أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال مشكور - لحظة إعدامي














المزيد.....

لحظة إعدامي


نضال مشكور

الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 14:15
المحور: الادب والفن
    


كنتُ طفلة وحيدة ًفي الرابعة من عمري، صغيرة كلعبة صغيرة..أقفز هنا وهناك كأرنب فرح أو كقطةٍ أليفة كتلك التي تطارد الفئران في باحة حديقة منزلنا الطيني في حيّنا القديم الفقير عند المساء.
كانت البنات في الحي المقابل الآخر الذي يقطنه ميسوري الحال يلعبنَ بدمى حقيقية، بشعرٍ مصنوعٍ من خيوط الحرير، وعيون تومض كبريق المساء ... أما أنا، فلم يكن لي إلا خيالي وأحلامي الوردية..
سألت أمي ورجوتها كثيراً أن تشتري لي دمية واحدة.. واحدة فقط.. كي تصبح لي كرفيقة أو صديقة أحادثها وألاعبها أسوةً بالأخريات من بنات الحي الآخر ..؛لكنها لم تفعل..وأخبرتني متنهدة : " من أين لي أن آتي بالمال اللازم لشرائها يا حبيبتي ؛ وأبوك بالكاد يجلب لنا القوت لنسدّ به رمقنا..!"
..نعم .. كنا نأكل قوت كي لانموت..
كاد اليأس والقهر يسرى كالسمّ في بدني وفكري لعدة أيام وليالٍ ؛ لولا بالنهاية عثرت على فكرة كحلّ بديل لمشكلتي..
آه لقيتها أخيراً..!!
في يومٍ خريفي جميل، أخذتُ ثلاث عصي من حطب التنور اليابس الذي تصنع فيه أمي الخبز في باحة دارنا، ولففتُ على طرفٍ كلّ منها قطعةً صغيرةً من القطن الذي سرقته من خزانة أمّي..هذا القطن كانت تحتفظ به تمهيدا ً لندفه مستقبلاً كي تصنع منه اللحاف والمخدات..وقمت بتكوير ثلاث قطع من هذا القطن وهكذا عملت رؤوس الدمى؛ ثم قطّعتُ من خرق قماش بالية مهترئة أيضاً وجدتها قرب ماكنة الخياطة بعض قطع صغيرة ،ولففتها بإحكام حول القطن الذي ثبته في رأس كل عصاة، كذلك حول منتصف العصي كي اجعلها كثياب تلبسها الدمى..، ثم ذهبت إلى المطبخ حيث الفحم البارد كان ما يزال محتفظًا بملمسه الأسود، فغمسته بإصبعي ورسمت به على قماش الرؤوس نقطتين للعين ، وخطًا مرتجفًا للفم في كل دمية…
حملتهنّ على صدري كما تحمل الأم أولادها الثلاثة؛ جلستُ بهنّ تحت ظل شجرة التوت خلف الدار، أروي لهنّ الحكايات، وأغني، وأُطعمهنّ من فتات الخبز اليابس كأنني أحيي بهنّ أرواحًا خامدة.
وفي لحظة فرح لا تُنسى، ركضتُ إلى أبي؛ قلتُ له:
“شوف يا بَويه، سويت هاي اللعّابات بنفسي ومن صنع خيالي؛ آني وحدي سويتها ومحد علّمني ”
كنتُ أظنّه سيفرح بي، يصفّق لي، أو يتبسم، أو حتى على الاقل يربت على رأسي، لكن حصل مالم يخطر ببالي أبداً..؛ أخذ يصرخ بي وعيناه تقدحان بنار الغضب والعصبية الخاطفة الحادة..وفي لحظة مفاجئة مرعبة؛ أخذ الدمى الثلاثة من يدي، وبضربة واحدة كسرهنّ، وداس بقدميه بقوة على رؤوسهن القطنية وتنانيرهن الجميلة..صرخ:
“حرام ..حرام، يا بنتي.. هاي شسويتي؟! هذا العمل لايصلح! باچر يوم القيامة تصير لهن روح، وتصبح من الجنّ، وتودّينا كلنا لنار جهنّم!”
ثم تركني هناك، واقفة، ويداي فارغة إلا من ارتعاشات طفلة لا تفهم لِمَ حُكم على خيالها بالإعدام…
في تلك الليلة، لم أكفّ عن النحيب والنواح..كنتُ أضمّ يدي إلى صدري كأنني أحتضن بقاياهن..رفات بناتي وصديقاتي الحبيبات الثلاثة التي حكم أبي عليهن بالإعدام..أغمضتُ عيني، كنتُ أراهنّ يعشن في عالم آخر، بعيداً عن أبي، بعيداً عن النار، عالم فيه لكلّ البنات سواء كن فقيرات الحال أو مترفات يُسمَح لهنّ باللعب..،بالفرح وبالحلم دون خوف..؛وفي تلك الليلة، حين نام الجميع، تسللتُ من فراشي الصغير، وجلستُ قرب النافذة الصغيرة في الحائط الطيني حيث كانت تتسلل منه نسائم الليل العليلة كأنها تعرف سر حزني وعلّتي.. فأتت من بعيد كي تواسيني بحنان وحبّ... أغمضتُ عيني، وقلتُ في داخلي:
“يا رب، لا تأخذني إلى جهنم… أنا فقط كنت أريد أن أتخلص من وحدتي السقيمة..أردت صديقات ألاعبهن و يلعبن معي.. إلهي ارحمني ولاترمني في نار جهنم الحارقة….”
ثم رأيتُها…آه هاهي هناك تلوح أمام ناظري..كانت واحدة من دماي المكسورة، عادت إليّ في الحال، بوجهٍ من نور، وثوبٍ من قمر أبيض مرصع بنجومٍ متلألئة، وشعرٍ من خيوط غيومٍ وشعر بنات. مدت يديها الصغيرتين نحوي قائلة :
“تعالي. صديقتي الحبيبة ، تعالي نلعب بعيداً… حيث لا أحد يكسرنا، ولا أحد يخيفنا ويبثّ الرعب في قلوبنا ...”
ركضنا معًا بين الحقول، ووراءنا دمىً أخرى، تضحك، تغني، وترقص، دون خوف. ومذ تلك الليلة، لم أعد أبكي على خشبٍ مكسور أو قطنٍ مسحوق بالأقدام…
" عن قصيصة حقيقية من ذاكرة أمي الحبيبة"



#نضال_مشكور (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غُمّيضان
- ومضٌ راقص
- إسهال وإمساك ” قصة قصيرة جدّاً
- زلزال - قصة قصيرة جدّا -
- نائب القسّ الأمريكي الطموح
- في بلادي فقط
- كعادته
- عساك تأتي
- عُروة المسامير
- مجلس عزاء
- القلب الأبيض
- لغة التنويم
- هديّة جهنّميّة عن قصة حقيقية
- الأوسكار
- ملاحقة
- التعذيب بالورد
- - الخاتم العصيّ- قصة قصيرة حقيقية
- لم يحن بعد الأوان
- فتوة
- وصفة طبيّة


المزيد.....




- رحلة أفلام السجون السينمائية بين الرعب والعدالة الاجتماعية
- أول تعليق من راغب علامة بعد منعه من الغناء في مصر
- معهد -لو كوردون بلو- لفنون الطهي يصل إلى أبوظبي
- الدار السودانية للكتب تتعرض للسرقة والتخريب ودار عزة للنشر ت ...
- الأكاديمي محمد حصحاص: -مدرسة الرباط- تعكس حوارا فكريا عابرا ...
- مثقفون بلجيكيون يدعون لفضح تواطؤ أوروبا في الإبادة الجماعية ...
- مصر.. غرامة مشاركة -البلوغرز- في الأعمال الفنية تثير الجدل
- راغب علامة يسعى لاحتواء أزمة منعه من الغناء في مصر
- تهم بالاعتداءات الجنسية.. فنانة أميركية تكشف: طالبت بأن يُحق ...
- حمامات عكاشة.. تاريخ النوبة وأسرار الشفاء في ينابيع السودان ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نضال مشكور - لحظة إعدامي