خزامي مبارك
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 19:53
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
"يبدو لي أن واحدًا من أكبر أدوار المثقفين في المجال العام هو أن يعملوا كنوع من الذاكرة العامة، أن يتذكروا ما نُسي أو تم تجاهله، أن يُذكِّروا الجمهور بالمسائل الأخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجته."إدوارد سعيد
وعن صورة الماضي، يقول والتر بنيامين: "تمرُّ بسرعة، ولا يمكن الإمساك بالماضي إلا كصورة تومض في لحظة ثم لا تُرى أبدًا." وهذه هي أولى مبررات استعمال الذاكرة، والتي تقود، بصورة من صورها، إلى شرعنة أخلاقيات التذكّر؛ فبمجرد حدوث الحدث وانتقاله إلى الماضي، يعجز القانون عن بلوغه، لذلك تلجأ بعض الدول إلى سنّ قوانين وتشريعات تجرّم إنكار واقعة بعينها أو جريمة جماعية معينة حدثت في الماضي، كالهولوكوست مثلاً، أو جرائم الحرب الأهلية في رواندا وغيرها. فالشعوب تتذكر آلامها ومآسيها كي لا تكرر أخطاءها، كما يقولون، والآلام العظيمة تبني شعوبًا عظيمة.
للسودان رصيدٌ ليس بالقليل من التجارب الأليمة. تاريخنا، في جوانب كثيرة منه، هو تاريخ مأساة، ورحلتنا في استرخاص الحياة تكاد لا تنتهي. ولكن المأساة الأكبر هي النسيان، وكأن الذاكرة عندنا غربال، أو شيئًا أصابه العَطَب والثُّقب، فتسيل منه كلُّ الأشياء ولا يمكن صَدُّها.
فمآسٍ كمأساة عنبر جودة، أو قصر الضيافة، أو مذبحة الضعين، نادرًا ما يتم ذكرها، إلا في الحوارات الأكاديمية أحيانًا، وفي نقاشات عابرة لدى بعض المثقفين أحيانًا أخرى. وهذا أمر في غاية الخطورة، كونك تتجاوز أكبر مآسيك لتخلق مآسي جديدة، في تكرار ممل لأقصى ما يكون.
حادثة مذبحة الضعين هي إحدى المواجع الكبيرة التي وقعت في تاريخنا القريب، بالتحديد في يوم السبت 28 مارس 1987، في مدينة الضعين، خلال فترة الحكومة الائتلافية بين حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي، بقيادة رئيس الوزراء الصادق المهدي. وبحسب تحقيقات عشاري محمود خليل وسليمان بلدو في توثيقهما المهم للحادثة، "نفذت أفراد من قبيلة الرزيقات مذبحةً مروّعة ضد المدنيين من الدينكا النازحين بالمدينة آنذاك، وفق تخطيطٍ مسبق لهذه المذبحة. وكانت الخطة الإبادية معروفة لدى قيادة القبيلة، ولدى المسؤولين الحكوميين المحليين، والشرطة، كما سمع عن الخطة عدد مقدر من الدينكا المستهدفين. وخلال ساعات قليلة، في ذلك اليوم، قتل عشرة آلاف من قبيلة الرزيقات، بقيادة فرسان الرزيقات على صهوات جياد عربات الكارو، أكثر من ألفي مدني من الدينكا النازحين من ديارهم في شمال بحر الغزال، كانت أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، بعد أن كان أغلب رجال الدينكا قد فروا من المدينة قبل يوم المذبحة."
والحديث عن هذه الحادثة يطول، بدءًا من التحقيقات والملابسات، مرورًا بموقف الحكومة الرسمية منها، وصولًا إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان في قيادتها لدولة جنوب السودان، وماذا فعلت حيال ذلك، وأي نوع من السياسات استخدمته للتذكّر؟
ولعشاري محمود خليل وسليمان بلدو، المشار إليهما آنفًا، تحقيقٌ في غاية الأهمية ورد في كتابهما "مذبحة الضعين: الرق في السودان". وحسب التوثيق:"في مساء ذات يوم الجمعة 27 مارس، هجم خمسون رزيقيًا من رابطة شباب حي الربع الرابع على المصلّين داخل كنيسة الضعين، وأطلقوا النار عليهم، ورموهم بالطوب، وطاردوهم. وكان هؤلاء الشباب الرزيقات يتضاحكون أثناء الاعتداء على الدينكا الذين لم يُصَب منهم أحد وهربوا من المكان. بعدها، توجه الشباب الرزيقات إلى بيوت الدينكا المجاورة للكنيسة، فطردوا ساكنيها، وشلعوا البيوت."
"بعد ذلك بأقل من ساعة، هجمت جموع الرزيقات، من بينهم نساء وأطفال، على الدينكا في مكان ثقلهم السكني في حلة فوق، بالربع الرابع، فأحرق الرزيقات بيوت الدينكا بالنار، واعترضوا عربة المطافئ، واعتدوا على الدينكا، وقتلوا منهم سبعة أشخاص، وطاردوهم في شوارع المدينة. وصاحت نساء رزيقيات متحزمات بالكراهية، يحملن أعواد الحِيشان المشلّعة، في وجه الشرطة، يُحذّرنهم من مغبّة الوقوف بينهنّ والدينكا."
"في هذه الليلة، الجمعة، هرب آلاف الدينكا من المدينة، راجلين، واحتموا بمركز شرطة الضعين القريب من مساكن آل مادبو. تجمع أكثر من ألفي دينكاوي، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء. وهرعت أعداد أخرى إلى حي السكة حديد، الذي كانت تسكنه أسر من الدينكا مع خليط من قبائل أخرى. وقدمت أسر رزيقية وزغاوية الحماية في بيوتها لبعض الدينكا، كما باتت أعداد من الدينكا في أماكن عملهم بالضعين، في كمائن الطوب، ومصنع الصابون، والأفران، وربما في أماكن قشارات الفول (العتالة)."
"لأسباب بدت في لحظتها غامضة، أمرت قيادة الشرطة، بموافقة آدم الطاهر المدير الإداري، بتحويل الدينكا من مركز الشرطة، حيث السور والسلاح وعتاد الشرطة وهيبة المركز، إلى حوش في المدرسة الغربية، الخالية حتى من التلاميذ. وما أن استقر الدينكا في حوش المدرسة الغربية على مدى ساعة واحدة، حتى استدعت الشرطة قيادات الدينكا، ووجه الرائد شرطة علي المنا إلى رئيس الكنيسة بنجامين كون، من قبيلة الجور شول، أسئلة تجريمية بالغمز عن أسلحة في كنيسته، وعن سر الاجتماعات التي كان بنجامين يعقدها في الكنيسة . ونعلم أن الرائد علي المنا سيقتاد غدًا السبت من إحدى عربات السكة الحديد القس بنجامين كون، ثم يعيده بعد ربع ساعة إلى محطة السكة الحديد جثة هامدة، ألقاها بين الجثث."
"في ذلك الاجتماع، أبلغ الرائد علي المنا القيادات الدينكاوية بقرار الحكومة تنقيل الدينكا مجددًا من حوش المدرسة الغربية إلى حلة السكة حديد، ليكون جميع الدينكا في مكان واحد ، قال: لتسهيل حمايتهم، بسبب قلة عدد عساكره. لم يفهم الدينكا معنى كلامه."
"تم تنفيذ تنقيل الدينكا من المدرسة، وباتوا ليلة الجمعة في حلة السكة حديد. هنا بلغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف، دائمًا أغلبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء، بعد مغادرة أغلب الرجال. ووفق ما سنعرفه لاحقًا من حساب العداد ماركو باك لركاب العربة الخشبية في محطة السكة الحديد، كان فيها أربعون رجلاً فقط، ومائتان من النساء والأطفال."
"في ذات الليلة، رفض المدير الإداري آدم الطاهر مقترح كبار تجار مدينة الضعين – أغلبهم من الزغاوة العارفين ببواطن الأمور – بأن يتم ترحيل الدينكا من المدينة ليلة الجمعة ذاتها، في عربات وفروها له، وذكّروه بسلطاته الاستثنائية وقدرته على الاستيلاء على أية عربة في المدينة. كان هؤلاء التجار على علم بخطة الرزيقات لإبادة الدينكا."
صباح السبت 28 مارس: يوم المذبحة.
وصل بالصدفة الروتينية إلى الضعين القطار رقم 305، قادمًا من بابنوسة، ومتوجهًا إلى نيالا. كان يجرّ عربة خشبية فارغة لشحنها بالبهائم من الضعين، وأربع عربات حديدية فيها مهام خاصة بالقوات المسلحة، يحرسها أربعة جنود مسلحون.
أحدث وصول القطار 305 تغييرًا جوهريًا في الوضعيات والخطط لدى جميع الأطراف. فغيّر آدم الطاهر المدير الإداري للمنطقة رأيه المتعصّب السابق، وقرر الآن نقل الدينكا بهذا القطار إلى مدينة نيالا.
تم استخدام العربات الحديدية الثمانية وعربة خشبية كانت متوقفة أصلًا، فتم تفريغ جوالات الفول المبشور منها، وأُوقف شحن البهائم، لتُستخدم العربات في ترحيل الدينكا.
أُبلغ كبير شيوخ الدينكا تشيوي عرديب مدوك بالقرار، فخاطب جميع الدينكا المتجمعين في حلة السكة حديد، فوافقوا. توجهوا إلى محطة القطار، وامتلأت العربات العشرة عن آخرها، وبقي نحو سبعمائة شخص بدون مكان، فتم توجيههم للانتظار في حوش نقطة شرطة السكة الحديد، حيث سيتم لاحقًا حرق خمسمائة منهم.
في الوقت ذاته، عُقد اجتماع مجلس أمن مدينة الضعين تحت شجرة نيم كبيرة بمحطة السكة الحديد، بحضور القيادات الأمنية، وقائدَي الرزيقات علي الرضي وحماد بشارة.
وصلت جموع الرزيقات المسلحة إلى المحطة، ومنعوا القطار من التحرك، ووضعوا معوقات على القضيب، وهددوا السائق. بلغ عددهم عشرة آلاف، كما قال الصادق المهدي نفسه، وهو ما ورد في تقرير وكيل النيابة وضابطي الشرطة.
بدأ تنفيذ المذبحة المخططة بأفعال النهب والتقتيل والحرق واختطاف الأطفال والفتيات.
تعرف الشهود من الدينكا على الرزيقي إسماعيل نيوبي، الكموسنجي في سوق الضعين، شاهدوه يدحرج برميل الوقود بمعاونة صبية. وشارك أطفال الرزيقات في المذبحة، وكذلك النساء. جمعوا الشرقانيات، والمراتب، والقش، وخِرق القماش، والفؤوس.
فتح نيوبي برميل الوقود، وصب منه للصبية وآخرين، ورشّوا به المحاصَرين من الدينكا في حوش الشرطة. ثم قذفوا أشياء مشتعلة فوق الرؤوس، فاحترق أكثر من خمسمائة طفل وامرأة في هذا المكان.
#خزامي_مبارك (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟