محمد ابراهيم بسيوني
استاذ بكلية الطب جامعة المنيا وعميد الكلية السابق
(Mohamed Ibrahim Bassyouni)
الحوار المتمدن-العدد: 8390 - 2025 / 7 / 1 - 07:51
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مطلع القرن العشرين، واجهت المدارس السويدية تحديًا تربويًا غير مألوف؛ عزوف الأطفال عن مادة الجغرافيا. كان الكتاب المدرسي جافًا، مليئًا بالحقائق والمصطلحات التي لم تلامس خيال التلاميذ أو مشاعرهم، فبدت الجغرافيا كعبء ثقيل أكثر منها بوابة لفهم العالم. ولأن التعليم في السويد لم يكن يومًا منفصلًا عن الثقافة، فقد لجأ المسؤولون إلى فكرة جريئة: تكليف كاتبة أدبية بسرد الجغرافيا في هيئة قصة. وقع الاختيار على سلمى لاغرلوف، التي كانت قد بدأت تُعرف بموهبتها في السرد الإنساني المفعم بالخيال.
لم تتعامل سلمى مع المهمة بوصفها وظيفة، بل كرحلة اكتشاف. زارت بنفسها مختلف مناطق السويد، من الشمال الثلجي إلى الجنوب الدافئ، تتأمل الطبيعة، وتستمع إلى حكايات الناس، وتجمع التفاصيل الصغيرة التي تغيب عن كتب الجغرافيا التقليدية. ثم ولدت رواية “مغامرات نيلز”، وهي حكاية خيالية عن طفل مؤذٍ للحيوانات يُعاقَب بالمسخ إلى حجم قزم، فلا يجد خلاصًا إلا بمرافقة وزة برية تُدعى مورتين في رحلة جوية عبر البلاد.
في هذه الرحلة، يزور نيلز وأصدقاؤه مختلف الأقاليم السويدية، ويتعرفون على التضاريس، والطقس، والحيوانات، والعادات المحلية. لم تكن المعلومات الجغرافية منفصلة عن القصة، بل منسوجة بلغة شاعرية، ومواقف إنسانية، وحكمة أخلاقية. لقد أُعيد تقديم الجغرافيا لا كخريطة جامدة، بل كمغامرة نابضة بالحياة.
استقبل الأطفال الرواية بحماس منقطع النظير، وحققت نجاحًا غير مسبوق. أحبوها ليس لأنها تعلمهم، بل لأنها تُدهشهم وتضحكهم وتُشعرهم أنهم يسافرون بحق. ومع هذا النجاح الإبداعي، نالت سلمى لاغرلوف جائزة نوبل للآداب في عام 1909، لتكون أول امرأة تفوز بهذه الجائزة، وتأكيدًا على أن الأدب يمكن أن يكون وسيلة تربوية قوية بقدر ما هو فن.
ولم يتوقف تأثير الرواية عند الجيل الأول من قرّائها، بل استمرت قصتها في التجدّد. ففي عام 1980، أنتج اليابانيون مسلسلًا كرتونيًا شهيرًا مستوحى من الرواية، بعنوان “مغامرات نيلز”، نُقل إلى شاشات العالم، وصار رمزًا عالميًا للطفولة والمغامرة والتعلم الممتع. بهذه الرحلة الأدبية، أعادت سلمى لاغرلوف تعريف العلاقة بين الطفل والمعرفة، وبين القصة والعلم، وأثبتت أن التعليم لا يجب أن يكون مملًا، بل يمكن أن يكون رحلة سحرية تعبر القلوب قبل أن تسكن العقول.
#محمد_ابراهيم_بسيوني (هاشتاغ)
Mohamed_Ibrahim_Bassyouni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟