محمد العرجوني
كاتب
(Mohammed El Arjouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 18:13
المحور:
الادب والفن
عيون
كلّ العيونِ الّتي تنظرُ في اللّوحِ
العيون الّتي تقرأُ أسمالَ سنواتٍ تجرّبُ السّقوطَ تجريبًا
مرّةً أخذتْهَا السّجائرُ إلى منتصفِ سمكةٍ
ومرّةً عادتْ بها السّجائرُ الى حُلمٍ مغسولٍ بالتّرابِ
العيون الّتي يراها التّرابُ
العيونُ الميتةُ تقريبًا
تشاهدُ التّفّاحَ
تٱكل التّفّاحَ
لكنّها لا تدركُ عطشَ التّفّاح
*****
I- مقدمة:
نص يغري لمقاربته تفكيكيا، لما يزخر به من انزياحات مربكة. إلا أن هذا الارتباك هو مصدر الدهشة لدى المتلقي. وبفضل هذه الدهشة، يصبح المتلقي المهتم متعلقا بغرابة النص السحرية، نظرا للمتعة التي يضمنها له، عكس المتلقي المبرمج على النمط التقليدي، الذي بسبب هذا الارتباك، قد يعلن عن عجزه في اكتشاف جوهره، متحججا بخروج النص عن طاعة المنطق المتداول.
فكما يتضح من اول قراءة، يتحكم فيه محور أساسي، بناء وموضوعا، مرتكزه كلمة : العيون، والتي منها استلذ صاحبه عنوانه بدون تعريف (سوف نحاول تأويل ذلك فيما بعد). وانطلاقا من آليتي التفكيكية: الاختلاف والإرجاء/التأجيل، ما نطلق عليه هذا النحت اللغوي : "الارتجاء" تعريبا ل: différe/ance، سوف نحاول إدراك بعض من الأدوار المنوطة بهذا المحور بصفته نواة، تخزن شحنة دلالية، في علاقتها بكل ما يدور حولها، تماما كما تدور الإلكترونات حول نواة الذرة.
فالعيون، من حيث أنها جاءت في النص، خلافا للعنوان، بصيغة الجمع ومعرفة بوظائفها، تعبر عن الرؤية أو النظر. إلا أنها سرعان ما تتحمل وظائف غريبة عنها، حيث تصبح في متناول عنصر آخر في النص: السجائر، كما أنها تصبح هي ذاتها، موضوعا للرؤية، لدى "التراب"، و"آكلة"، و "فاقدة للإدراك". وأخيرا تفقد وظيفتها الأساسية بالموت. وفي محاولتي التفكيكية هذه، وفي إطار التفاعل المعرفي، استنجد بالفيزياء الكمومية، وفي نفس الوقت بما تقدمه إلينا الثقافات الإنسانية عبر الأساطير المتنوعة، كلما تطلب الأمر ذلك.
II- تحليل النص:
في هذا النص الذي يبدو في شكله المكثف كجسيم، تنطبق عليه ثنائية الوصف الكمومي، حيث ندركه كفوطون، تارة على شكل مويجات تنير المتلقي بوعي فلسفي وجودي حول واقع لا يمت للمنطق بصلة، أرهقته القوة التي تحدث عنها الفيلسوف نيتش، وتارة على شكل جسيمات، قد تبدو كناظور يدل المتلقي على الوجهة الآمنة تفاديا لاصطدام مع هذا الواقع المربك. أمام كل هذا، فإن العيون تشكل نواته حيث أنها في علاقة مع "كويركات" تتخذ مواصفات مختلفة كما هي على التوالي :
تنظر في اللوح
العيون تقرأ أسمال سنوات
تجرب السقوط
أخذتها إلى منتصف سمكة
السجائر
أرجعتها إلى حلم مغسول بالتراب
يراها التراب
تقريبا ميتة
العيون تشاهد وتأكل التفاح
لا تدرك عطشه.
هكذا تتضح وظائف هذه العيون، فتبدو مكتملة بتناقضاتها، وتجعل منها نواة حية رغم موتها، تتحكم في المشهد البنائي للنص. فكيف يتم هذا البناء؟
1-العيون في علاقتها باللوح:
الرؤية هنا موجهة إلى "اللوح". ليست مجانية، بالنسبة إلينا. فكلما صادفنا كلمة "اللوح" التي تزخر بها ثقافتنا، والتي لها جذور في الثقافات الشرق أوسطية، تثير رغبتنا في تفكيكها مادامت رمزا ذا مدلولات مهمة. وهكذا نستحضر بدون عناء ما خلفته الحضارات الأولى الإنسانية. حيث اللوح الطيني الفرعوني يصبح في علاقة بالعين وهي مرسومة عليه. يتعلق الأمر بعين حورس التي ترمز إلى حماية حاملها كتميمة وإبعاد الشر عليه، وأيضا إلى شفائه وتجديد أعضائه. أو قبل ذلك، فيما يخص الحضارة السومرية ، حيث كانت تعطى أهمية لعين التمثال، تتمثل في نحتها بشكل كبير، تثير الانتباه بنظرتها الواسعة، تعبيرا عن الحيطة والحذر والصون والوقاية. أو تلك العين الثالثة التي ترمز إلى الفضيلة والحكمة لدى تمثال شيفا في الديانة الهندوسية إلخ... بل نجدها في معظم الثقافات الإنسانية، سواء كانت أسطورية أو باطنية أو دينية، بل وما زالت بذات الوظائف إلى حدود الساعة بين بعض الشعوب، ما يجعل وجودها في هذا النص، ذو مدلولات متنوعة، ودائمة الإرجاء، تجعل من النص كونا قابلا للتأويل اللامتناهي. أضف إلى ذلك المدلول الذي انتقل من "الحراسة" الذاتية من شر العين إلى "مراقبة" من تتحكم فيهم السلطة بمفهومها العام، والقضاء عليهم في حالة أدنى شك.
2-العيون في علاقتها بأسمال سنوات وتجربة السقوط:
في الوهلة الأولى، ما دمنا نتعامل مع لغة الإحساس، وفي إطار التفكيك دائما، فإن ما يثير انتباهنا، هو ذلك التقارب "العائلي" بين فعل "سمل" وإسم "أسمال". أما "سمل " الذي أحالنا عليه المحور الاستبدالي لكلمة "أسمال" الواردة في النص، فعلاقتها "بالعيون" ولو كانت سلبية، واضحة. حيث نقول: "سمَل العين أي فقأها". بينما "أسمال" في النص: "العيون الّتي تقرأُ أسمالَ سنواتٍ تجرّبُ السّقوطَ تجريبًا"، لا ترتبط بالعيون إلا بفضل "القراءة". فنرصد هكذا الاختلاف والإرجاء الذي يغذي التحليل التفكيكي. فما يجمع بين "أسمال" أو "سمل"، فهو المدلول السلبي، وهو ما تؤكده كذلك "سقوط السنوات". فالأسمال، هي تلك الثياب الرثة البالية التي بالكاد تدثر عورة السنوات المحكوم عليها بالسقوط المتوالي، نظرا لما تتسم به من آثار ماضوية. وهو ما يؤدي بنا إلى تعليل استحضارنا لفكرة الفقء (سمل)، حيث قد تصبح العيون مفقوءة/"مفقوصة"، نتيجة لهذا السقوط المدوي. وهو سقوط محتوم، ومنهك، إذ يعبر عنه النص كذلك بكل وضوح ب: "العيون الميتة تقريبا".
3-العيون في علاقتها بالسجائر:
فإذا كانت العيون في علاقتها باللوح، أخذتنا بتلويحتها هذه إلى ثقافات غابرة، فإن العيون في علاقتها بالسجائر، أرجعتنا إلى الواقع الحالي، بل اليومي الذي نلاحظه بدون عناء. فالسجائر بكل انواعها وكثرة استهلاكها يوميا، خاصة بالأماكن العمومية، هي تعبير عن ثقافة حداثية، بل وما بعد حداثية، مادامت عنصرا في مرمى النقد الذاتي للحداثة، كما هو الشأن بالنسبة لعدة آثار سلبية للحداثة. لكن رغم ذلك فمستهلكوها يدمنون عليها خاصة وهم في حالة نفسية تتطلب التركيز أو فقط في حالة هيمان تفكيري بدون آفاق معينة كما يبدو في المقطع الثاني للنص.
4-العيون في علاقتها بمنتصف السمكة
فالعين في هذه الحالة هائمة تتحكم فيها السجائر التي تحترق على مقربة منها بين شفتين. وعوض أن تكون شاردة، تصبح تؤدي وظيفة النظر من غير رغبة، بل تحت سيطرة السجائر. وهكذا وهي مشدودة بدخان السجائر، ترمي نظراتها على نصف سمكة، ربما تشكل وجبة أكل لشخص ما أو ما تبقى منها. إلا أن "منتصف السمكة"، بمفهومها المجازي المرسل أو الكناية التي تعبر عن العام انطلاقا من الخاص، تثير رغبتنا في تأويل مختلف، حيث تؤخذ العيون بالسجائر إلى "منتصف البحر". فتصبح هكذا نظرات العيون سابحة في عرضه لتستحضر كل ما تتقاذفه الأخبار عن هذا البحر الممتد أمام العيون. سواء تعلق الأمر برغبة في السفر أو برغبة في مغادرة الوطن بشكل غير قانوني، ما يسمى ب"بالحريك"، وما تحدُث من مآس جراء ذلك إلخ...
5-العيون في علاقتها بحلم مغسول بالتراب:
وبعد هذه العلاقة "المائية"، تعود السجائر بالعيون إلى العلاقة "الترابية"، عبر حلم غير واضح مادام التراب هو من واراه. ما يؤدي بنا إلى استشفاف موته بما أن عمليتي الغسيل والتراب معا تحيلنا على الموت بدون منازع. وهو ما نتلقفه بكل وضوح في علاقة العيون بالتراب والموت.
6-العيون في علاقتها بالتراب والموت:
في هذه الصورة المدهشة حيث تتبادل الأدوار بين العيون والتراب، نستحضر ما قلناه سابقا في حديثنا عن التقارب اللفضي بين "أسمال" و "سمَل". فيصبح التراب هو الناظر، والعيون هي التي تتلقى النظر منه. ومباشرة بعدها يتحدث الشاعر عن موت العيون التقريبي. فتصبح العيون ميتة تقريبا لا تستطيع النظر، لتكون تحت رحمة نظر التراب الذي يواريها. فالتراب هو من فقئ العيون وأعلن تقريبا عن نهايتها، وهكذا تتغير مفاهيم اللغة بسبب إلحاق عملية الغسيل بنقيض الماء، أي التراب، فنُجبَر كمتلقين التعامل مع اللغة على مستوى محور الاستبدال، عوض محور التركيب.
7- العيون في علاقتها بالتفاح:
لكن سرعان ما يستدرك الشاعر الذي تحدث عن " العيون الميتة تقريبا"، ليحييها ثانية ويرجع لها وظيفتها الأساسية: النظر، حيث تشاهد التفاح، فينتعش الجسد، بهذا الالتهام للتفاح. لكنها تبقى ناقصة من ناحية الإدراك، لهذا لا تدرك عطش التفاح. وهكذا يشحن هذا الجسيم الكمومي، ويخصبه بهذا "الاختئجال". فكلما جعلنا نقبض على حياة العيون إلا وارتخت قبضتنا أمام نقيضها. ما يحثنا على البحث في مغزى تواجد التفاح. فإذا دققنا في رمز التفاحة عبر الزمان، فسنجدها مرتبطة بهذه الثنائية: الحياة والموت، حيث ترمز تارة إلى الخطيئة الأولى، والتي جاءت نتيجة للإغراء ما أدى إلى طرد آدم وحواء من الجنة. كما ترمز كذلك إلى الحرب والدمار، حيث كانت سببا في نشوب حرب طروادة المعروفة التي خلدها الشاعر هوميروس بملحمته: الإيليادة، نسبة إلى إيليون، وهو الإسم الأول لطروادة. وفي المقابل ترمز التفاحة كذلك إلى الحب والحياة. وهكذا نتوقف عند هذا التأويل النسبي، مادامت التفكيكية لا تؤمن بمركزية المعنى الواحد، بل تؤمن بالتأويلات اللامتناهية، خاصة أمام نصوص مربكة كهذا.
II- خاتمة:
فكما يتضح من هذه "الكويركات" التي عبرنا عليها برسم يوضح علاقتها بالعيون كنواة، فإن نهاية العيون قد تكون الموت بعد أن مرت بعدة مراحل. إلا أن هذه المرحلة الأخيرة، سرعان ما تظهر على شكل حياة حيث تصبح :تشاهد الحياة وتأكل التفاح، رغم عدم إدراكها لعطشه. وهكذا نجد أن لهذه النواة، أي العيون، تراكب يشبه التراكب الكمومي، حيث تكون ميتة وفي نفس الوقت حية، وهو ما عبر عنه تلقائيا الشاعر ب "العيون الميتة تقريبا". من خلال كل ما قيل حول هذه النواة، يتضح أنه يصعب علينا تحديد مفهوم مركزي لهذه العيون. هل ترمز إلى الشاعر نفسه؟ أم ترمز إلى تلك الشعوب التي تكتفي بالنظر من بعيد إلى ما يجري حولها من أحداث غير مفهومة بالنسبة إليها؟ لهذا وجدت أن المصطلح الكمومي : نواة، هو الذي يواتيها.
فهل نستطيع التحكم في معنى هذا النص الكمومي أمام هذا التراكم الدلالي المربك؟ بطبيعة الحال غير ممكن. لهذا وجب إدخاله مسرع أو مصادم "البروتونات" ، عسانا نقبض على نبضاته أكثر، ونستمتع بما يحمل من تأويلات زاخرة بعيدا عن الفيزياء التقليدية /الشعر التقليدي، خاصة وأنه، رغم استحضاره تفاحة "نيوتن" و جاذبيته المتجاوزة، فإن اقترانها بالعطش يدخل النص في متاهات الفيزياء الكمومية /القصيدة الكمومية، لدرجة أنها أدخلت النص فيما نصطفيه بمصطلح "الشعر الماورائي"، وبالأخص حينما يحيلنا بذكاء مرهف إلى الثقافات الأولى التي أنعشت مخيال الشعوب، ومازالت تنعش مخيالنا مادامت العلوم الحقة غير كاملة، بل ومازالت هناك تحديات كبيرة أمام الفيزياء الكمومية المربكة، نفسها.
#محمد_العرجوني (هاشتاغ)
Mohammed_El_Arjouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟