خزامي مبارك
الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 04:13
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لنفهم هذا العنوان ونتأكد من صحة ما ذهب إليه لا بد من وضع الأشياء في سياقها الطبيعي (context) والعودة إلى الماضي، كما أن معرفة الحاضر في كثير من الأحيان يتطلب استدعاء الماضي، فسودان اليوم الذي نعيشه، هو امتداد لذلك الحقل الذي صنعته الامبراطورية المصرية في نهاية 1820وبداية 1821م، والتي شملت دولًا وقبائل مختلفة كانت تمر بفترات متباينة من التطور الاجتماعي والاقتصادي، فجعلت منها دولة حديثة، بنمط الدولة الحديثة المولدة في المجتمعات الرأسمالية، عرفت بالدولة السودانية.
وهو نمط سياسي وإداري تطور مع صلح معاهدة وستفاليا التي وقعت في أروبا 1648م، ومن ثم أصبحت واقع في كل أنحاء العالم، فصار واقعًا لا مفر منه. يتميز هذا النمط بعدة مميزات أهما السيادة والمواطنة، حيث لا تمييز فيها بين المواطنين على أسس دينية أو عقدية، كمان أنه يتميز دائماً بوجود ثقافة سياسية وخطاب رسمي تعضد السلطة وتبرر ممارساتها. ففي الحالةالرأسمالية نجد الخطاب الليبرالي هو الخطاب الرسمي والثقافة السياسية التي تبرر للسطة.
في حالة دولتنا السودانية نجدها تشكلت ووفق أحلام و طموحات محمد علي باشا، حيث أنه صنع وحدة لكيان سياسي وإداري في داخله تناقضات كثيرة، من ضمنها التباينات والاختلافات الثقافية المذكورة أعلاه وأصبحت الثقافة السياسية لها أي «توجهها الأيديولوجي» هو (الإسلام والعروبة)، دون الاعتبار أو النظر للآخرين، بل لم يكن هناك اعتبار حتى للطبيعة العلمانية لنمط الدولة الحديثة، فكانت النتيجة إلغاء للوجود الاجتماعي والثقافي والفكري واللغوي والإبداعي لبيقية المكونات غير العربية إضافة إلى ذلك أصبحت هذه الثقافة السياسية، بمثابة الأداة المبررة للرق والنخاسة في تلك المجموعات في حقبة من الحقب، مما ساعد بشكل أو بآخر في خلق الهيمنة والسيطرة لفئات اجتماعية بعينها، من ضمنها (مؤسسة الجلابة وزعماء الطوائف ورجالات الإدارة الأهلية وزعماء الطرق الصوفية ورجال الدين والأهالي المنتمين لحقل الثقافة العربية الإسلامية) وأصبحوا هم أصحاب الغلبة والسيطرة، ومن هنا تولد الصراع التاريخي في السودان، حتى وصلت لمرحلة الحروب الأهلية واستقلال جنوب السودان.
وبالتالي لايمكن فهم ظاهرة الحروب الأهلية في السودان خارج هذا السياق (سياق السيطرة والخطاب الإسلاموعروبي للدولة)
هذه الصراعات مستمرة طيلة الحقب التاريخية لمسيرة الدولة السودانية، ففي المهدية يكفيك فقط فتح أروقة الصراع بين أولاد البلد وأولاد العرب، وما نتجت عنها من مآسٍ ومرارات لمعرفة ذلك، بل نظرة واحدة إلى كلمات شعراء ذلك الزمان، كشعر الحاردلو يعكس لك ذلك الصراع والسيطرة.
وفي فترة الحكم الثنائي هذه الفترة التي شهد فيها تكوين الحركة الوطنية السودانية لم يتغير الامر كثيراً، فحتى حركتنا الوطنية لما يسلم بعض منسوبيها من الوقوع في فخ دعم التوجه والوعي (الاسلاموعوربي)، على الرغم من أنها كانت تعمل على بث المشاعر الوطنية والتحرر من الاستعمار، ولكن التاريخ يحدثنا عن وجود من كان يدافع عن الوعي السائد، وليس نقاش سليمان كشة وعلي عبداللطيف ببعيد. وهذا الكلام لا ينقص من نضالات الحركة الوطنية السودانية ضد الاستعمار بقدر ما هي محاولة لوضع الإشكالية في سياقها الموضوعي مع الإشادة الكاملة لعبيد حاج الأمين وعلي عبداللطيف ورفاقهم وما قدموه من نضالات عظيمة ضد الاستعمار في سبيل الحرية والكرامة.
وفي عام 1956خرج المستعمران (البريطاني والمصري) وهو ما عرف بالاستقلال وترك المجال للسودانيين لبناء دولتهم بما يحقق لهم الرفاهية والحرية وغيرها من الحياة الكريمة أساسها عقد اجتماعي يقوم على المواطنة وحقوق الإنسان، ولكن المؤسف استمرت الرؤية الأحادية ومشروع الدولة الاسلاموعروبية كأيديولوجيا رسمية وكمشروع للوحدة الوطنية الأمر الذي نتيجته التدهور والحروب الأهلية.
هذه المقدمة لابد منها باعتبار الذي يجري الآن هو حصيلة تراكم تاريخي طويل للسودانيين لحل هذه الأزمة ليس بمؤتمر المائدة المستديرة وحدها أو اتفاقية (الميرغني _قرنق) أو اتفاقية نيفاشا التي نتج عنها استقلال جنوب السودان وما استقلال جنوب السودان إلا نتيجة لهذه الأزمة.
اليوم وبعد نضالات طويلة قام بها السودانيون من أجل بناء وطن ديموقراطي تم اقتلاع نظام الإنقاذ الغاشم عبر ملاحم تاريخية، سالت فيها دماء السودانيين الغالية، وكان بالإمكان الخروج من هذه الدوامة إلا أن هناك خطأ تكتيكي واستراتيجي خطير، خرج عن وعي القوى الثورية، حيث كانت الخطيئة التاريخية التي حدثت هي السماح لمجموعة غير ثورية واسلاموعروبية أن تقود الثورة.
حيث كان بالإمكان تصفية النظام القديم وإبعاده من المشهد نهائياً وبناء السودان العلماني الديموقراطي، إذا كانت قيادتنا في لحظتها ثورية وصاحبة مصلحة في التغيير، لحظة انتصار الثوار بإسقاط نظام البشير، ولكن الذي ظهر للعيان أن هناك فئة كبيرة من قيادات الثورة، لا ترغب في تغيير الأوضاع، كلياً وبناء وضع جديد يقوم الشرعية الدستورية وحكم القانون والمواطنة. والنتيجة كانت مزيداً من التدهور والأزمات، أوصلتنا لدرجة تدخل جهات خارجية استغلت هذه الأوضاع وأخذت تفكك في السودان طوبة طوبة عبر مليشيا إرهابية. والحال يغني عن السؤال.
وبالتالي لايمكن للسودانيين الخروج من هذه الدوامة والتعافي منها إلا بالتخلص من هذه الأيديولوجيا الأسلاموعروبية والتعافي منها نهائياً ولا يتم ذلك إلا ببناء الدولة العلمانية.
مصادر:_
_محمد سعيد القدال _تاريخ السودان الحديث
_محمد جلال أحمد هاشم _منهج التحليل الثقافي مشروع الدولة الوطنية السودانية وظاهرة الثورة والديموقراطية /الخرطوم 2021 الطبعة التاسعة
أبكر آدم اسماعيل _جدلية المركز والهامش
(قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان)/2015
#خزامي_مبارك (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟