أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - صمت الفلوت وهستيريا العنف















المزيد.....

صمت الفلوت وهستيريا العنف


عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)


الحوار المتمدن-العدد: 8392 - 2025 / 7 / 3 - 09:31
المحور: الادب والفن
    


في رواية "الأشياء تتداعى" لتشينوا أتشيبي، لا تُطرح المأساة من موقع الصدام بين حضارتين فحسب، بل من موقع الصدع الداخلي الذي عاشته المجتمعات الأفريقية قبل الاصطدام بالاستعمار. ومن بين شظايا هذا الصدع تطفو شخصية أونوكا، الرجل الذي يُقدَّم في السرد الظاهري بوصفه كسولًا، فقيرًا، مسالمًا، مدينًا، وعديم القيمة الاجتماعية. غير أن قراءة ماركسية متأنية تُعيد تموضع هذه الشخصية في قلب الصراع الطبقي والثقافي، لا بوصفها هامشًا روائيًا، بل كعلامة دالة على تصدّع منظومة القيم الداخلية، التي راكمت التناقضات وعجزت عن استيعاب التنوّع الإنساني، قبل أن تهزمها قوة الغزو الإمبريالي.

يُقدّم مجتمع أوموفيا كنموذج بدائي للبنية الطبقية الأبوية، حيث تُقاس الرجولة والقيمة بامتلاك الأرض، وتكديس محصول اليام، وتعدّد الزوجات، والانتصارات في الحروب. كل ما لا يدخل في هذا المنطق الإنتاجي يُقصى من دائرة الاحترام. يُشبه هذا الترتيب المجتمعي، في بعده الرمزي، ما سمّاه ماركس في "رأس المال" بـ"دين القيمة التبادلية"، حيث يُقاس الإنسان بما يُنتج، لا بما يشعر أو يُبدع. في هذا السياق، لا يظهر أونوكا كشخص فاشل، بل كمُنشق قيمي يُقوّض من داخل النظام منطقه القائم على التراكم والعنف. كسله ليس نقيصة فردية، بل شكل من أشكال الرفض الصامت. رفضه لتسديد ديونه لا ينم عن استخفاف، بل عن رفض للمنظومة القيمية التي تُخضع الفقر للمراقبة والمهانة. عزفه للفلوت لا يُمثل انصرافًا عن الواقع، بل تأسيسًا لواقع بديل قوامه الجمال، الفرح، والتصالح مع الكينونة، لا الصراع المحموم من أجل التملك.

الفلوت في يد أونوكا ليس مجازًا أدبيًا، بل أداة مقاومة طبقية. في عالم تهيمن عليه الضوضاء العنيفة لطبول الحرب والسوق والأوامر الذكورية، يأتي صوت الفلوت كفعل جمالي سياسي، يُعيد الاعتبار للحسّ، للفرح، وللحظة الآنية. إنه يُقوّض ما دعاه ألتوسير بـ"الجهاز الأيديولوجي للدولة"، حيث يُنتج الأفراد داخل النظام قيم الطاعة، الكدّ، والهيمنة الرمزية. أونوكا، بهذا المعنى، لا ينتمي للنظام. هو لا يكدّ كفاية، لا يُقاتل، لا يسدّد، ولا يطمح في السلطة. لكنه يُنتج ما هو أعمق: لحظة صدق إنساني، لا تُقاس بالكفاءة أو الرجولة أو التراكم. وهنا تكمن الخطورة الرمزية في وجوده، التي دفعت المجتمع إلى نفيه، ودفنت جثته في أرض "شرّ"، كما تُدفن كل لحظة مقاومة لا يمكن للنظام استيعابها.

في المقابل، يُجسّد أوكونكو، ابنه، التماهي الكامل مع قيم المجتمع. هو تجسيد صارم للرجولة حسب تعريف الأيديولوجيا السائدة: عنيف، منتج، غير عاطفي، يسعى نحو الألقاب، يكره النساء والضعف، ويخاف أن يكون مثل أبيه. لكنه بهذا يتحوّل إلى ما وصفه ماركس بـ"الإنسان المستلب"، الذي يُنكر ذاته الحقيقية كي يُشبع متطلبات النظام. العنف الذي يمارسه أوكونكو ليس تعبيرًا عن قوة داخلية، بل عن هشاشة نفسية ناتجة عن الخوف من فقدان الموقع الرمزي. حياته كلها محكومة بالرعب من تكرار صورة الأب، ولذلك يتجاوز الحدود الأخلاقية عندما يقتل إيكيميفونا، ويُمارس القسوة على زوجاته وأطفاله. كل هذا لكي يطمئن نفسه بأنه ليس أونوكا. لكن النتيجة هي أن هذا الإنكار يُحوّله إلى كائن منغلق، غريب عن ذاته، غير قادر على الحب أو الإنصات أو الرفق. إنه يُجسّد العنف المتوحش للنظام في أصفى صوره، لكنه في ذات الوقت ضحية لهذا النظام.

وتبلغ المفارقة ذروتها حين يُقارن موت الرجلين. يموت أونوكا فقيرًا، منبوذًا، يُدفن خارج أرض الأحياء، لكنّه يموت متصالحًا مع ذاته، منسجمًا مع رفضه العميق لأسس المجتمع القائم. موته، بهذا، يُجسّد الهزيمة الظاهرية التي تُخفي مقاومة داخلية صامتة. أما أوكونكو، فيموت انتحارًا، في ما يُمثّل عارًا وجوديًا في ثقافة الإيغبو، ويُدفن هو الآخر في "أرض الغربة". لقد قضى حياته كلها محاولًا الهرب من مصير أبيه، لكنه انتهى إلى المصير ذاته. كلاهما طُرد من دائرة الحياة المنظمة، لكن أونوكا طُرد لأنه رفض اللعبة، وأوكونكو طُرد لأنه التهم اللعبة حتى اختنق بها. وهذه المفارقة هي صلب الرؤية الماركسية للرواية: المجتمع الذي لا يحتمل الاختلاف، ولا يُعيد إنتاج نفسه إلا عبر أدوات القمع الرمزي، يُنجب خصومه من داخله، ويقود أبطاله المخلصين إلى الهلاك.

من هذا المنظور، لا يُمكن فهم انهيار مجتمع أوموفيا بسبب الغزو البريطاني فحسب، بل كنتيجة حتمية لجمود البنية القيمية الداخلية، وفشلها في استيعاب بدائل إنسانية أخرى. لم يُهزم مجتمع الإيغبو فقط بالبندقية والمبشّر، بل سبقته الهزيمة حين نبذ أونوكا ورفع أوكونكو إلى مقام المثل الأعلى. لقد قمع صوت الفلوت فخسر الموسيقى كلها. وكما أشار غرامشي، فإن "الأزمة تولد عندما يموت القديم ويعجز الجديد عن الولادة"، وهو ما حدث بدقة في الرواية: أونوكا كان يمثل جنين الجديد، لكن النظام لم يترك له فرصة النضج، وأوكونكو مثّل القديم الذي قاوم موته فانفجر على ذاته. وبينهما، تولد الأزمة التي شكّلت ملامح التمزق الثقافي الذي مهّد الطريق للغزو.

هكذا، يُمكن القول إن "الأشياء تتداعى" ليست فقط رواية عن الاستعمار، بل عن الهزيمة التي تبدأ من الداخل. أونوكا، المُحتقَر، يتحوّل في ضوء القراءة الماركسية إلى استعارة كبرى للبديل المسكوت عنه، للإنسان الذي لا يُقاس بإنتاجيته أو سلطته أو هيمنته، بل بقدرته على البهجة، على السلم، على العيش الصادق. صوته، عبر الفلوت، لا يزال يتردد حتى بعد دفنه، كتحدٍّ للمنطق الطبقي الذي يقيس الوجود بالقوة، وكاحتمال ضائع لإنسانية أخرى، لم يعطها المجتمع فرصة. أما أوكونكو، فيبقى ضحية مثله مثل أبيه، لكنّه اختار أن يكون أداة القمع بدل أن يكون ضحيته. موته ليس عارًا فرديًا فقط، بل حكم بالإفلاس على نظام كلّف الإنسان حياته من أجل أن يكون ذكرًا ناجحًا. وهنا يكمن التحدي الأخلاقي والسياسي الذي تُلقيه الرواية في وجه القارئ: هل نستمر في قياس الحياة بمعايير التملك والعنف؟ أم نُعيد الاعتبار لفلوتٍ صغيرٍ هُزم اجتماعيًا، لكنه وحده من صمد أخلاقيًا؟

"في ظل سيادة نمط الإنتاج الرأسمالي، لا تتحكم السلعة في العلاقات الاقتصادية فحسب، بل في العلاقات الاجتماعية بين الناس أيضًا؛ فتُقلب علاقاتهم إلى أشياء جامدة، ويتحول الإنسان نفسه إلى سلعة."

النضال مستمر،،



#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)       Imad_H._El_Tayeb#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 4. بنية إنتاج الكراهية في السودان
- 3. خطاب الكراهية ضد النساء: الجندر كساحة للصراع الطبقي في ال ...
- 2. لجان المقاومة وتفكيك الكراهية: من الوعي الشعبي إلى الفعل ...
- تفكيك ٱلة الكراهية: المهمة الثورية للوعي الطبقي
- لا ثورة بلا قطيعة، ولا يسار بلا عدو طبقي
- القذيفة لا تُنهي الدرس
- 30 يونيو: لحظة الوعي الطبقي وحدود الثورة في السودان
- وعي طبقي في جسد طفلة
- عنف بلا حدود، مقاومة بلا تنازلات
- الفن في مواجهة اغتراب الرأسمالية: صرخة الجمال ضد قبح الاستغل ...
- التعاونيات في السودان: بذور الاشتراكية في مواجهة الرأسمالية ...
- الوعي الطبقي والجهل المُنَظَّم في الصراع السوداني: تحليل مار ...


المزيد.....




- شاهد فنانة إيرانية توظّف الفن لخدمة البيئة والتعايش
- إسرائيل تحتفي بـ-إنجازات- الدفاع الجوي في وجه إيران.. وتقاري ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- المقاطعة، من ردّة الفعل إلى ثقافة التعوّد، سلاحنا الشعبي في ...
- لوحة فنية قابلة للأكل...زائر يتناول -الموزة المليونية- للفنا ...
- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عماد حسب الرسول الطيب - صمت الفلوت وهستيريا العنف