فرح تركي
أديبة، قاصة، فري لانسر، ناقدة ادبية
(Farah Turki)
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 14:05
المحور:
الادب والفن
ضيفنا في هذا الحوار هو شاعر هايكو عراقي، يعتبر من أبرز الأسماء في مجال الشعر الياباني الهايكو في العالم العربي. اشتهر بتقديم نمط جديد من الشعر يُطلق عليه اسم "التصويرة"، الذي يُعد امتدادًا للهايكو ولكن بروح عربية. يركز في قصائده على الصور الشعرية المكثفة والبسيطة التي تعكس واقعًا يوميًا وشعبيًا بعيدًا عن المجازات المعقدة والاستعارات.
القيسي ليس فقط شاعرًا، بل أيضًا باحث ومترجم في مجال الهايكو، وقد حاول تعريب تقنيات هذا النوع من الشعر ليجعلها قريبة من الثقافة العربية. في أعماله، يتميز بتقنيات اقتصادية في اللغة، مستلهمًا من تقاليد الهايكو اليابانية.
إضافة إلى ذلك، له عدة مؤلفات عن الشعر الياباني، وناقش كثيرًا في كتبه مقارنات بين الهايكو العربي والياباني، وحاول تحليل الأساليب الجمالية واللغوية التي تجعل من الهايكو نوعًا شعريًا مميزًا في الأدب العالمي.
وبسعة صدره المعهودة وصبره الكبير اجاب متكرما على أسئلتنا التي تخص الهايكو، كتجربة فريدة في مجتمعنا العربي وله الريادة فيها:
١ – ارتبط اسمك عربيًا وعراقيًا بالهايكو، فما هو الهايكو، وما هي المراحل التي تمر بها قصيدة الهايكو؟
_الهايكو ليس مجرد نوع شعري مستورد من اليابان، بل هو موقف وجودي، وشكل فني يستنطق العابر في اليومي ليعيده إلينا مفعمًا بالبصيرة. هو لحظة وعي مباغتة، تُصاغ بأقل الكلمات وأكثرها شفافية.
تمر قصيدة الهايكو بثلاث مراحل أساسية، وإن كانت هذه المراحل لا تخضع لنموذج ميكانيكي:
الالتقاط الأولي: وهي لحظة الإدراك الحسي العميق لما يُشبه التفصيلة العابرة، لكنها في حقيقتها بوابة للدهشة. قد تكون ظل ورقة، أو نظرة مسنّ، أو بركة ماء في زقاق قديم.
التكثيف والتنضيد: أي عملية تحرير النص من الزوائد البلاغية، من الذاتنة المفرطة، وصولًا إلى العظم الصافي للصورة. هنا يعمل الشاعر كمصور لا كخطيب.
إحداث القَطع الداخلي (كيري/Kireji): وهنا يتحقق الانزياح، أو "الاهتزاز التأملي" إن صح التعبير، وهو ما يُحدث الصدمة الشعرية دون حاجة إلى مفارقة صاخبة. القصيدة تقفز من المادي إلى اللامرئي، من الوصف إلى التأمل.
٢ – في كثير من اللقاءات التي أجريت معك، كنت دوماً تكرر اسم «باشو ماتسوو» فمن هو؟
_باشو ماتسوو هو الحجرة الأساس في معمار الهايكو الياباني، وهو ليس شاعرًا فحسب، بل حكيمٌ جوّال، عاش حياته متنقّلًا بين الجبال والقرى اليابانية، باحثًا عن الحكمة في التفاصيل الصغيرة.
في كل ما كتبته، كنت أشعر أنني لا أبتكر، بل أترجم صمت باشو إلى لغتنا. في طريق باشو فهمت أن القصيدة قد تكون شجرة، أو حفنة رماد، أو عبور طائر في سماء الحرب. لقد منحني باشو الضوء الأول، أما نحن فحاولنا أن نمنحه ظلّنا.
٣ – هل يخلو الهايكو من المجاز ؟
_الهايكو لا يخلو من المجاز، لكنه لا يعتمد عليه كمجاز اصطلاحي أو تزييني. المجاز في الهايكو يُولد من التوتر بين الصورة والمعنى، بين ما يُقال وما يُترك للصمت.
خذ مثلًا النص الذي ذكرتَه:
جرس المعبد قد توقف
غير أن الرنين
يأتي من الزهور
هنا، "الزهور" لا تعني صوتًا بالمعنى الفيزيائي، لكنها تحتفظ برنينٍ آخر، برنينٍ روحي. إنها صورة مجازية، نعم، لكنها مجاز لا يحتاج شرحًا. مجاز يُستقبل لا يُفسر.
٤ – لماذا تعدّ تقنية الاستعارة من التقنيات الخطرة في الهايكو؟
_لأن الاستعارة، حين تُستخدم بإفراط، تتحول إلى عدسة سميكة تحجب الرؤية المباشرة. الهايكو فنّ التجرد، لا فن الإزاحة الاصطناعية. الشاعر في الهايكو لا ينبغي أن يُلبس الشيءَ لباسًا لغويًا غريبًا عنه، بل يُصغي إليه كما هو، ويعيده إلينا كما شعر به.
الخطر في الاستعارة يكمن في تحويل القصيدة إلى "تفسير" أو "حكمة"، بينما جوهر الهايكو أن يكون كشفًا وليس خطابًا.
٥ – كيف يمكن للخوف أن يتسرّب من سلالم الملجأ؟
_الخوف لا يُعلن عن نفسه، بل يتسلل كنسمة خانقة. في لحظة الحرب، حين يتكدس البشر في الأقبية، يصبح الخوف ملمسًا للجدران، وصوتًا في ارتجاف الحديد، وظلًا على السلالم.
في الهايكو، يكفينا أن نُشير إلى مشهد:
سلالم الملجأ
كم هبط الخوف
من هنا
بهذه اللغة يمكن ترجمة الخوف دون أن نقول كلمة "خوف". الهايكو يمنحك القشعريرة من دون ضوضاء.
٦ – لماذا تتردد في طرح فكرة Sabi كتقنية في الهايكو؟
_لأن Sabi ليست تقنية بل شعور داخلي. إنها الإحساس بالجمال في الأشياء المهجورة، في التقادم، في الانطفاء الهادئ للحياة.
إذا تحدثنا عنها بوصفها "أداة" في كتابة الهايكو، نُفرغها من جوهرها. هي تُعاش ولا تُدرّس، تُحس ولا تُفكك.
أشعر أن Sabi يُشبه رائحة الكتب القديمة: لا تراها، لكنها تضعك في حضن الذاكرة.
٧ – ما هي أول مشكلة اعترضت طريق انتشار الهايكو عربيًا؟
_أول عقبة كانت الفهم الخاطئ لطبيعته: اعتُقد أن الهايكو قالب شكلي، أو لعبة عدديّة (٥–٧–٥)، دون اعتبار للسياق الفلسفي والجمالي الذي أنتجه.
كما واجهنا تحدّي الترجمة، فالكثير من نماذج الهايكو الياباني وصلت إلينا عبر وسائط إنكليزية أو فرنسية أفرغته من بُعده التأملي. كان علينا أن نُعيد بناء الهايكو في اللغة العربية على أسس رؤيوية، لا مجرد تقليد.
٨ – بيان الهايكو في بغداد، هل يجعلنا نتمسك بمكان لنا في مترو باريس؟
_بيان الهايكو في بغداد لم يكن لحظة إعلان فقط، بل كان صرخة وجودية بأنّ هذا الفنّ، وإن كان ياباني الأصل، يمكن أن يجد تربته الخاصة في تراب الرافدين.
حين كتبنا الهايكو في بغداد، كنا ندافع عن لحظة صمت داخل ضجيج المدينة. أما باريس، فهي محطّة ضوء عالمي، ومجرد وجودنا الرمزي في متروها يعني أننا نمتلك قدرة على الترجمة الكونية للحسّ المحلّي.
٩ – لماذا يُعد التعاطف روح الهايكو؟
_لأن الهايكو لا يُفترض أن يشرح العالم، بل أن يحزن معه، أن يتأمله، أن يلمسه بخفة. لا يُمكنك أن تكتب هايكو عن قطة جائعة وأنت لا تحسّ برعشة بردها، أو عن طين الطريق إن لم تسر فيه حافيًا.
الهايكو يتطلب من الشاعر أن ينزع أقنعته كلها، ويقف في صمتٍ نقي، متعاطفًا، لا حاكمًا.
١٠ – الهايكو ليس يابانيًا فحسب، بل هو اليابان نفسها، ما تعليقك على ذلك؟
_الهايكو هو اليابان لأنه يختزن روحها الجماعية: تقديس الطبيعة، الصمت، الاحترام، فن العيش ببساطة.
لكنه، حين يُكتب بصدق، يمكن أن يصير "بغدادًا"، أو "دمشقًا"، أو "صنعاء". الهايكو ليس استعمارًا أدبيًا، بل دعوة كونية للانتباه.
١١ – لماذا الهايكو، وما الذي شدك نحوه؟
_لأنني كنتُ أبحث عن بيت لا جدران له.
كنتُ أبحث عن جملة قصيرة تُنقذني من البلاغة الطويلة.
في الهايكو، وجدتُ دهشة العالم في كفّ طفل، أو في بخار شاي عند النافذة.
الهايكو علمني أن أكتب لأصمت، لا لأتكلم.
12- ما هي أهم إنجازاتك في هذا الفن؟
كانت البداية خطوة جريئة عندما أقدمتُ على طباعة دواوين بهذا الفن، رغم أن وجوده الفعلي لم يتجاوز نصف عقد من الزمن. أصدرتُ أول كتاب لي بعنوان للقمر سمعة سيئة، وكان يحمل طابعًا مميزًا ومختلفًا. بعد فترة توقفتُ قليلاً لمراجعة النصوص والتأكد من خصائصها وصياغتها، ثم أصدرتُ ديوان شمس غاربة، تلاه مخاض التوت، وحين تعزف الريح، وأحاديث الأزقة، وقضمة تفاحة، وستائر الغياب. جميع هذه الأعمال كانت دواوين إلكترونية صادرة عن منتدى نبض الهايكو، الذي أسسته عام 2016 وتبنّى عدة مشاريع مهمة، منها سلسلة شعراء الهايكو التي ضمت أربعين ديوانًا في هذا الفن، إضافة إلى أنطولوجيات لشعراء عرب وأجانب.
لاحقًا، أسست مختبر الهايكو عام 2018، ويعد أول مختبر نقدي حقيقي متخصص بالهايكو. كذلك تم إصدار مجلة نبض الهايكو متعددة اللغات، التي أتشرف برئاسة تحريرها منذ عام 2018 تقريبًا، وقد شارك فيها مبدعون من معظم دول العالم.
أما على صعيد الإصدارات الورقية، فصدر لي ديوان شفة الأوركيد عن دار الرفاه في بغداد، وديوان كما الأسود كذلك الأبيض أيضًا. ومن دار إيليا نشرتُ همهمة روح وهو ديوان هايبون، ثم كما لو ترمش أزهار الكرز. كما أصدرتُ أنطولوجيا هكذا تكلم الهايكست، وديوان ذاكرة دجلة عن دار لازورد في هولندا والعراق، وأخيرًا ديوان ما أخفني على بتلة الأقحوان عن الدار نفسها.
لكن حقيقةً، أكثر ما أفخر به على المستوى الشخصي هو مجلة نبض الهايكو ومختبر الهايكو، لما لهما من أثر في خدمة هذا الفن وتطويره.
13 – الختام لك مع الشكر
لكم الشكر أنتم، أن تمنحوا الهايكو نافذة في هذا العالم السريع.
ولعلّ آخر ما أودّ قوله:
لم يعد الهايكو ذلك الأدب المرتحل الذي يزورنا على استحياء عبر الترجمات المتفرقة والقراءات الفضولية. لقد صار اليوم جزءًا من "المنيو" الأدبي العربي بكل ما تعنيه الكلمة من حضور وتأصيل وتجذير.
لقد كرّستُ جهدي سنوات طويلة لتعريب هذا الفنّ، ليس كاستنساخ شكلي، بل كوعيٍ جديد بالشعرية تحت مسمّى "التصويرة"، وهو الاسم الذي اخترته ليعبّر عن هذه القصيدة المكثفة النقية، المتحررة من البلاغة والإنشاء، المنصتة لنبض اليومي والهامشي.
وقد أشبعتُ هذا النموذج بمقالات ودراسات وكتب عديدة، سعياً إلى توسيع أفق الهايكو العربي وتجنيبه الوقوع في وهم التبعية العمياء أو التقليد السطحي. كان آخر ما صدر لي عن دار أَبْجَد كتاب "وهم الهايكو العربي"، وهو عملٌ يتجاوز مجرد النقد ليبشّر بمفهوم التصويرة باعتبارها فضاءً إبداعيًا أصيلاً، متصالحًا مع لغتنا وتاريخنا.
وهذه بعض نصوص تصويرة اقدمها لك وللمتلقين :
قصب
حتى الناي القديم
له حشرجة
*
موج المشاحيف
مثل الأطفال أيضًا
يرقص القصب
*
حقل النفّاش
حتى الأعمى ينتظر
الريح
*
كم تحسد
الهندباء؛
بنات القرية
*
جزر الهور
الشاب يصل بينها
بهواجسه
*
مِرْدِي
القروي يدفع
القارب، وأيامه
*
بين قرني الجاموس
مازال "صباح" يرقب
شمسًا آفلة
*
حطام الحرب
مظروف فارغ
قم، قم المضيف
*
خَرِيط
حتى الدميمة من أصابعها
يقطر الشهد
*
*
من بعيد
حديثها بخار من بخار
بائعة المناديل
*
جوقة عصافير
جوقة موسيقى عسكرية
علم في خضم ذلك
*
تلفزيون الواقع ؛
كل ما عليك النظر الى
واجهة الكافيه.
*
أعقاب سكائر
كم تحتاج من وسائد
يا طائر الطنان
*
أكبر من الكف بإصبع
عالم الكهل عبر
النافذة
*
الهزيع الاخير
كما لو على مضض
يصيح الديك
*
غبش النافذة
العابرون رسومات
بألوان مائية
*
محطة القطار
دون حقائب احمل
مواجعي
*
نشرة التاسعة
نغلق التلفاز ونستمر
بالحديث عن غزة
_الف شكر وامتنان لك الاستاذ علي القيسي، نتمنى لك التوفيق الدائم والوصول الى أهدافك السامية بكل يسر وتألق.
#فرح_تركي (هاشتاغ)
Farah_Turki#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟