خالد قنوت
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 14:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان لزاماً وطنياً أن يتوقف تسونامي الفرح بسقوط النظام الاستبدادي في سورية و سقوط مؤسسات الدولة الهشة بمجرد هروب رأس النظام بعد وضعه دولياً أمام خيار السلامة الشخصية مع غنائم النهب الأسدي منذ سنة 1970 أو التصفية المباشرة, لتصل قوات هيئة تحرير الشام إلى قصر الشعب على مشارف العاصمة دمشق و استلام مقاليد السلطة بقوة القرار الفصائلي مع ترحيب شعبي مشوب بالحذر و التوجس من أي سلطة جديدة بعد عقود من حكم العصابة الأسدية, لنتوقف اليوم عند الوضع الجيوسياسي الجديد لسورية و استقراء علمي لمصيرها, بعد حوالي سبعة شهور من سقوط الأسد.
الشهور التي انقضت لم تكن سوى مسلسل من الأحداث المحلية و الاقليمية و الدولية العاصفة و الدموية و التي هي بالتحليل السياسي عبارة عن نتائج منطقية جداً لصراعات دولية و اقليمية تنعكس مباشرة على مجمل الصراعات المحلية لكل دولة من دول الشرق الأوسط.
و إذا استثنينا مشاريع الدول العظمى, و التي لم يكن لنا طاقة بها بأفضل أحوالنا في القرن الماضي, كالمشروع الأمريكي و المشروع الروسي و المشروع الاوروبي و المشروع الصيني القادم من بوابات الاقتصاد و التنمية فإن التعامل السياسي مع المشاريع الاقليمية في منطقتنا ليس ترفاً أو عبثية بل هو ضرورة الواقع و ما يمكن أن نبنيه لمستقبلنا كدولة وطنية تحفظ مصالحها و مصالح شعبها خلال هذه الفترة الحرجة و المحورية للبقاء و النهوض من الفشل و الدمار الانساني و العمراني.
المشاريع الجيوسياسية الأقليمية:
في القراءة السياسة, لا يمكن فصل المشاريع السياسية المختلفة, دوليةً كانت أو إقليمية, عن بعضها فالتفاعلات و المعادلات بالغة التعقيد و التشابك و هي في معظمها تنافسية تصل, و قد وصلت بالفعل, حدود الصراعات العسكرية لكن ديمومتها كان رهن توافقات للدول العظمى و بالتأكيد للولايات المتحدة الأمريكية على عكس البديهية القائلة "أنك تستطيع أن تبدأ حرباً لكنك لا تعرف متى تنتهي".
و مع ذلك, يمكن التركيز على المشاريع السياسية الاقليمية التي يمكن لدول مثقلة بالكوارث كسورية المحررة من نفق الأسدية الدموي و الطامحة لعودتها كدولة طبيعية في هذا الركن من العالم:
أولاً- المشروع الجيوسياسي الاسرائيلي:
لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نفصل هذا المشروع عن تحالف دولي قد يكون الوحيد الذي يتفق عليه العالم بأكثريته في الحفاظ على أمن دولة اسرائيل و تلقيها كل اشكال الدعم رغم ما تمارسه من ممارسات على الشعب الفلسطيني و شعوب المنطقة و إذا استبعدنا جدلاً مخاوفنا التاريخية كشعوب لهذه المنطقة و أحلام رجال الدين في اسرائيل في إقامة دولة اسرائيل بين الفرات و النيل, فإن المشروع الاسرائيلي يملك القوة العسكرية و التكنولوجية المتقدمة لبقاء اسرائيل لكنه يفتقر للموارد البشرية القادرة على تنفيذ مشروع كبيرعابر لحدود الدول الأخرى إلا إذا أزيحت شعوبها بطريقة أو أخرى. يتمحور المشروع الاسرائيلي على أمنها كدولة محاطة بالأعداء و حدود هذا الأمن يتجاوزها ليصل حدود دول خارج الاقليم و هذا بالمحصلة يعني القضاء على أي تهديد داخلي يتضمن كامل اراضي فلسطين التاريخية بحدودها أيام الاحتلال البريطاني بمعنى كامل اراضي اسرائيل المعترف فيها بالأمم المتحدة و كامل أراضي الضفة الغربية و قطاع غزة دون استثناء و هو ما تعزز بعد عملية طوفان الأقصى 7 تشرين الأول 2023 و قدرة اسرائيل على خوض حرب طويلة لم تنتهي فصولها بعد في غزة, ثم على أمنها الاقليمي الذي اعطاها القدرة و المشروعية الدولية على حرب خاطفة و قاصمة لحزب الله درة التاج الايراني في المنطقة نتج عنها سقوط اسطوري لنظام الأسد في سورية و تدمير كامل لقدرات جيشها و كان آخرها حرب الاثنا عشر يوماً مع إيران بكل ما تملكه إيران من امكانيات.
من باب الأمن, يتصدر باب الاقتصاد قائمة أهداف المشروع الاسرائيلي في تقديم نفسها كرائدة في الصناعات العسكرية و التكنولوجية و الزراعية و الأبحاث العلمية و قدراتها الكبيرة في قيادة المنطقة اقتصادياً و هذا يتطلب منها إعادة تفعيل عملية السلام مع الدول العربية و خاصة مع السعودية بالشكل الترامبي للاتفاقيات الابراهيمية و هو ما قد يضعها أمام استحقاق إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح و الصلاحيات.
ثانياً- المشروع الجيوسياسي الإيراني:
في سياقه التاريخي و منذ استيلاء الخمينية على ثورة الشعب الايراني ضد شاه ايران مروراً بالحرب مع العراق إلى ملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الامريكية بعد انسحاب معظم قواتها من العراق إلى تحالف نظام حافظ الأسد وصولاً لتمددها الميليشياوي في لبنان, كان المشروع الايراني مقبولاً على الصعد الشعبية العربية كنموذج مقاوم للهيمنة الصهيو-امريكية و كرد شعبوي على عجز النظم العربية عن كافة الصعد حتى حرب 2006 حيث امتلك المشروع الايراني الاسلامي الطائفي كل المقومات في بسط سلطاته و عقيدته على شعوب المنطقة بالتسويق الطائفي لمكونات طائفية متوافقة أو لمكونات نقيضة تتفق معها بشعارات تحرير القدس و هذا ما أوصلها للسيطرة الفعلية سياسياً و عسكرياً على اربع عواصم عربية و تهديد دول الخليج.
امتداد إيران الخمينية من طهران إلى سواحل البحر الابيض لم يمكن ليستمر دون أن يصطدم بمشاريع أخرى إقليمية على رأسها المشروع الاسرائيلي المدعوم دولياً و هو ما حدث بالفعل في سابقة تاريخية أن تقوم حرب دموية جوية بين بلدين تفصل بينهما دول عديدة, هذه الحرب لم تصل لحدود الهزائم الكبرى بل كانت محدودة بفعل السيطرة الامريكية عليها و لمصالح أمريكية بحتة و بالتالي لم يهزم أي من المشروعين الايراني أو الاسرائيلي و عليه أن تبنى السياسات المستقبلية لدول المنطقة, حيث المشروع الايراني قائم مادام النظام الايراني باق و شعار تصدير الثورة الاسلامية قائم في عقول قادتها.
ثالثاً- المشروع الجيوسياسي التركي:
يمكن أن يتبلور توصيف هذا المشروع, حديثاً مع وصول رجب طيب أردوغان لمنصب رئيس الوزراء 2003 و تمكنه من تحويل تركيا من دولة بحكم برلماني إلى حكم رئاسي و شغله لمنصب الرئاسة منذ 2014 و تاريخياً منذ خسارة تركيا لاراضي و دول تعتبرها ارثها التاريخي من الفترة الاستعمارية العثمانية و إذا كان المشروع الايراني يقوم على العقيدة الشيعية في أحقية الولاية الاسلامية فإن المشروع التركي يقوم على العقيدة السنية, و الاخوانية اردوغانياً, في أحقية الولاية الاسلامية على الرغم من أن تركيا دولة علمانية دستورياً.
كان لدخول تركيا إلى سورية عن طريق تحالفها و قطر مع بشار الأسد من باب الاقتصاد و تأثيراته المدمرة على الاقتصاد السوري أحد العوامل التي اشعلت ثورة السوريين ضد نظامه الاستبدادي ما لبث أن تحول هذا الدخول لباب السياسة و الدعم العسكري للقوى المعارضة لنظام الأسد و احتواء لعشرات من مخيمات اللاجئين السوريين و مئات الاف السوريين على الأراضي التركية وصل حد تهديد الدول الاوربية بموجات اللجوء عند كل خلاف مصالح تركي اوربي.
كانت السياسة الاردوغانية الأكثر حكمةً و صبراً في ترقب تصاعد الصراع الاسرائيلي الايراني على الاراضي السورية و اللبنانية و تحقيقاً لمصالحها في تثبيت مشروعها في المنطقة و مع التفويض الامريكي لملء الفراغ الذي احدثه سقوط نظام الأسد و تولي السيطرة على سورية ضمن الشروط و المصالح الامريكية الاسرائيلية و ذلك بإقامة حكومة حليفة, و أكثر من حليفة, لأنقرة في دمشق تحقق لها ما يلي:
- إزالة أي نوع من أنواع التهديد الذي يمكن أن تشكله الطموحات الفصائلية الكردية الانفصالية ضد تركيا.
- تأمين سيطرة عسكرية أمنية و منها سياسية على الاراضي السورية ضد أي احتمال صراع مستقبلي مع المشروع الاسرائيلي الذي قد يكون صراعاً اقتصادياً.
- تحقيق طفرة اقتصادية لصالح الاقتصاد التركي المتعثر عن طريق الاستفادة القصوى من الاستثمارات الخليجية و الدولية المتوقعة لإعادة إعمار سورية و استغلال مواردها و ثرواتها.
- ربط اقتصاد تركيا مباشرة بالاقتصاد الخليجي الغني عبر سورية و تتويج مكتسبات الربط المباشر مع أوربا.
- تحقيق سيادة مطلقة على شبكة انابيب ربط طاقة نفطية و غازية تمتد عبرها و عبر سورية بين الخليج و مصر لتصل أوربا المتعطشة لموارد الطاقة بعد خسارتها للنفط و الغاز الروسي نتيجة الحرب الروسية الاوكرانية و هذا ما سيشعل بالشكل حاسم صراعاً وجودياً مع المشروع الاسرائيلي.
سورية, إلى أين؟
لن نطيل كثيراً من توصيف و شرح الحالة السورية و تموضعها من تلك المشاريع الجيوسياسية المتصارعة بقدر ما يمكن أن نصل, كسوريين وطنيين, بالسياسة كفن الممكن لأفضل الحلول الواقعية و الحقيقية للخروج بأقل الخسائر و أكثر المكاسب الوطنية, فالوضع مأساوي بحق و لا تحسد أي سلطة وصلت أو ستصل للحكم في سورية خلال العشر سنوات القادمة على ضخامة المهام و خطورة المرحلة هذا إذا كان لهذه السلطة أو تلك النية و العزم و الارادة لإعادة بناء الدولة السورية الجديدة على اسس صحيحة و حقيقية اساسها المواطنة و صون الحريات و تشاركية القرار الوطني بعيداً عن الاقصاء و الاستئثار بالسلطة و استعادة الاستبداد بأي شكل كان.
بالمطلق, فإن أي مشروع جيوسياسي خارج حدود أي دولة متعثرة و ضعيفة هو مشروع هيمنة و استغلال فالدول ليست جمعيات خيرية و سياسات الدول تقوم المصالح وعلى الاستفادة القصوى من فقدان الأخرين لأوراق اللعب و مع ذلك على الجميع اللعب بأوراق قوية أو اللعب بذكاء على اختلافات مصالح الدول على ارضنا.
ربما سورية و حتى هذا اليوم و في سابقة تاريخية, تملك ورقة قوية و هي اتفاق دولي و اقليمي على استعادة استقرارها و توحيد اراضيها و إعادة بنائها كدولة طبيعية فالجميع حتى الآن يعتبرون استقرار سورية هو مصلحة لكل منهم.
ورقة أخرى تملكها سورية و هي رؤية اقتصادية اساسها الاستقرار السياسي لدول المنطقة يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لعام 2030 و بحكم حاجة سورية لضخ الاقتصاد السوري بالاستثمارات لإعادة تشغيل العجلة الاقتصادية السورية و إعادة إعمار شاملة. هنا يجب أن يتعامل السوريون و بكل حرفية و صدق مع هذه الرؤية طالما أنها لم تتحول إلى مشروع جيوسياسي سعودي أو خليجي.
إن العمل السياسي على مسارات متعددة هو الأصعب في ظروف دولة كسورية لم تتبلور شكل دولتها بعد و لم تلملم مكوناتها الاجتماعية و لم تحقق وحدة اراضيها و تتعرض لضغوط مشاريع أكبر من أن تتحملها دول مكتملة و طبيعية و لكنها تُمنح فرصة كبيرة بامتلاك ورقتين بالغتي الاهمية فما عليها سوى الحيادية أمام صراعات الدول الاقليمية و عدم وضع بيضها في سلة دولة بعينها أو حتى تحالف دولي ينصب العداء لتحالف دولي آخر.
أيضاً و دون تزلف, الامساك العقلاني بالرؤية السعودية كعمق عربي اقتصادي وازن في المنطقة و العالم حتى نملك مشروعنا الجيوسياسي الوطني و نستعيد دورنا, كدولة طبيعية فاعلة و مؤمنة بقدرات مواطنيها و حبهم للحياة و العمل و الانتاج الحضاري و الانساني.
#خالد_قنوت (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟