ماهر عزيز بدروس
(Maher Aziz)
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 09:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعرضت إمدادات الغاز الطبيعي بمصر للبذخ الإنشائي والتعبيري في تصريحات المسئولين والخبراء والمحللين ورواد الإعلام علي مدي يربو علي عشر السنوات المتصلة ، منذ اكتشاف حقل ظهر في المياه العميقة داخل البحر المتوسط علي بعد حوالي مائة وتسعين كيلومترا من شواطئ بورسعيد ، وهو البذخ الإنشائي والتعبيري الذي أسرف في الوعود بوفرة طائلة من الغاز الطبيعي لعشرات السنين القادمة ، استنادا إلي مخزون تم تقديره بحوالي ثلاثين تريليون قدم مكعب ، رغم حرص البعض [ وكنت أنا منهم ] علي التنبيه والتصريح في كل القنوات التليفزيونية ، وفي الأحاديث للصحف ، أو في المقالات المنشورة ، بأن مثل هذا المخزون لن يكفي مصر لأكثر من سنوات معدودة قادمة .
فلقد كانت مخزونات الغاز الطبيعي في حقيقتها محدودة إلي حد النذير بالأزمة ، رغم الطموح الذي استبد بالمسئولين وقتها نحو تصدير شحنات ضخمة من الغاز الطبيعي ، الذي تمت إسالته في تسهيلات الإسالة بدمياط وإدكو ، إبان اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية ، ما كان يجور علي المخزون المتاح من الغاز بحقل ظهر ، ولكنه كان يمد الخزانة المصرية بقدر مأزوم بشدة من مليارات الدولارات .
علي أن ما كسبته الخزانة المصرية من مليارات الدولارات نظير مبيعات الغاز لأوربا راحت بعد ذلك بوقت قصير تدفعه صاغرة في واردات ملحة من الغاز المسال ، لمواجهة انقطاعات الكهرباء المترامية في كل أنحاء مصر .
ولقد تعاظمت الآمال بعد تشغيل حقل ظهر في مخزونات مرجحة ومحتملة من الغاز الطبيعي بكل من البحرين الأحمر والمتوسط ، تبلغ ما يقارب أربعمائة تريليون قدم مكعب ، تم الإعلان عنها بواسطة وزارة البترول والثروة المعدنية ، وظللنا نلهج بها في الإعلام في كل مناسبة كنتيجة حاسمة للدراسات والفحوصات الجيولوجية والجيوفيزيقية والسيزمية في كل من البحرين المتوسط والأحمر ، في بزخ إنشائي وتعبيري هائل .
وإذا بانقطاعات الكهرباء تعاود بسرعة تبدلاتها في أنحاء القطر المصري ، ما دفع الحكومة - تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية المتأججة - إلي إبرام تعاقدات بكميات من الغاز المسال تغطي الاستهلاكات الملحة حتي نهاية عام 2026 بلغت 160 شحنة من الغاز المسال .
لكن هذا الاجراء المؤقت لتغطية العجز في إمدادات الغاز الطبيعي ، بين الاحتياجات الفعلية والإنتاج الحقيقي المتناقص أبدا ، جعل هاجس تأمين إمدادات الغاز للشعب المصري - حتي أفق زمني متوسط يمتد لعام 2040 - يؤرق الدولة المصرية علي نحو متعاظم ، وكانت ضرورة تأمين الإمدادات لعشرين سنة قادمة حتمية وطنية .
لأجل ذلك بادرت الدولة المصرية لتأمين إمدادات الغاز الطبيعي - كضرورة لا مناص منها للأمن القومي المصري - من حقل ليفياثان البكر في المياه الإقليمية الاسرائيلية المجاورة لنا ، بكمية بلغت 4.6 تريليون قدم مكعب لتعويض النقص في الإمدادات المحلية من الغاز حتي عام 2040 ، وضرورة للاستفادة الاقتصادية المؤكدة من إمكان الحصول علي هذا الغاز بخط أنابيب الغاز السيناوي ، توفيرا لتكاليف الإسالة في دولة المصدر والتغويز في موانينا ، والاحتفاظ بميزة إسالة وفورات الغاز في تسهيلات الإسالة المصرية بكل من دمياط وإدكو ، وتصديرها من موانينا ، ما يحفظ للخزانة المصرية الحصول علي مدخلات مؤكدة من العملة الصعبة .
هنا تصدرت المشهد علامات استفهام ضخمة ، مصحوبة باحتجاجات مهولة علي وسائل التواصل الاجتماعي ، اختبل فيها المصريون بين العداء المستحكم لإسرائيل والتعاون الطاقي معها ، بينما الدولةغائبة عن الإفصاح ، وغائبة بالأكثر عن إصدار أي بيان يوضح ويعلن للكافة
أن تأمين إمدادات الطاقة هو مسألة حياة أو موت للوطن بأكمله ، ولذا فهو أولوية أمن قومي حاكمة .
لقد صار ضروريا أكثر من أي وقت مضي أن تخرج الدولة علي الشعب لتؤكد له أن الكراهية الدينية والأحقاد التاريخية والعداء المذهبي ليس لها اعتبار أمام قضايا الطاقة العالمية .
فمجلس الطاقة العالمي يؤكد أن الضرورة الاستراتيجية للطاقة في الأوطان والدول تقتضي دعائم ثلاث جوهرية :
1 - Availability إتاحية الطاقة
2 - Accessibilty نوالية الطاقة
3 - Acceptability مقبولية الطاقة
وتتصدر الإتاحية الدعائم الثلاث لأنها تتعهد بأن تكون إمدادات الطاقة متاحة في كل لحظة ، دون أي اختناقات ، ودون شح ، وبالوفرة اللازمة .
ويفسر ذلك لماذا تستورد دولة عظمي كالولايات المتحدة الأمريكية كميات ضخمة من الوقود الأحفوري بينما تمتلك مخزونات ضخمة منه ، ويرد في الوقت ذاته علي معارضي صفقة الغاز المصرية مع إسرائيل ، الذين يتقولون بأن مصر قد تكتشف غازا وفيرا غدا يختبئ في ضمير الغيب ، فلا حاجة لنا بصفقة الغاز ؟؟؟
لعلهم يتفرسون مليا مبدأ تأمين الإمدادات الاستراتيجي الحتمي في حياة الدول والشعوب .
ومهما كان من مصادر الطاقة الأحفورية متاحة لمصر في السنوات المقبلة ، ومهما كان متاحا من مصادر أخري للطاقة الجديدة والمتجددة والطاقة النووية ، مثل مشروع المحطة النووية الأولي بالضبعة ، فإن تأمين إشباع الجوع الطاقي لا يتوقف أبدا ، إذ يتطلب تأمين إمدادات الطاقة للمستقبل إضافات أخري لا
تنتهي ، ولا تضيف الضبعة سوي 4% من الطلب علي الطاقة الكهربية عام 0240
ومهما نجحت الدولة في تنويع مصادرها للطاقة ، ومهما تفجر في أراضيها من آبار للنفط وحقول للغاز ، تبقي الحاجة الاستراتيجية ماسة دائما لتأمين المزيد والمزيد لشعبها من إمدادات الطاقة ، خاصة إذا عرفنا أن الوقود الأحفوري السائل والغازي بكامله في العالم كله ناضب بطبيعته خلال بضع عشرات من السنين .
أيضا تشكل الطاقة والمياه والغذاء ثالوث الحياة ، لكن المياه والغذاء لا يكونا مؤمنين دون الطاقة ، فالطاقة هي شريان الحياة لكليهما معا ، وتأمين إمداداتها ضرورة استراتيجية تتهاوي أمامها أحقاد وعداوات الشعوب .
ومصر كذلك بحاجة شديدة للغاز الطبيعي من زاوية أن معظم الرصيد التكنولوجي لمحطات الكهرباء بها قائم علي وجود الغاز الطبيعي ، وإلا يتحول إلي حديد وصفيح وسبائك خردة قبل انتهاء عمره الافتراضي ، ولنا أن نتصور كيف تدبر مصر مئات مليارات الدولارات لتحرز تكنولوجيا جديدة بديلا عنها .
الحق إننا في مواجهة مع استراتيجيات الضرورة .. ولذا صار لزاما علي الدولة الآن أن تعلن لجماهير الشعب المتحفزة لرفض التعاون مع إسرائيل ، أنه قد حان الوقت لإدراك أن الأحقاد التاريخية والعنصرية ليس لها وجود في قضايا التأمين الاقتصادي للوطن ، وعلي الأخص تأمين إمدادات الطاقة ، و يلزم ألا يكون لها وجود نهائيا في استراتيجيات الضرورة لحياة مائة وعشرة ملايين إنسان علي أرض الوطن ، بل ومعهم أيضا عشرون مليون لاجئ ، بدلا من موتهم عطشي الوقود ..
ويتعين علي الدولة أن تعلن بصريح القول أن من لا علاقة له بقطاع الطاقة يجب أن يصمت ويعي ويتعلم احتراما لإرادة الحياة لشعب يتحتم أن يؤمن عوز أيامه من الوقود اللازم لحياته ، وأن الاستخفاف العنصري لا يعدو أن يكون تراجيديا كبري تتربص بالموت !!!
#ماهر_عزيز_بدروس (هاشتاغ)
Maher_Aziz#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟