كمال جمال بك
شاعر وإعلامي
(Kamal Gamal Beg)
الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 18:14
المحور:
الادب والفن
أنفاس. كم رددها والده ساخرا في مجالس العزاء، وعند العبور السريع لحروف الموت الثقيلة على مطبات الصدور، ما يعني أنها بلا زيادة ولا نقصان على عدّاد الحياة. وميّات. كما اعتاد ولده أن لا يرشها بريقٍ من خليط مرارة العيش وحموضته، وظل معتقدا أنها لا تسيل في آخر مصباتها إلا ناشفة ومتهالكة.
وما بين نفخة وادعة بطرف الشفاه من أنفاس أبيه، وبين دفقة ميات أمه، سبعة وعشرون عرقا، جرت في سبعة وعشرين فرعا، وذابت بصمت الشموع، واشتدت في كل نائبة، فما التوى غصن لها، حتى انكسار الحوض فوق جذعها.
من نصيبها الدنيوي تناولت فطورها بيد ابنها، وغصت باللقمة قبل الأخيرة، ومن الميات سقاها جرعتين، والثالثة غرغرت بها في حلقها ولفظتها، ورفعت يدها اليسرى غير المصابة بكسر الكتف للشهادة، وانتفضت، ثم نامت بوجهها الطفولي ووسادتها راحة الكف اليسرى لرفيقها الشاعر، الصحفي، الغريب.
عاجلا ضغط زر ساعة الطوارئ في معصمها، وبثوان تدفقت عليه متوالية أسئلة: متى وأين وكيف، وصولا إلى تفريعاتها في الإرشادات:
- ضع خدك على الأنف والفم هل هناك أنفاس؟ قال المسعف عبر جهاز الطوارئ.
• لا أنفاس.. لا أنفاس.
- ضع أذنك على القلب أهناك نبض؟
• يوجد نبض.. يوجد نبض
نعم. يوجد نبض، ولكنه قليل وخفيف.
- اشبك كفيك، واضغط على الصدر ثلاثين مرة.
......
- لم أسمعك وأنت تعد.
• انتهيت من الثلاثين.
- حسنا حاول مرة ثانية وبصوت عال.
• مرة ثانية! فهمت عليك، أسمع صوت الإسعاف، وصلت.
لحظات معدودات في محاولة المسعفين بحقنة الأدرنالين لزيادة سرعة القلب وقوة انقباضه، وصارت أمّة التسعين مسجاة على السرير الطبي في بيتها السويدي. غطاها ابنها بسجادة علم الاستقلال والثورة الذي نسجته بيديها، وحلمت بالصلاة عليه في مطار دمشق، وصار فوق نعشها بعد ثلاثة عشر عاما من التهجير. وقفت المسعفة والمسعف السويديان بصمت أمامها، وقدما التحية بالانحناء. وأديا التحية ثانية رفقة ابنها بعدما ودعت بيتها محمولة بالنقالة على أيديهم، وقبل إغلاق البابين الخلفيين للإسعاف.
*** ***
في المغسل فاحت الأنفاس مسكا وكافورا، وانهمرت الميات من أعين العاملات المهجرات العربيات في مكتب الدفن دموعا كريمات ونبيلات. وفي البياض الطري فك ولدها الرباط عند الرأس، وشع وجه أمه مريم كما لو أنها قبل منتصف عمرها! وكأنه السر الذي ما باحت به مغسّلة وهي تنشج وتحمد وتبارك، واكتفت بالإشارة بعد التسبيح: "شفنا شيئا ما شفناه بحياتنا"! وبينما انشغل ابنا خاله المهجران القادمان من النمسا وألمانيا بتلاوة الآيات، سندها بيديه متأملا وجهها وتعابيره، وبادلها الابتسامة في حوار طويل. أيقظتهما حبابته زهرة وهي تقول لهما منذ ستين عاما: "ما تتعبون من اللعب كل اليوم مثل صغار الغزالة"!
قال الشاعر: فلنعجل بإكرام الغزالة إلى بريّتها. وبعد إغلاق الصندوق غطاها بالعلم الوطني والاستقلال والثورة والشهداء. قال المسؤول: عندنا في مكتب الدفن آيات على قماش، ولا نضع شيئا فوقها. هذا علمها سجادة نسج يديها، وهي حجة هجرت من بلادها بغير وجه حق، قال الشاعر. سحب المسؤول المهجر الفلسطيني قماشة المكتب، وقال: وضع الآيات في مقدمة السيارة منظر غير مألوف في هذه البلاد. نظر ابن الخياطة إلى المقاسات وقال: للحجة قماشة الآيات، ولها مطاطتان من الجانبين كما تفعلون، فلنسحب المساحة الخلفية قليلا، فتزيد المساحة الأمامية مع قسم من القماشة غير مكتوب عليه، وهكذا صار بالإمكان وضع هويتها في المقدمة.
*** ***
في دمشق ربيع 2012 رن هاتفه من البيت وهو في وظيفته في الإذاعة ليلا، أخبروه بأن شوارع الحي غصت بالعسكر وأسلحتهم. وعلى عجل طلب من المرآب توصيلة طارئة، ومن منحدر حي بستان الرز، إلى مفرق فرعي لحي زور آفا حيث بيته مع الأهالي عربا وأكرادا في مناطق العشوائيات، تكدست كتائب النظام الهائجة. تسمّر السائق على صرخة وشتم وتلقيم بارودة، صاح من غلاوة الروح: إذاعة. وهذا بيت الأستاذ. آمرا أشار المموه بسبابته: انضب ببيتك، وأنت انقلع فورا. في البيت جلست أمه وولداه وأمهما القرفصاء على جانبي السرير. ابتسم وقال: أبقوا في مكانكم لأحضر لكم العشاء، ضغط مفتاح كونترول التلفزيون المقابل لهم بصوت خفيض، وسريعا أعد لهم ما تيسر من لقيمات وشاي، أمتار قليلة بين المطبخ والغرفة بدت مساحة باحة الدار بينهما كما لو أنها مسافات في أرض المجهول، ما إن وصل باب الغرفة حتى علت أصوات وحوش مزمجرة بهتافات باسم الطاغية، أعقبتها رشات من الرصاص الكثيف على أسلاك الكهرباء والمنازل. تجاهل ميّات الشاي الحارقة على يده اليسرى، ومشى مسترشدا بذاكرة اللمس المرتجفة واهتدى بها إلى شمعة صغيرة ذبالتها، تراقصت خيالاتها فوق السرير على الكاسات والصحون الزجاجية.
أمه المحبة للسفر والرحلات وشم الهواء، لوثوا أنفاسها بالبارود، وعكروا مياتها باستدعاء جنين قلبها إلى الأفرع الأمنية مرات، ومرات في نزوحها بعد استهداف بيتها وفراتها، أمه التي خبرت تقلبات الحياة نحو ثمانين عاما وصلتها مكاتيب التهجير مقروءة من عناوينها. وفي الرحلة ساررته دائما: أذني وأذنك اثنتين. وضمت كفه وشدت عليها: في الحلوة والمرة، والحل والترحال: إلى المخفر نذهب معا، إلى المشفى معا. في العودة رجلي على رجلك. لا يفرقنا إلا الموت، أنفاسنا نتنفسها ومياتنا نشربها.
*** ***
على تلة خضراء بيتها، وبإطلالة على شرفات سهل ومرعى، وسوار الأفق غابات، وجارتها شجرة تظللها شاهقة الأنفاس ومكتنزة الأوراق.
بيتها الجديد كعلمها الأخضر وإن كان في أقصى البلدان شمالا، صبّرت النفس طويلا لعودتها إلى ديارها، كملايين المهجرين، ولّما صارت السبل ممكنة بعد فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الثاني 2024 تقطعت أنفاسها ومياتها صباح الجمعة 24 أبريل/ نيسان 2025 فهل ينقطع ذكر أنفاس كالناعورة الهوائية، وطيب ميات كناعورة الماء؟
في بستان المقبرة أثناء العودة إلى بيت الحجة بعد رحلة بين عالمين، لامست شغاف قلب الغريب تسمة:
- لعلها إلى طريق أجمل.
* صارت الآن أجمل.
#كمال_جمال_بك (هاشتاغ)
Kamal_Gamal_Beg#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟