احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8393 - 2025 / 7 / 4 - 14:29
المحور:
الادب والفن
كانت آخر زيارتي لحلب أواخر عام 2003 وأوائل 2004، بعد انقطاع دام حوالي ثلاثة عشر عامًا. كانت المدينة، كما هي دائمًا، تحمل في طياتها روح التاريخ والمقاومة. في ساحة سعدالله الجابري، أحد رموز الاستقلال السوري، كان نصب الشهداء يقف شامخًا، معبرًا عن إرادة شعب لا ينكسر. هذا النصب، الذي أبدعه الفنان النحات عبد الرحمن مؤقت، لم يكن مجرد عمل فني، بل كان رمزًا للذاكرة الجماعية للشعب السوري، يجسد تضحيات الأجيال التي قاومت الاستعمار وسعت إلى الحرية. حول الساحة، كانت دكاكين الكتب الصغيرة، التي تبيع المجلات والكتب المستعملة وبعضها نادر، تضيف إلى المكان طابعًا ثقافيًا خاصًا. كانت هذه الدكاكين، بأسعارها المتواضعة، ملاذًا لعشاق المعرفة. وفي مواجهتها، كان الفندق السياحي يتحول إلى منتدى فكري حي، يجتمع فيه شعراء وفنانون وكتاب سوريا، يتبادلون الأفكار ويرسمون ملامح هوية وطنية متجذرة.
لكن هذه الصورة الحية، التي كانت تعكس روح سوريا المقاومة، تعرضت لاعتداء وحشي من عصابات الاحتلال التركي والصهيوني والداعشي، التي حطمت نصب الشهداء في ساحة سعدالله الجابري. لم يكن هذا التدمير مجرد فعل تخريبي، بل كان جزءًا من مشروع ممنهج لمحو الذاكرة الجماعية للشعب السوري. هذه العصابات، التي تعمل كأدوات للإمبريالية الأمريكية والغربية، لم تكتفِ بتدمير النصب، بل استهدفت أيضًا تمثال أبو العلاء المعري، أحد أعظم شعراء سوريا والعالم، في مدينته معرة النعمان. هذا الشاعر، الذي استلهم منه دانتي أليغييري "الكوميديا الإلهية" من خلال كتابه "رسالة الغفران"، كان رمزًا للعقلانية والتفكير الحر. تدمير تمثاله لم يكن سوى محاولة لمحو إرث فكري وحضاري يمتد عبر قرون.
هذا المشروع التدميري ليس حكرًا على سوريا. فالاحتلال الصهيوني، الذي دمر أكثر من خمسمائة قرية وبلدة فلسطينية خلال النكبة عام 1948، مارس السياسة ذاتها: محو الذاكرة الجماعية لشعب بأكمله. القرى الفلسطينية، التي كانت مزدهرة بثقافتها وتاريخها، استبدلت بمستوطنات صهيونية تحمل أسماء عبرية لتزييف الحقيقة التاريخية. هذا النهج، الذي يسعى إلى طمس الهوية الوطنية، يتكرر في سوريا من خلال أدوات الإمبريالية الغربية، سواء كانت عصابات داعش، أو جبهة النصرة بقيادة الجولاني، أو الإخوان المسلمون، أو الدعاة المتطرفون مثل العرعور. هذه الأدوات، التي تروج لإسلام مصنوع في مختبرات تل أبيب ومدارس الاستشراق في لندن والولايات المتحدة، تستخدم شعارات دينية زائفة، مثل وصف التماثيل بـ"الأصنام"، لتبرير تدمير الإرث الثقافي والوطني.
إبداع الفنان عبد الرحمن مؤقت في نصب شهداء الاستقلال في ساحة سعدالله الجابري يستحق التوقف عنده. هذا النصب، الذي صممه مؤقت بعناية فائقة، لم يكن مجرد تمثال، بل كان تحفة فنية تجسد روح الاستقلال السوري. كل منحوتة فيه كانت تحكي قصة تضحية، كل خط وتفصيل كان يعبر عن إرادة شعب قاوم الاستعمار الفرنسي وسعى إلى بناء دولة حرة. النصب، الذي شيد في قلب حلب، كان بمثابة نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، يذكر الأجيال الجديدة بأن الحرية لم تأتِ بسهولة، بل كانت ثمرة دماء وتضحيات. تصميم النصب، بتفاصيله الدقيقة وتناسقه الفني، كان يعكس رؤية مؤقت الفنية التي تجمع بين الجماليات والرمزية الوطنية. كل منحوتة فيه كانت تحمل دلالات عميقة، من صور الشهداء إلى الرموز التي تجسد النضال ضد الاستعمار. هذا العمل الفني، الذي استغرق سنوات من التخطيط والتنفيذ، كان تعبيرًا عن ارتباط الفنان بالقضية الوطنية، حيث استطاع أن يجمع بين الحس الفني والروح الثورية.
لكن هذا الإبداع الفني، الذي كان رمزًا للوحدة الوطنية، أصبح هدفًا لعصابات الاحتلال التركي والصهيوني. تدمير النصب لم يكن مجرد فعل تخريبي، بل كان جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى محو الذاكرة الجماعية للشعب السوري. هذه الاستراتيجية، التي تعتمدها القوى الإمبريالية وأدواتها المحلية، لا تختلف في جوهرها عن السياسات الصهيونية التي دمرت القرى الفلسطينية. ففي فلسطين، لم يكتفِ الاحتلال بتهجير السكان، بل سعى إلى محو كل أثر لهم، من خلال تدمير البيوت، المساجد، الكنائس، وحتى المقابر. الأسماء العربية للقرى استبدلت بأسماء عبرية، والتاريخ الفلسطيني تم تزويره لخدمة رواية المحتل. في سوريا، تتبع عصابات داعش والجولاني والإخوان المسلمون النهج ذاته، حيث استهدفوا رموز الهوية الوطنية مثل نصب الشهداء وتمثال أبو العلاء المعري، في محاولة لفرض رواية دينية متطرفة تخدم أجندات الاحتلال.
هذه العصابات، التي تعمل تحت مظلة الإمبريالية الأمريكية والأطلسية، ليست سوى أدوات في مشروع أكبر يهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الصهيونية والغربية. تركيا الأطلسية، التي تدعم جماعات مثل جبهة النصرة والجيش الوطني السوري، لا تختلف في جوهرها عن الكيان الصهيوني. كلاهما يعمل على محو الذاكرة الجماعية للشعوب، سواء من خلال تدمير الرموز الثقافية أو فرض روايات دينية وهمية. محميات الخليج، مثل الإمارات وقطر، تلعب دورًا مماثلاً، حيث تمول هذه الجماعات المتطرفة لخدمة أجندات خارجية، بينما تروج لنموذج اقتصادي استهلاكي يعتمد على ناطحات السحاب والجزر السياحية، بعيدًا عن أي عمق ثقافي أو حضاري.
الإسلام الصهيوني، كما يُطلق عليه، هو نتاج مختبرات تل أبيب ومدارس الاستشراق في لندن والولايات المتحدة. هذا الإسلام المصنوع، الذي يروج له دعاة مثل العرعور، ليس سوى أداة لتدمير الهوية الوطنية والثقافية للشعوب العربية. تحت شعارات زائفة مثل "تحطيم الأصنام"، تستهدف هذه الجماعات كل ما يمثل الإرث الحضاري، من تماثيل الشعراء إلى النصب التذكارية. هذا النهج يعكس رؤية استعمارية تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة وفق نموذج يخدم المصالح الغربية والصهيونية، حيث تصبح الشعوب مجرد أدوات في يد المحتل.
في سوريا، كما في فلسطين، يواجه الشعب محاولات مستمرة لمحو ذاكرته الحية. لكن هذه المحاولات لن تنجح، لأن الشعوب، بقوانينها التاريخية، تفرز مقاومة تناسب مستوى العدوان. في حلب، كانت ساحة سعدالله الجابري رمزًا للمقاومة الثقافية والوطنية. النصب الذي أبدعه عبد الرحمن مؤقت كان يحمل في طياته قصص النضال والتضحية، وكان بمثابة تذكير دائم بأن سوريا، بتاريخها العريق، لن تنكسر أمام الغزاة. تدمير هذا النصب لم يكن مجرد فعل تخريبي، بل كان محاولة لكسر إرادة شعب يرفض الاستسلام.
إبداع مؤقت في هذا النصب يستحق الإشادة ليس فقط لجمالياته الفنية، بل لأنه كان تعبيرًا عن هوية وطنية مقاومة. كل منحوتة في النصب كانت تحكي قصة شهيد، كل تفصيل كان يعكس ارتباط الشعب بأرضه وتاريخه. مؤقت، الذي عُرف بحسه الفني العميق، استطاع أن يجمع بين الرمزية الوطنية والإبداع الفني، مما جعل النصب ليس مجرد عمل فني، بل رمزًا للوحدة الوطنية. هذا الإبداع، الذي كان يعكس روح سوريا الحية، أصبح هدفًا لعصابات الاحتلال التي تسعى إلى محو كل ما يذكر الشعب بتاريخه ونضاله.
لكن الشعب السوري، كما الشعب الفلسطيني، لا يستسلم. فكما أن تدمير القرى الفلسطينية لم يمحُ الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني، فإن تدمير نصب الشهداء وتمثال أبو العلاء المعري لن يمحو إرادة الشعب السوري. هذه الشعوب، التي واجهت أبشع أنواع العدوان، تفرز مقاومة تناسب مستوى الفاشية التي تواجهها. في فلسطين، أثبتت المقاومة، من خلال عمليات مثل طوفان الأقصى عام 2023، أنها قادرة على كسر هيبة الاحتلال. في سوريا، رغم الدمار الذي تسببت به عصابات الاحتلال، لا تزال روح المقاومة حية، سواء في حلب أو معرة النعمان أو غيرها من المدن.
الاحتلال التركي، الذي يدعم جماعات مثل جبهة النصرة، يحاول تشكيل ذاكرة جديدة للشعب السوري، ذاكرة تخدم المصالح الإمبريالية. لكن هذه المحاولات محكوم عليها بالفشل، لأن الشعوب لا تنسى تاريخها. أبو العلاء المعري، الذي كان رمزًا للعقلانية والتفكير الحر، لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة الشعب السوري بتدمير تمثاله. كذلك، نصب الشهداء في ساحة سعدالله الجابري، رغم تدميره، سيظل رمزًا للنضال السوري. هذه الرموز، التي تحمل في طياتها تاريخ أمة، لا يمكن أن تُمحى بأدوات الإمبريالية، سواء كانت داعش أو الجولاني أو غيرها.
في النهاية، فإن محو الذاكرة الجماعية هو مشروع استعماري قديم، استخدمته القوى الاستعمارية في كل مكان، من فلسطين إلى سوريا. لكن هذه المحاولات، مهما كانت وحشيتها، لا تستطيع كسر إرادة الشعوب. الشعب السوري، الذي يواجه الاحتلال التركي والصهيوني وأدواتهما، سيواصل مقاومته، كما فعل الشعب الفلسطيني. إبداعات مثل نصب عبد الرحمن مؤقت، وإرث شعراء مثل أبو العلاء المعري، ستظل حية في وجدان الأمة، تذكرها بأن الحرية لا تأتي إلا من خلال النضال والصمود.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟