سمير الأمير
الحوار المتمدن-العدد: 8409 - 2025 / 7 / 20 - 15:15
المحور:
الادب والفن
"لفحات أغسطس "
أنثروبولچيا الفقر
بقلم/ سمير الأمير
يبدو أن كثير من الشعراء الحقيقيين المدفوعين لكتابة الشعر تحت وطأة المشاعر والانفعال بالذات وبالعالم لا تحت إلحاح القدرة على إعادة إنتاج الصياغات الشعرية ككيمياء أصبحت معروفة، يبدو أنهم ذاهبون في اتجاه السرد لا محالة ، إذ أنهم في مرحلة ما يشعرون أن الأطر الشعرية واللغة غير المعيارية تكون قادرة على تشكيل رؤية تمثل انعكاس الذات على العالم بدرجة أكبر من قدرتها على تمثيل انعكاس العالم على الذات ، حيث يصبح السرد القصصي أو الروائي أكثر دلالة على الواقع الموضوعي وأكثر قدرة على توريط القارئ فيه ليرى من أين كانت تنبع شاعرية الشاعر وكأن الشاعر يقول لقد كنت أكتب الشعر مُخفيا مصادر رؤيتي الآن اكتب سردا لأريكم المادة الخام لتلك الرؤية وأريكم كيف تعبر عن نفسها بعيدا عن ذاتي ورؤيتي كمحور رئيس ، وليس هذا الأمر غريبا على الساحة الأدبية في مصر والعالم فشكسبير كان شاعرا وكاتب دراما وكذا أوسكار وايلد ودي اتش لورانس، وفي مصر كتب شوقي الدراما الشعرية وبعده صلاح عبد الصبور وكتب لويس عوض الشعر والسرد وحتى في محافظة دمياط التي ينتمي إليها القاص سيف بدوي صاحب المجموعة التي نحن بصددها،نجد كاتبا كسمير الفيل الذي يعتبر من أبرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي قد ترك الشعر تقريبا بالكلية بعد أن حقق فيه صوتا مميزا وانخرط في كتابة السرد القصصي حتى صار واحدا من القلائل الذين يحظون باستحسان القراء
قدرة فنية لغوية شديدة البلاغة على الوصف
لست مقتنعا على الإطلاق بما يشاع عن أن مجموعة " لفحات أغسطس" لسيف بدوي هي أول تجاربه القصصية سواء أشاع هو ذلك عن نفسه أو رأى ذلك بعض النقاد ، ربما أجد أن الأكثر صدقا أن نقول إنها "أول قصصه المنشورة" فهناك دلائل يمكن تلمسها بوضوح تثبت أن المجموعة ليست أول تجاربه ، من بينها هذا الانضباط في الأسلوب وهذا التكثيف والاحتشاد والاقتصاد في استعمال المفردات الذي يشي بأن هذا الحكاء المسكون بالشعبيين وما يمكن تسميتهم بتحفظ "المهمشين"ـ لم ينجرف إلى طرق التعبير الشفاهي التي من سماتها الإطناب والتكرار والغنائية والمبالغة وكان شديد الاقتصاد بحيث استطاع أن يجد لغة دالة على الحدث دون زيادة أو نقصان بالإضافة إلى قدرة احترافية على الوصف تكاد اللغة فيها من شدة بلاغتها أن تشف لدرجة تشعرك أن المشهدية شاخصة أمامك كلوحة تشكيلية بديعة أو ككادر سينمائي ينبض بالحياة وعلى سبيل المثال نقرأ معا من قصة " حورية":
" انحشر "المعلم العماني" بجسده البدين الأحمر بين الزحام، يتملص ما بين الأجساد المتزاحمة،حتى أفلت..... سمع هرج عيال الحارة آت من ناحية ورشته فالتفت ليرى حورية تقف أمام مدخل البيت، ويدها قابضة على خصلة ذات وزن من شعر أشقر اقتلعتها للتو من رأس مدام إسراء، ويدها الأخرى قابضة على زمام ملاءتها السوداء حول خصرها وقد استقرت الملاءة مطمئنة فوق مؤخرتها"
ولعلنا نشهد هذا التخييل الذي يصنع لوحة بديعة من خلال اللغة فيجعل الملاءة تشعر بزهو انتصار حوريه على منافستها فتستقر بثقة واطمئنان على مؤخرة " حورية" ، إنها جملة واحدة نقلت لك ما هو مسرود وما هو غير مسرود فلابد أنك تتساءل عن جمال هذه المرأة المحتشدة بالعنفوان والأنوثة التي تستقر الملاءة مطمئنة على مؤخرتها؟
وأيضا في نهاية قصة " لفحات أغسطس" يصف سيف بدوي " الجارة" التي استجابت للغة غير مرئية صدرت عن جارها الوحيد، فيكتب :
"كانت السيدة امتياز تسد ضلفة الباب المفتوحة وبيدها صينية من الألمونيوم وقد استقر فوقها طبق تراصت به أصابع كفتة الجمبري المحمرة وبجواره فنجان ابيض برسوم دقيقة لرميو وجوليت وكنكة نحاسية يتصاعد منها بخار لطيف عبق برائحة بن ممتزجة برائحة جسدها"
هذه اللغة الواصفة تبدو بسيطة ومعيارية جدا في معظمها ، لكن لو تأملناها بعمق سنجدها لغة سردية رائعة ومحتشدة بشفرات يمكن فكها كما يحلو للنقاد الأكاديميين وإن كان القارئ طبعا لا يهمه كثيرا أن يدرك أسباب المتعة ويكفي أنه يستمتع وفقط ، فالسيدة تسد "ضلفة" الباب المفتوحة كونها تعوض نقصا عند الرجل والباب هنا ليس سوى الحياة التي أصبحت ناقصة وبحاجة للاكتمال وأصابع الكفتة تراصت أي أنها ليست موضوعة بشكل عشوائي لأن الغرض منها يتجاوز سد الجوع المادي إلى تعويض الروح بالجمال وكذلك ترتيب فوضى المشاعر التي يعيش فيها بعد فقد وليفته والفنجان المرسوم عليه "رميو وچوليت" هو إشارة إلى آفاق العلاقة العاطفية التي ستنشأ بين الإنسان و"امتياز" التى ليست سوى الحياة ذاتها، أما الكنكة النحاسية التي يذكرها بعد أصابع " الكفته" فهي تطور طبيعي ناحية الاستمتاع "بالكيف" بعد سد الرمق هذا " الكيف" الذي حتما يصل لذروته حين تختلط رائحة القهوة برائحة جسد "امتياز"، ومن اللافت جدا وصف بخار القهوة بأنه " لطيف" وعلينا أن نتساءل من الذي شعر بأنه لطيف؟ وظني أنها لحظة لتورط السارد نفسه في المشهد لأن الوصف كله ظل محايدا حتى استعملت هذه " الكلمة"
وفي قصة " تلك الأيام " التي يتناص عنوانها مع رواية الروائي الكبير " فتحي غانم" يصف سيف بدوي المعلم العربي و أبلة سناء:
" على "شلته" عالية وسط زجاجات "الكينا" التي تجرعها المعلم العربي، جلس، رافعا رأسه لأعلى حيث "أبلة سناء" تقف فوف ترابيزة خشبية مستديرة تتوسط الصالة، برداء يشبه جلباب الرجال بخطوط طولية طوبية اللون وأخرى سكرية وقد احكم على جسدها احكاما لا فكاك له إلا عند هذين الشقين الجانبيين اللذين_يخرج منهما ساقها كلما أتت بحركة راقصة أو استدارت استدارة مفاجأة وهي تغني مع عدوية "إيه دا كله إيه دا كله"
هذا الوصف الذي يشبه مشهدا سينمائيا يأتينا طبعا على لسان الراوي العليم و إلا كنا سنعترض لو كان الراوي هو الطفل
" سرد فجيعة الفقراء"
سمات القص الإدريسي عند سيف بدوي
تحمل مجموعة سيف بدوي سماته الأسلوبية الخاصة بالتأكيد من حيث كونه مقتصدا في استخدام اللغة كما أسلفنا ومن حيث كونه شاعرا معبرا عن أحلام المساواة والعدالة ، فقد كان منخرطا بشكل كبير في العمل السياسي المباشر ومنتميا لليسار المصري ومن ثم ضالعا في انحيازاته للفقراء و يمكننا أن نقول بعد تأمل لغته وتيمات القص عنده إن من الطبيعي أن يكون شيخه وإمامه في الفن القصصي هو يوسف إدريس باعتبار إدريس كان أول من عبر سرديا عن الفقر والمظالم وإن كان تركيز الدكتور يوسف إدريس قد انصرف لفقراء الريف ولم يغفل " قاع المدينة " إلا أن سيف بدوي كانت خلفيته تخص فقراء المدينة بشكل أكبر نسبيا، ف"تحية" بطلة قصته الأولى عاملة في مصنع للمشبك وهي فتاة تدرك جمالها ولكنها تصر على أن تكون هي المتصرفة فيه غير أن خضوعها مرة للتهديد جرها لابتزاز جسدي مستمر من جانب من يهددها بفضحها وفضح تفاصيل جسدها وفي النهاية لا تجد حلا سوى قتله بالسم والإجهاز عليه أيضا بالسكين وفي قصة " التين وعسله" ستفجعنا أحداثها حين نغرف أن التين ليس سوى الرغبة في الحياة وأن عسل الحياة أصبح مرا حينما تم طرد الفتاة من عملها في المعرض وداهمت عربة شرطة الإشغالات عربة التين التي يستخدمها فتاها الفقير في كسب قوت يومه فداهمت حلمهما بالحياة معا وحطمت آمالهما
وحتى في قصة " حوريه " سنجد المعركة تدور بين امرأتين تعملان في " الدعارة" بسبب المنافسة على الزبائن لدرجة أن حورية تنتزع شعر مدام إسراء ولا تتورع طبعا عن إلحاق الأذى بها غير مكترثة بأن يؤدي ذلك إلى فضحهما معا
وتبلغ الفجيعة التي يعبر عنها سيف بدوي أوجها في قصة " أمشاط العظم" التي تحكي لنا مأساة الأخ الذي فقد أخته محترقة بسبب صناعة الأمشاط من العظم الذي كان لابد أن يُحرق بطريقة ما فتسبب في احتراق أخته وجعله عاجزا عن الزواج من حبيبته ربما خوفا من إعادة إنتاج الفقر
وفي القصة التي تحمل عنوان المجموعة"لفحات أغسطس" ، نحن أمام مأساة الشعور بالوحدة و"الهبد" الداخلي للذكريات التي لا يبددها إلا سماع "الهبد" في الطابق الأعلى الناجم عن انشغال "الست امتياز" بدق كفتة الجمبري فيصعد ليشتكي من "الصوت" فيجد نفسه أمام اختبار آخر وهو عدم قدرته على مواجهة كل عنفوان جسدها الذي يهتز أمامه معبرا عن أنوثتها الطاغية فينسى أو يدعي نسيان ما صعد من أجله ويطلب منها " تلقيمة بن" ثم لا يقدر على الصمود بانتظار عودتها فقد تسببت حين خطت نحوه في البداية في زلزال داخلي لم يحتمل سطوته فأسرع هابطا الدرج دون أن ينتظرها
وهكذا تمضي مجمل قصص المجموعة ممعنة في الانتماء للحواري الضيقة وللنفوس المتعبة الباحثة عن منافذ للخروج من أزماتها ، ومتوخية استخدام لغة "عامية" في سياق فصيح وفي متن السرد من قبيل : يشرب سجاير- ترابيزة- شلته- يبل الريق- تلقيمة بن " وراصدة لأماكن معروفة في مدينة دمياط كالشارع التجاري وحارة البلابل والسنانية، وفي نفس الوقت هي لغة ليست مجانية وذاخرة بالتعبيرات المدهشة من قبيل : " صدرها نافر بلا هوادة" أو " جسد قادر ويد ذات حضور" أو " الهزار اللزج"
وأستطيع أن أقول إجمالا أن من يقرأ مجموعة " لفحات أغسطس للشاعر "سيف بدوي" سوف يجد متعة وفائدة كبيرتين ، وأعتقد أن سيف بدوي القاص المنتمي البالغ الحساسية هو ابن شرعي لسيف بدوي الشاعر المناضل الذي لم يتوقف أبدا عن محبة الحواري الشعبية في دمياط وفي كل مدن وقرى مصر
#سمير_الأمير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟