خزامي مبارك
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 15:16
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
والذي لا شك فيه أن الحركة الإسلامية السودانية، في زهرة شبابها، بقيادة الدكتور حسن الترابي، قامت بعمل انقلاب عسكري ظل يُخطط له من تحت الأرض لمدة تزيد عن عشر سنوات، بحسب إفادته في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة: "حددنا نحو 10 إلى 20 سنة للتخطيط لما حدث في يونيو 89"، دون أن يدركه أحد؛ تخطيط في السر، لا عين رأت ولا أذن سمعت. وهكذا دائماً تقضي الحركات الإسلامية حوائجها في الكتمان. لا غرابة، فإنها تنظيمات غلب عليها الطابع التنظيمي أكثر من الفكري، تعمل في الظلام، ومتى ما ظهرت وكأنها تعمل أشيائها في العلن، فتأكد أنها ليست على ما يرام.
نجح الانقلاب، ولا داعي للخوض في تفاصيله، ولكنه كان انقلاباً على السودانيين وعياً وفكراً واجتماعاً وسياسة؛ بقيت ولا تزال آثاره. ولكن الأهم من بين كل هذه الآثار وأفظعها، هي الصدمة النفسية التي وقعت على الناس بسبب قمعهم وطغيانهم. فهم الذين أدخلوا ثقافة بيوت الأشباح، ودفن الناس أحياء، والقتل بالقازوق، إضافة إلى الإبادات الجماعية والقبور الجماعية، وغيرها من الأساليب التي تشيب لها الولدان. هذه الأفعال الإجرامية كان وقعها وخيماً على كل من عارضهم، لدرجة تجعل من ضحيتهم مصاباً بالصدمة الدائمة trauma. ومصاب التروما دائماً ما يطارده الوسواس والهلوسة، وليس أبلغ في وصف هذا الشيء أكثر من المثل القائل: "ملدوغ الدبيب يخاف من جر الحبل". فالذي يلدغه الدبيب يصعب عليه نسيانه. وأنا هنا أتحدث عن تجربة عشتها وعايشتها مع لدغة ثعبان ماكر في خلاء جرداء.
فعلى الرغم من فشل تجربة الإسلاميين منذ بدايتها الأولى، وتفكك حزبهم إلى جماعات متفرقة، قلوبهم شتى؛ شلّة مع الترابي، وثلة مع غازي، وآخرون مع نافع وعلي عثمان، وبعضهم حيارى ضاقت بهم الفِكر والتنظيم فأصبحوا ليبراليين مصابين بعقدة الذنب الليبرالية، كالمحبوب عبد السلام وغيره، إلا أن هناك اليوم عددًا ليس بالقليل من السودانيين يرجفون كلما برز حبلٌ يرقص على الأرض، ظنوه ثعباناً، وبدأ الناس يصرخون: "الكيزان رجعوا، الكيزان فعلوا، الكيزان تركوا... إلخ".
وعلى الرغم من أن الترابي بنفسه قال، في حواره المشار إليه على شاشة الجزيرة، وبعظمة لسانه: "الحركة الإسلامية الآن كلها بائسة"، بل قام بحلها منذ التسعينات، فإن هناك من يردد أن الحركة الإسلامية تسيطر على الجيش، وتسيطر على المؤسسات، وتسيطر وتسيطر... إلى درجة تجعل المرء يظن أن الحركة الإسلامية تسيطر على بيته وأسرته وملابسه! وتلك بؤسٌ آخر، ليس بعده بؤس.
والآن دعونا نتساءل: هل فعلاً ما زال هناك "حركة إسلامية"؟ وهل هناك تنظيم مركزي له هياكله ومكاتبه ومخططاته يُدعى الحركة الإسلامية السودانية؟ إذا كانت للحركة الإسلامية وجود فعلي وحقيقي، فهل يمكن أن يحدث ما يجري الآن؟ بل كيف استطعنا إسقاط الحكومة التي جاء بها هذا التنظيم؟
سيكون من المضحك أن نقول إن هناك حركة إسلامية تسيطر على مفاصل الدولة وكل شيء، وفي نفس الوقت نتحدث عن سقوط الحكومة! ذلك لأنه، ببساطة، طعنٌ في حقيقة الثورة والتغيير الذي حدث من أوله إلى آخره. فلولا انهيار هذا التنظيم لما استطعنا قيام ثورة شعبية بحجم ديسمبر. ولكن إذا كانت الحركة الإسلامية قد تفككت فكريًا وتنظيميًا، وحتى قادتها التاريخيون قد أعلنوا بؤسها، فهل الخوف المستمر منها اليوم مبرر؟ أم هو جزء من الأثر النفسي العميق الذي خلّفته تجربتها؟ وهل نحن في حاجة إلى تحليل هذا الخوف أكثر مما نحن في حاجة لمحاربته؟
مع قيام هذه الحرب الجارية الآن، التي شنتها القوى الاستعمارية على السودانيين، عبر مليشيا الجنجويد، بدعم وتمويل مثبت ومعروف من الإمارات، راجت عدة سرديات لتفسيرها وفهمها، وأبرزها سردية الإسلاميين وشنهم لهذه الحرب وإدارتهم لها. وهي السردية التي تبنّاها الجنجويد أنفسهم، والعديد من القوى التي تسمي نفسها محايدة. ومن جانب آخر، وفي وسط ضجيج هذه الحرب وأجيجها، خرج شاب يُدعى المصباح، خلفه عدد من طلبة الجامعات والشباب، يحملون السلاح ويقاتلون مع الجيش ضد الجنجويد. أطلق عليهم مجموعة "البراء بن مالك"، يغنون ويهتفون بقصائد من العصر الوردي للإسلاميين، مما دعم سردية الإسلاميين وشنهم لهذه الحرب وأكّدها.
ولكن، هل فعلاً هؤلاء الشباب يمثلون تنظيم الحركة الإسلامية، ذلك الذي له قدرته على التخطيط لعشرات السنين، وله إمكانية القيام بانقلاب سري يستمر لسنوات دون أن ينكشف؟ لا يوجد عقل يصدق هذا! فالحركة الإسلامية من أبرز صفاتها أنها تعمل في الخفاء لا في العلن، تؤثر على مجريات الأمور لا تتبعها. ولا أُبالغ لو قلت إن هؤلاء الشباب لا يتجاوزون سوى كونهم صبية أسكرتهم خطابات الإسلام السياسي وشعاراته، حتى صاروا يتهلوسون به كما يتهلوس الآخرون. ولو أصبحوا شيئًا، لم يتخطوا كونهم مجرد شبح "إسلاموي" تركته لنا سنوات الإسلاميين اللعينة، يقوم بتغذية هذا الرعب من حين لآخر.
ذلك لأن كل شروط الموت التنظيمي والفكري للحركة الإسلامية قد اكتملت، بداية من تغيير اسمها وحلها، مروراً بانقساماتها لأكثر من تيار. ولا يوجد دليل على نهايتها أكبر من فشل مشروعها على الأرض والواقع. كما يقول حيدر إبراهيم علي: "المشروع الحضاري الإسلامي السوداني هو 30 عامًا من الفساد والاستبداد والبؤس الفكري والأخلاقي، وانهيار الوطن والعودة به إلى عصور وسطى وتخلّف فريد وسط الأمم..."
وعموماً، فإن التجارب التاريخية للشعوب مع الأنظمة المستبدة أكدت أنه نادرًا ما تجد حزبًا وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري ومارس حياته السياسية عبر قتل الناس وظل باقيًا بعد الثورة. وإلا، فأين الآن ما عُرف بالاتحاد الاشتراكي، الحزب الحاكم في أيام النميري؟ وأين حزب البعث في سوريا والعراق؟ كلها تنظيمات وصلت إلى سدة الحكم بوسائل غير شرعية، فخرجت من التاريخ للأبد وأصبحت نسياً منسيا.
ربما يسأل سائل: ما الذي يجري الآن؟ من أشباح لحزب إسلامي، وخطابات وسرديات تتحدث عن وجوده وأفعاله... إلخ. لا أرى معنى لكل هذا أكثر من أنها تغذية وسقاية لهذه التروما حتى تنمو وتستمر، وخاصة إذا عرفنا أن المصاب بـ الفوبيا دائماً يحتاج إلى قرين يُحرّكه ويُرعبه.
وربما، أخيرًا، انتبهت القوى الاستعمارية التي تُدير حربها ضد السودانيين إلى هذه النقطة، وهي نقطة ضعف مناسبة إذا ما أُحسن استغلالها. فاليوم، ظهرت لنا من العدم تصريحات للمدعو أحمد هارون على موقع "رويترز"، معرّفًا نفسه باعتباره رئيسًا للمؤتمر الوطني، تحدث عن عودة الإسلاميين، وحربهم مع الجيش، وتخطيطهم للبقاء، والكثير من الأحاديث. تبقّى فقط أن يقول: نحن من أشعلنا الحرب!
وبغض النظر عن محتوى هذا الحديث، ومدى صحته، ومدى جدية هذا المدعو أحمد هارون، فالسؤال البديهي: لماذا ظهر الآن في هذا التوقيت بالتحديد؟ ولماذا على موقع "رويترز" وليس غيره؟ بل ولماذا تم نشره بصورة مكرّرة وعلى نطاق واسع، لدرجة يبدو وكأنها مرتّبة ومنظمة لتصبح "ترند"؟ هذه مجرد أسئلة، وليس من العقل تجريم السائل.
طبعاً من المعروف أن لكل رسالة إعلامية مستقبلًا مستهدفًا، وهو مجال تأثيرها، وأيضاً كل خطاب إعلامي له ما يُخفيه. لذلك، دائمًا ما يميل الباحثون عن الحقيقة إلى النظر لما وراء النص، وليس النص في حد ذاته.
وفي حالة "رويترز" هذه، ما الذي يستبعد أنه يهدف إلى نفخ الإسلاميين وتكبيرهم؟ خاصة إذا ما عرفنا أن هذا التقرير، رغم ذكره بأنه جرى منذ أبريل، لم يُنشر في ذلك الوقت، وكأنهم ينتظرون وقتاً مناسباً لذلك! وقد جاءت بالتزامن مع تحركات ما يُعرف بالرباعية، وبالتزامن مع مسيرات – يبدو أنها منظمة – باسم الإسلاميين داخل المدن للتضامن مع غزة، وأخيراً وليس آخراً، مصحوباً معها بمقالات لعدد من قادة الحلف الليبرالي وزبائن "تشاتام هاوس" كخالد سلك وآخرين.
هل كل هذه الأشياء محض صدفة؟ لا أعتقد ذلك.
ولكن، أعتقد أن هذا لا يعني شيئاً سوى تغذية وسقاية لمشاعر الخوف من الإسلاميين، وستعود بفوائد عظيمة على الجنجويد ورعاتهم، كونها توفر مبررات وحُججًا تدعم سرديتهم المعطوبة هذه.
26/ 7/ 2025
#خزامي_مبارك (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟