عاطف زيد الكيلاني
الحوار المتمدن-العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 06:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، وُلد كيان جديد على الخارطة السياسية الفلسطينية تحت اسم "السلطة الوطنية الفلسطينية".
هذه السلطة، التي كان من المفترض أن تكون نواةً لدولة فلسطينية مستقلة، تحولت خلال العقود الثلاثة الماضية إلى ما يشبه "الحكم الذاتي الوظيفي"، لا يملك قرارًا سياديًا، ولا يعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني، بل بات – كما يرى كثيرون – مجرد أداة بيد الاحتلال وأجهزة المانحين الدوليين.
المعضلة الأولى: التنسيق الأمني مع الاحتلال
إنّ أكثر ما يثير الغضب والدهشة هو إصرار قيادة السلطة على التمسك بما تسميه "التنسيق الأمني"، وهو – في جوهره – تعاون استخباري مباشر مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.
التنسيق الأمني لا يعني فقط نقل المعلومات حول "جهات مشبوهة" كما تحاول السلطة الترويج، بل هو ممارسة شاملة تشمل:
= ملاحقة واعتقال المقاومين الفلسطينيين الذين يشكلون تهديدًا أمنيًا للمحتل.
= ضبط التحركات الشعبية ومنع اندلاع انتفاضات أو مواجهات ضد الاحتلال، لا سيما في الضفة الغربية.
= التبادل الدوري للمعلومات الأمنية حول النشطاء، وأحيانًا حول صحفيين وطلبة جامعات.
هذا التعاون لا يتم في الخفاء، بل يتم تبريره علنًا تحت عناوين "المصلحة الوطنية" و"الحفاظ على الاستقرار"، وكأن الاستقرار يجب أن يكون على حساب كرامة الشعب وحقوقه الوطنية.
فصائل المقاومة: ضحايا سلطة التنسيق
لقد أصبحت الضفة الغربية ساحة صراع ليس فقط بين الاحتلال والمقاومة، بل بين أجهزة الأمن الفلسطينية والمقاومة.
ففي الوقت الذي تغضّ فيه السلطة الطرف عن هجمات المستوطنين والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى، نجدها تنفذ مداهمات واعتقالات بحق نشطاء ومناضلين من حركات المقاومة، بحجة مكافحة "الانفلات الأمني".
العديد من التقارير الحقوقية المستقلة أشارت إلى وجود تنسيق فعّال بين السلطة والاحتلال في تبادل قوائم المطلوبين، وهو ما يُعرف بمبدأ "الباب الدوّار": يُعتقل المقاوم لدى الاحتلال، وحين يُفرج عنه، يُعتقل مجددًا لدى السلطة.
السلطة كطبقة حاكمة منفصلة عن الشعب
السلطة الفلسطينية اليوم لا تمثّل الشعب، بل تمثل نفسها.
البنية الحاكمة فيها باتت مغلقة على مجموعة صغيرة من المتنفذين، ورثوا المناصب والمواقع، ويعيدون إنتاج أنفسهم باستمرار.
هذه النخبة:
= تهيمن على المؤسسات السياسية والاقتصادية.
= تمارس الفساد المالي والإداري بلا رقيب.
= تُقصي أي صوت معارض أو مستقل.
تحوّلت إلى طبقة من الأثرياء الجدد، يعيشون في أبراج عاجية داخل "رام الله العاصمة" بينما يعيش المواطن تحت الاحتلال والفقر.
منظمة الشفافية الدولية ومنظمات دولية ومحلية أكدت في أكثر من مناسبة على ارتفاع مؤشرات الفساد في مؤسسات السلطة، وهو ما يُفسّر حجم انعدام الثقة بين الناس والمؤسسة الرسمية.
الرّاتب مقابل الولاء: نموذج السيطرة الاجتماعية
من أبرز أدوات السلطة في السيطرة على المجتمع الفلسطيني ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الولاء".
فمئات آلاف الفلسطينيين باتوا يعتمدون على الراتب الشهري الذي تقدمه السلطة، سواء كانوا موظفين في الوزارات، أو الأجهزة الأمنية، أو المعلمين، أو حتى المقاولين والعاملين مع المنظمات غير الحكومية الممولة من الغرب.
هذا الاعتماد المالي حول كثيرين من المواطنين إلى رهائن:
= الموظف لا يستطيع انتقاد السلطة خوفًا من فقدان عمله.
= الأكاديمي يُمنع من الترقية أو تُجمد أبحاثه إن أبدى رأيًا مخالفًا.
= الصحفي قد يُلاحق بتهمة "إثارة النعرات" إن نشر تقريرًا عن الفساد أو القمع.
لقد أصبح المجتمع الفلسطيني، وخاصة في الضفة الغربية، يعيش حالة من الإذعان الجماعي مقابل الراتب، وهو ما يمثّل أحد أخطر مظاهر ترويض الشعوب.
أجهزة الأمن: أداة للضبط لا للتحرير
بُنيت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي تستنزف أكثر من 30% من موازنة السلطة، لتكون ركيزة "الاستقرار"، لكنها في الواقع باتت أداة لضبط المجتمع لا لحمايته.
هذه الأجهزة:
= لا تملك حق مواجهة الاحتلال، ولا تتدخل في اعتداءات المستوطنين.
= تراقب الناشطين السياسيين والنقابيين والطلاب.
= تنسق مع الاحتلال ميدانيًا في قمع "مظاهر الشغب".
= تستورد عقيدتها الأمنية من الدول الغربية، لا من تاريخ النضال الفلسطيني.
لقد تحولت الأجهزة الأمنية إلى "شرطة حدود" تحمي مصالح الاحتلال من الداخل الفلسطيني، ما يجعل منها عائقًا أمام أي مقاومة جدية.
احتكار التمثيل السياسي ورفض الانتخابات
السلطة ترفض إجراء انتخابات عامة منذ سنوات، رغم المطالبات الشعبية والفصائلية والدولية.
السبب واضح:
الخوف من خسارة الشرعية المغتصبة، والخوف من فقدان السيطرة.
فالمشهد الفلسطيني يشهد تآكلًا متسارعًا في الثقة بالسلطة وقيادتها، ويخشى القائمون عليها أن تأتي صناديق الاقتراع بحقيقة رفض الشعب لهم.
في المقابل، تُستخدم "منظمة التحرير" كغطاء شكلي لاستمرار السلطة، دون أن تكون هناك أي عملية تجديد أو تفعيل جاد لهذه المؤسسة التي كانت يومًا ما تمثل الفلسطينيين جميعًا.
المانحون وشراء الولاءات
تعمل السلطة الفلسطينية ضمن شبكة من التمويل الدولي، خصوصًا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي.
هذه الأموال تُصرف بشروط سياسية وأمنية، غالبًا ما تكون على حساب القضية.
من هذه الشروط:
= محاربة "التحريض" على إسرائيل.
= تقييد عمل الجمعيات الخيرية الإسلامية.
= الالتزام بالتنسيق الأمني.
= ضبط المناهج التعليمية وإزالة أي محتوى يعتبر "تحريضيًا".
بهذا الشكل، لم تعد السلطة تمثل إرادة الشعب، بل إرادة المموّل.
هل آن أوان القطيعة مع هذا النموذج؟
إن الاستمرار في دعم هذا النموذج السلطوي من الحكم هو طعن للمشروع الوطني الفلسطيني في مقتل.
يجب أن تكون هناك قطيعة أخلاقية وسياسية معه، من خلال:
= بناء قيادة بديلة نابعة من الإرادة الشعبية.
= استعادة دور المقاومة في الشارع الفلسطيني.
= إنهاء التنسيق الأمني بكل أشكاله.
= إعادة الاعتبار لمفاهيم الكرامة والحرية والسيادة، لا "الراتب" و"المساعدات".
إنّ السلطة الفلسطينية لم تعد تعبيرًا عن مقاومة، بل عن خضوع؛ لم تعد طليعة تحرر، بل أداة تطبيع؛ ولم تعد تمثل الأمل، بل الإحباط.
لهذا، فإنّ الخروج من هذا النفق يتطلب أولًا تشخيص الواقع بجرأة، وقول الحقيقة مهما كانت مُرّة:
السلطة أضاعت البوصلة، وأصبحت عائقًا في طريق التحرير.
إعلام السلطة: آلة دعائية لتزييف الواقع
من أدوات الهيمنة التي تستخدمها السلطة الفلسطينية، الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، والذي تحوّل منذ سنوات إلى ما يشبه المنبر الدعائي السلطوي، لا يعكس هموم الناس، ولا يكشف الفساد، ولا يُفسح المجال للرأي الآخر.
القنوات الرسمية مثل تلفزيون فلسطين، ووكالة وفا، وغيرها من المنابر المموّلة من المال العام، تكتفي بتلميع المسؤولين، وإبراز تصريحات القيادة، وطمس الأصوات الناقدة.
هي لا تسأل "لماذا انهارت الثقة بين المواطن والسلطة؟"، بل تسأل "كيف يمكن تعزيز الولاء لرموز السلطة؟".
الأخطر من ذلك هو أن هذه المنصات:
= تتجاهل تغطية الانتهاكات الأمنية ضد الفلسطينيين، وتُصوّر القمع على أنه "حماية للسلم الأهلي".
= تحاصر الإعلام المستقل، من خلال سياسات الإقصاء أو قطع التمويل أو التهديد الأمني.
= تستدعي دائمًا سردية المؤامرة الخارجية لتبرير الفشل الداخلي، وتتهم المنتقدين بالارتباط بأجندات مشبوهة.
هذا الإعلام لا يخدم القضية الفلسطينية، بل يخدم مجموعة متنفّذة تتحصّن خلف الشعارات، وتمارس سياسات التجهيل والتلميع كوسيلة للبقاء.
القمع الأمني: سياسة تكميم الأفواه لا حماية الوطن
في الوقت الذي تنشط فيه أجهزة الأمن الفلسطينية في ملاحقة المقاومين وتبادل المعلومات مع الاحتلال، فإنها كذلك تمارس القمع المنهجي ضد المعارضين السياسيين، والمثقفين، والطلاب، والنقابيين، والصحفيين.
الحريات العامة باتت مهددة، حتى في أبسط صورها.
فمن يتجرأ على انتقاد أداء الحكومة أو الأجهزة الأمنية، يُستدعى للتحقيق، أو يُعتقل بتهم "إثارة النعرات"، أو "إضعاف الشعور القومي".
وهناك تقارير موثقة عن:
= تعذيب المعتقلين السياسيين داخل السجون.
= اعتقال طلبة جامعات على خلفيات نشاطهم الطلابي أو آرائهم.
= منع الفعاليات الثقافية المعارضة، حتى وإن كانت سلمية.
ما حدث في قضية نزار بنات – الناشط الذي قُتل على يد عناصر أمنية أثناء اعتقاله عام 2021 – ليس استثناءً، بل كاشف لنهج كامل من التعامل مع المعارضين باعتبارهم "أعداء".
وفي كل مرة يقع فيها انتهاك، يتم تشكيل لجنة تحقيق شكلية، ثم تُطوى القضية دون مساءلة حقيقية.
تطبيع تدريجي مع الاحتلال: من الاقتصاد إلى الوعي
لم يقتصر دور السلطة على التنسيق الأمني، بل توسّع ليشمل نوعًا من التطبيع اليومي الصامت مع الاحتلال، عبر أدوات اقتصادية وثقافية وتعليمية. فالسلطة:
= ترتبط اقتصاديًا بالكامل بإسرائيل عبر اتفاقية باريس الاقتصادية، ما جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعًا ومختنقًا.
= لا تفرض أي سياسات جادة لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، بل تُعيق أحيانًا مبادرات المقاطعة بدعوى حماية السوق.
= تتبنّى لغة سياسية "مُهادنة" في المحافل الدولية، تتجنب توصيف إسرائيل كدولة فصل عنصري أو استعمار استيطاني.
والنتيجة:
تآكل تدريجي في وعي الأجيال الجديدة، التي نشأت في ظل خطاب مهادن، لا يعبّئها وطنيًا ولا يحمّلها مسؤولية المقاومة، بل يُربّيها على أن الاحتلال قدر يجب التعايش معه.
نحو رؤية وطنية بديلة
في ظل هذا الواقع، لا يكفي التنديد بالسلطة، بل يجب طرح بديل وطني حقيقي، يستعيد زمام المبادرة، ويعيد الاعتبار للكرامة والمقاومة والشراكة الشعبية. من ملامح هذا البديل:
= قيادة وطنية منتخبة تعبّر عن الكل الفلسطيني، في الداخل والخارج.
= تحرير القرار السياسي من سطوة المانحين، وبناء اقتصاد مقاوم لا تابع.
= تفكيك التنسيق الأمني بالكامل، وتجريم التعامل مع أجهزة الاحتلال.
= إحياء المقاومة بكافة أشكالها، خاصة الشعبية والمدنية.
= إعلام مستقل يعكس صوت الناس، لا صوت النظام.
هذا المشروع لن يُفرض من فوق، بل يجب أن يُبنى من القاعدة، من خلال الحركات الطلابية، والنقابات، والمجتمع المدني، والفصائل التي ترفض الانخراط في لعبة "الراتب مقابل الصمت".
السلطة في مواجهة الشعب
السلطة الفلسطينية اليوم تقف في تناقض جوهري مع طموحات الشعب الفلسطيني.
لم تعد تمثّل أداة تحرر، بل أداة إخضاع؛ ولم تعد تُبنى على التمثيل والشرعية، بل على القمع والتنسيق والفساد.
استمرار هذا الوضع ليس فقط كارثة سياسية، بل خطر وجودي على المشروع الوطني الفلسطيني.
إن مقاومة الاحتلال لا يمكن أن تتم في ظل سلطة تُنسّق مع العدو، وتضبط الشارع، وتُخدّر الوعي.
فلسطين تحتاج اليوم إلى حركة وعي شعبي واسعة تقول للسلطة:
= كفى، كفى، كفى!
= كفى تواطؤًا.
= كفى قمعًا.
= كفى فسادًا.
= كفى خضوعًا.
فإمّا أن تكون السلطة في خدمة الشعب، أو لا تكون.
#عاطف_زيد_الكيلاني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟