمنة الرمزية، ليس فقط لأنها فن بصري جذّاب، بل لأنها فن جماهيري بامتياز، يتجاوز النخبة والمثقفين ليخترق وعي الجماهير الواسعة. بخلاف الأدب أو الفلسفة، لا تحتاج السينما إلى وسائط لغوية أو معرفية معقّدة، ما يجعلها قناة مثالية لتسويق القيم الغربية، وتثبيت تفوّق النموذج الحضاري الغربي بوصفه المرجع الأعلى. في هذا الإطار، يحلل إدوارد سعيد في "الثقافة والإمبريالية" كيف تقوم منتجات ثقافية، منها السينما، بتطبيع الاستعمار، لا عبر التبرير المباشر، بل من خلال السرديات التي تُقدّم الاحتلال بوصفه تمدينًا، والهيمنة بوصفها إنقاذًا
يرصد سعيد مثلًا كيف أن أفلامًا كـ**"لورنس العرب"** لم تكتفِ بتقديم المستشرق الغربي كمنقذ للمشرق، بل قامت بإقصاء العربي عن مركز الفعل، وتصويره ككائن عاجز ينتظر تدخّل الرجل الأبيض. كذلك يلفت النظر إلى طريقة تصوير المستعمرات في كثير من الإنتاجات الهوليوودية والبريطانية بوصفها فضاءات بدائية، عاطفية، لا يمكنها تنظيم ذاتها دون يد خارجية. هذه الصور، وإن بدت فنية، فإنها تؤدّي وظيفة سياسية خالصة: إقناع الشعوب المستعمَرة لا فقط بضعفها، بل بحاجتها الموضوعية للهيمنة الغربية
والأخطر من ذلك أن الإمبريالية الثقافية، من خلال السينما، لا تروّج فقط للمضامين الاستعمارية، بل تفرض أيضًا معاييرها الجمالية وتقنياتها الإخراجية ونزعتها الاستهلاكية، فتُجهّز المُشاهد العربي أو اللاتيني أو الأفريقي لتقبّل التبعية بوصفها "ذوقًا عالميًا"، وتُهمّش بالمقابل أي أنماط بديلة في السرد أو التمثيل أو التقطيع أو حتى الإيقاع البصري، بل وتزرع نوعًا من الرفض المُسبق لكل ما لا يشبه النموذج الغربي، باعتباره "دون المستوى"، أو "غير احترافي". وهكذا، تصبح السيطرة على الذوق والخيال شرطًا مسبقًا للسيطرة على الوعي، وتتحوّل السينما من فنّ سردي إلى أداة إعادة إنتاج للهزيمة والهيمنة
ولم تكتفِ الإمبريالية الثقافية بهذا الإخضاع الرمزي، بل عملت أيضًا على خنق السينما التحررية وسينما العالم الثالث من خلال أدواتها السياسية والاقتصادية؛ فالسيطرة على هذه البلدان، وضرب استقرارها، وإغراقها في التبعية الاقتصادية، أدى إلى إضعاف البنية التحتية للإنتاج السينمائي، وتقليص ميزانيات دعم الأفلام المستقلة والتحررية. كما يواجه العديد من المخرجين في الجنوب العالمي التضييق والملاحقة والرقابة، حيث تُمنع أفلامهم من العرض، أو تُحذف منها مشاهد ومضامين تُعتبر "مزعجة"، ما يكرّس وضعًا من الكبت الثقافي المتواطئ مع الهيمنة الخارجية. بهذا الشكل، تتجاوز الإمبريالية الثقافية حدود التمثيل الرمزي، لتتحوّل إلى فعل مادي خنّاق يعيق ولادة بدائل حقيقية في الخطاب والخيال
وبهكذا، تؤدّي الإمبريالية الثقافية دورها المزدوج في المركز والأطراف على حدّ سواء
ففي مراكز الهيمنة، تُعيد إنتاج صورة الإنسان "الآخر"—العربي، الأفريقي، اللاتيني—داخل العقل الغربي، بوصفه كائنًا دونيًا، بدائيًا، عاجزًا عن التقدّم
وفي الأطراف، تعمل عبر أدواتها السياسية والاقتصادية والفنية على إضعاف الإنتاج الثقافي البديل، وتشكيل وعي الجماهير وفق نماذج استهلاكية مفروضة، بما يعمّق التبعية الرمزية ويجهض أي مقاومة ثقافية حقيقية
وبهذا تصبح السينما، في يد الإمبريالية، آلة شاملة لإعادة إنتاج التراتب العالمي، على مستوى الصورة والمعنى والذوق، لا تقل خطرًا عن المدفع والمصرف
السينما التحررية: من الصورة المهيمنة إلى الصورة المقاومة
في مواجهة المشروع الإمبريالي الذي سخّر السينما لإعادة إنتاج التبعية الرمزية والسياسية، نشأت في العالم الثالث تجارب سينمائية بديلة، تحررية في جوهرها، تسعى لا إلى تمثيل الواقع فنيًا فحسب، بل إلى تفكيك العلاقات الاستعمارية داخل الوعي البصري وخلق لغة تصويرية تعبّر عن الذات المُستعمَرة من موقع الفاعل وليس التابع
في هذا السياق، برزت تجربة الطاهر شريعة في تونس كواحدة من أولى المبادرات الجادة التي سعت إلى بناء سينما وطنية تحررية، تقوم على قطيعة واضحة مع السوق السينمائي التجاري، وانتصار للفكر، والالتزام الإيديولوجي، والوقوف في صف المسار الثقافي المناهض للسلطة والتبعية. كان مشروعه يقوم على نشر الثقافة السينمائية لا داخل النخب بل في العمق الشعبي، من خلال نوادي السينما التي كوّنت جيلاً كاملاً من الشباب التونسي المشتبك مع الصورة، والذي تُوّج جهده التراكمي في إطلاق مهرجان أيام قرطاج السينمائية عام 1966، لا كمجرّد تظاهرة فنية، بل كمشروع ثقافي تحرّري نابع من الشعب وذاهب إليه
ولقيمة هذه التجربة وعمقها، أبدى المخرج المصري توفيق صالح انبهاره بمستوى النقاشات التي كانت تدور داخل نوادي السينما التونسية، مشيرًا إلى أنها تمثل حالة نادرة في العالم العربي، حيث تلتقي الثقافة البصرية بالوعي النقدي، ويُخاض النقاش حول الصورة لا على مستوى التقنية فقط، بل على مستوى المضامين، والخلفيات الفكرية، والإيديولوجيا، والاستعمار الثقافي. لقد شكّلت هذه النوادي، في نظره، فضاءات شعبية للمقاومة الرمزية والفكرية

لكن هذا المشروع التحرّري لم يكن محميًا من القمع. فقد تعرّض شريعة للتضييق و حتى للسجن من طرف نظام بورقيبة، بل تم اتهامه بالبلشفة والشيوعية من قبل الولايات المتحدة الامريكية ممثلة بسفيرها في تونس لانه طالب بزيادة عدد الافلام التونسية المعروضة في قاعات السينما و فرض قيود على توريد الافلام الغربية و من ثم وضع تونس على اللائحة السوداء السينمائية بسبب مواقف شريعة. ومع ذلك، لم يتراجع، وواصل بناء شبكة واسعة من التحالفات السينمائية الإفريقية
وقد فهم شريعة أن المعركة السينمائية لا يمكن أن تُخاض داخل حدود تونس فقط. فامتدت رؤيته لتُترجم إلى انتساب حقيقي للسينما الإفريقية، حيث أسّس علاقات متينة مع رموزها، أبرزهم المخرج السنغالي عصمان صمبان، الفائز بالتانيت الذهبي عن فيلمه «سوداء يا» في الدورة الأولى من أيام قرطاج. ومن هذا التعاون، تم تأسيس الاتحاد الإفريقي للمخرجين سنة 1970 ببوركينا فاسو، بعد أن كان شريعة قد ساهم سابقًا في إطلاق أسبوع السينما الإفريقية سنة 1969، الذي تحوّل لاحقًا إلى مهرجان واغادوغو سنة 1973، ثاني أعرق مهرجان بعد قرطاج
كما ساهمت هذه الحركة في إلهام تجارب أخرى، مثل مهرجان خريبكة السينمائي بالمغرب (1977)، حيث اعتمد مؤسسه نور الدين الصايل على تجربة نوادي السينما التونسية نموذجًا يُحتذى به. لقد شكّلت هذه الشبكة من المهرجانات الوطنية والإفريقية مشروعًا ثقافيًا متكاملاً هدفه تحرير الشاشة من سطوة المركز الغربي، وتأكيد الذات الثقافية والروائية والبصرية لشعوب الجنوب
لقد اقترنت تجربة الطاهر شريعة بـ
نشر الثقافة السينمائية في عمق المجتمع-
الانتصار للسينما الوطني-
القطع مع السينما السوقية-
-مقاومة للهيمنة وتمثّلات الاستشراق
هكذا، لم يكن نضال شريعة تقنيًا أو إداريًا، بل نضالًا وجوديًا من أجل تحرير الوعي، أعاد فيه للسينما معناها الجوهري كأداة للمقاومة لا كسلعة، وكفضاء للجدل لا للاستسلام، وكصوت للشعوب لا كمرآة للمركز. تجربة لا تزال تلهم كل محاولة لخلق سينما تحاكي الشعوب لا تملي عليها كيف ترى نفسها
"السينما كساحة صراع: بين الهيمنة الإمبريالية والمقاومة الثقافية"
إن ما سعى إليه الطاهر شريعة على مستوى الممارسة السينمائية في تونس وإفريقيا، يُقابله نقدٌ نظري عميق طوّره مفكرون بارزون مثل إدوارد سعيد ونعوم تشومسكي، اللذان كشفا عن الوظيفة الأيديولوجية للثقافة الإمبريالية، خصوصًا في مجالات الإعلام والفن. يرى سعيد، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن الثقافة ليست بريئة أو محايدة، بل هي امتداد ناعم للإمبراطورية، تشتغل من خلال الرواية، والسينما، والصورة، على إعادة إنتاج الإنسان المستعمَر داخل العقل الغربي ككائن دوني، همجي، عاجز عن الحكم الذاتي. وهي نفس الوظيفة التي تقوم بها وسائل الإعلام، حسب تشومسكي، ضمن ما يسميه "تصنيع القبول"، حيث تُسخَّر أدوات الثقافة الجماهيرية لترسيخ مصالح النخب السياسية والاقتصادية في الغرب، وإعادة تشكيل وعي الجماهير، لا من خلال القمع المباشر، بل عبر التحكم في بنية الخطاب والمعنى والجمال
في هذا الإطار، تصبح السينما أداة مركزية للهيمنة الثقافية، لأنها فن جماهيري قادر على الوصول إلى أوسع فئات الشعب، فتُستعمل لإرساء مقاييس جمالية محددة، تقنيات إخراجية مهيمنة، مضامين استهلاكية مكرورة، تُجهّز المُشاهد في الجنوب لتقبّل التبعية الثقافية والسياسية، بل ورفض أي نمط بصري أو سردي لا يُشبه ما تنتجه المراكز. الأخطر من ذلك، كما نبّه سعيد، أن هذه الصناعة تُعيد إنتاج الصورة الاستشراقية للشرق والإفريقي واللاتيني، ليس فقط في نظر الغرب، بل في نظر أبناء هذه الشعوب أنفسهم، بحيث تصبح الذات مستلبةً لرؤية الآخر عنها
من هنا تتضح أهمية المشروع التحرّري الذي قاده شريعة، والذي يندرج ضمن محاولات إعادة امتلاك الصورة والسرد والمُخيال، ورفض أن تكون الثقافة امتدادًا للسلطة الإمبريالية. لقد قدّم نموذجًا مضادًا لما يسميه سعيد بـ"المركز الثقافي الإمبراطوري"، من خلال التموقع في الأطراف، والانطلاق من الشعب، والانحياز لسينما تُعبّر عن التناقضات الطبقية والواقع الاجتماعي، وتُفكك خطاب السيطرة البصرية
نقد جدلي لتجربة شريعة: ضرورة تجاوز ثنائية المركز/الطرف
رغم القيمة الكبرى لمشروع الطاهر شريعة في تحرير السينما من سطوة الثقافة الإمبريالية، ومساهمته الرائدة في بناء سينما وطنية إفريقية مستقلة، فإن مقاربته اتسمت أحيانًا بنوع من الأحادية في النظر إلى الغرب كعقل موحد ومتماسك، دون الانتباه الكافي إلى ما يشقه من تناقضات داخلية. فقد تعامل مع "السينما الغربية" بوصفها كتلة استهلاكية متجانسة، دون أن يُميز بين سينما السوق والخضوع، وسينمات أخرى نشأت في قلب المركز ووقفت في صفّ الشعوب المستعمَرة وعبّرت عن أزمات البرجوازية الغربية نفسها
كان من الممكن، في هذا السياق، أن يُطبَّق على السينما التحررية ما أشار إليه ليون تروتسكي من ضرورة تحالف بروليتاريا الأطراف مع بروليتاريا المركز في معركة واحدة ضد رأس المال العالمي. فالعديد من التجارب السينمائية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، مثل الواقعية الإيطالية (دي سيكا، روسيليني)، وسينما جان لوك غودار، وسينما أمريكا اللاتينية الثورية (فرناندو سولاناس، "السينما الثالثة")، والسينما الإيرانية الجديدة، كانت كلها جزءًا من مقاومة داخل المركز وداخل الأطراف ضد النظام الثقافي الرأسمالي الذي يُعيد إنتاج الهيمنة عبر الصورة والصوت
كما أن الأطراف ذاتها شهدت بروز سينما خاضعة لآليات السوق والتسليع، على غرار "سينما المقاولات" في مصر، التي خضعت لمنطق الربح السريع، وغابت عنها المضامين الاجتماعية أو السياسية الجذرية. هذا يعني أن الإمبريالية الثقافية لا تعمل فقط في المركز، بل تُعيد إنتاج ذاتها في الهامش أيضًا، عبر طبقات محلية تتماهى مع ثقافة الهيمنة وتُعيد بثها
لهذا فإن مقاومة الإمبريالية السينمائية لا يمكن أن تكون مجرّد مبادرات محلية معزولة، بل يجب أن تؤسس لـجبهة سينمائية أممية تحرّرية تحارب الإمبريالية الثقافية في المركز وفي الأطراف، تتجاوز ثنائية المركز/الهامش، وتخلق تحالفات إبداعية جديدة، تنطلق من وعي مشترك بوحدة المعركة، وتستثمر التجارب الحرة من كل بقاع العالم في وجه السوق المعولم ومنظومة التبعية
إن تجاوز هذه الثنائيات (غرب/شرق، مركز/طرف) بشكل جدلي، كان سيسمح لشريعة بإغناء خطابه السينمائي، عبر بناء تحالفات جمالية وفكرية عابرة للحدود الجغرافية، قائمة على وحدة النضال الثقافي ضد الإمبريالية. لكن رغم هذا القصور، تظل تجربته أول محاولة حقيقية لتوطين فعل سينمائي تحرري نابع من الجنوب، رافض للهيمنة، ومؤمن بقدرة السينما على أن تكون أداة وعي وتحرر
خاتمة: من شريعة إلى الحاضر... استمرارية النضال ضد الاستعمار الثقافي
إن تجربة الطاهر شريعة، رغم ما شابها من حدود نظرية في تصور العلاقة مع المركز، تظلّ إرثًا نضاليًا فريدًا فتح أفقًا لتحرير الصورة من الهيمنة، وأثبت أنّ السينما ليست مجرد ترف فني، بل أداة لإعادة تشكيل الوعي الشعبي والانتصار للهوية الجماعية. هذا المشروع، الذي وُلد من قلب القارة الإفريقية، في زمن التبعية، يُثبت اليوم راهنيته أكثر من أي وقت مضى، خاصة في سياق عولمة ثقافية تعيد إنتاج الهيمنة الإمبريالية بأدوات ناعمة: عبر المنصات الرقمية، والهيمنة اللغوية، والنموذج الجمالي الواحد، وسياسات التمويل المشروط
فالاستعمار الثقافي لم يمت، بل تطوّر وتخفّى، وغدا أكثر دهاءً، حيث يُعاد إنتاج "الآخر" ككائن تابع، عبر الصورة، والإيقاع، والسيناريو، ومقاييس الجوائز والمهرجانات. وما لم يتم استئناف المشروع الذي بدأه شريعة، بروح أممية جدلية، وبوعي نقدي بالتحالفات الممكنة في الهامش كما في المركز، فإن الشاشة ستظل رهينة لمن يحتكر الصوت واللون والمعنى
لهذا، فإن التحدي اليوم لا يكمن فقط في إنتاج سينما وطنية، بل في تأسيس تيار سينمائي عالمي مضادّ، تحرّري، جذري، لا يكتفي بتشخيص الاستعمار بل يسعى لتفكيك آلياته الجمالية والفكرية، عبر مراكمة التجارب، وتوسيع دوائر التفاعل بين مخرجين من الجنوب والغرب الحر، وبين أشكال سرد بديلة تعيد للعالم تعدديته وتُحرّر الشاشة من سطوة المركز



#سامر_بن_عبد_السلام (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اسطورة العداء بين البرجوازية الوطنية والامبريالية : النظام ا ...
- الاسد ووهم الممانعة كيف حوَّل اليسار الستاليني الطغاةإلى أبط ...
- حركة النهضة والطبقات الاجتماعية في تونس: قراءة ماركسية في مس ...
- البيروقراطية في تونس بين الجذور الاستعمارية والفشل الإصلاحي: ...
- الثورة الدائمة و يوغسلافيا - ميشال بابلو


المزيد.....




- تيسير خالد يهنئ الشعب الايراني بانتصاره على العدوان وحلف ترا ...
- لا للعدوان الصهيوني -الامبريالي ضد ايران، نعم لفلسطين مستقلة ...
- لمحة عن التكنولوجيا المستخدمة في ملاجئ الأغنياء
- الشيوعي العراقي يدين العدوان الامريكي ويدعو إلى وقف الحرب ال ...
- تحميل كتاب شابور حقيقات: إيران من الشاه إلى آيات الله، حول ا ...
- أممية رابعة : اختتام أعمال الدورة الثالثة عشرة للمدرسة الإقل ...
- في مواجهة الحرب بين إيران وإسرائيل، ثمة طريق ثالث ممكن!
- لجنة من أجل حياة النساء وحريتهن: لا للحرب . لا لهجوم إسرائيل ...
- -ليس للرئيس الحق!-.. شاهد رد فعل بيرني ساندرز عند علمه بالضر ...
- م.م.ن.ص// دروس الحرب: اختراق الجدران


المزيد.....

- الإمبريالية والاستعمار الاستيطاني الأبيض في النظرية الماركسي ... / مسعد عربيد
- أوهام الديمقراطية الليبرالية: الإمبريالية والعسكرة في باكستا ... / بندر نوري
- كراسات شيوعية [ Manual no: 46] الرياضة والرأسمالية والقومية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- طوفان الأقصى و تحرير فلسطين : نظرة شيوعيّة ثوريّة / شادي الشماوي
- الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: ... / رزكار عقراوي
- متابعات عالميّة و عربية : نظرة شيوعيّة ثوريّة (5) 2023-2024 / شادي الشماوي
- الماركسية الغربية والإمبريالية: حوار / حسين علوان حسين
- ماركس حول الجندر والعرق وإعادة الانتاج: مقاربة نسوية / سيلفيا فيديريتشي
- البدايات الأولى للتيارات الاشتراكية اليابانية / حازم كويي
- لينين والبلاشفة ومجالس الشغيلة (السوفييتات) / مارسيل ليبمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سامر بن عبد السلام - ضد الشاشة المستعمِرة: في راهنية مشروع الطاهر شريعة وتجاوز حدوده(نسخة محينة و مطورة)