أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - دائرة الأروبوروس















المزيد.....


دائرة الأروبوروس


فتحي مهذب

الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 12:12
المحور: الادب والفن
    


فتحي مهذب. تونس.

دائرة الأروبوروس .

كان الضباب ملتفّا حول البيت الفخم الوسيع منسابا بين أعمدة الشرفات متسللا عبر نوافذ الزجاج المعشّق.
النار ترتجف داخل الموقد الحجري، تهمس في الظلال، بينما وقفت "ر" وحدها في الغرفة الشرقية، الغرفة التي لا يدخلها أحد.
أمامها مرآة عظيمة، بياضها مشوب بلون العظام، مؤطرة بإطار خشبي مُنقوش عليه طلاسم قديمة. لكن الغريب ليس في صناعتها، بل في أنها — على خلاف سائر المرايا — لا تعكس شيئًا.

لم يكن وجه "ر" يظهر فيها، ولا القاعة خلفها. كانت الصفحة الزجاجية تلمع بصمت، كبركة ساكنة، لكن كل من يحدق فيها طويلاً، يشعر أن شيئاً ما ينظر إليه من الداخل.

قالت لها جدتها يوماً، وكانت ساحرة نبيلة متشبعة بأنساغ الحكم القديمة :
"هذه المرآة، يا "ر"، لا تعكس الجسد، بل تعكس النفس.
بدأت تلاحظ " ر" أولى خيوط الزمن تلتف حول عينيها كشبكة عنكبوت. ذلك الرعب البطيء الذي لا دواء له: الشَيخُوخة.
راحت تقترب من المرآة، وتفكر:
"هل يمكن لحقيقة النفس أن تكون أقل جزعا وفزعا من تجاعيد الوجه؟"

مدّت يدها نحو الزجاج البارد. لثانية، بدا لها أن الزجاج ارتجف تحت أصابعها، ثم سكن. وعلى غرة رأت شيئًا ، لم يك وجهها
بل ظلّ امرأة تقف مثلها، لكن عينيها غارقتان في سواد دون قاع، وثوبها يزرب منه الدم. لم تصرخ "ر" لم تتراجع. كان هناك شيء منها داخل ذلك الكيان.
دقّت الساعة الثانية عشرة. بينما المرآة بقيت صامتة، لكن دفقة من الهواء البارد تبجست منها كما لو أنها تنفست زمنًا.

-في تلك الليلة، كانت العاصفة تعوي وراء النوافذ، كأنها أرواح منفية تبحث عن مأوى. تساقطت مكعبات الثلج فوق الأسطح كطَرق أظافر طويلة على التوابيت. وكان البيت الفخم يستيقظ على خشخشة غامضة لا مصدر لها — الأبواب تغلق من تلقاء نفسها، الأرضيات تئن، والشموع تشتعل فجأة.
في الطابق العلوي، في الممر الطويل المفضي إلى غرفة المرآة، مشت "ر" بخطى بطيئة، يرافقها ظلّها مثل كائن متلعثم في مشيته. كانت ترتدي ثوباً من المخمل الأحمر، يلتف حول جسدها مثل طوق من لهب، تبدو وكأنها خارجة من لوحةٍ لرسام مهووس بالجمال الخارق.

الخادمة الجديدة، "م"، كانت تنتظرها في الغرفة. فتاة ريفية، لا تتجاوز السادسة عشرة، بعينين واسعتين كأنهما لم تريا الشر قط. كانت ترتجف أمام "ر"، لا تعرف ما سر استدعائها في ساعة متأخرة كهذه.

أدارت "ر "عينيها نحوها، بتلك النظرة التي لا تشبه نظرات البشر بل نظرة تشبه نصلا حادا إخترقت اللحم والعظم إلى مساتير الروح.
سألتها ببرود:
"هل تعرفين ما تعكسه المرآة؟"
أجابت "ما"بصوت خافت:
"إنها تعكس الوجوه سيدتي."
ابتسمت" ر" إبتسامة ملغزة لا تفرّق بين السخرية والرثاء.
ثم فجأة، صفعتها صفعة مروعة كان لها إيقاع طلقة طاءشة .
سقطت "ما" على الأرض مضرجة قسمات وجهها بقطرات دم دافئة.
رفعت "ر" يدها، نظرت إلى الدم كما ينظر الصياد إلى فريسته الأولى ثم طفقت تلعق الدم المتناثر على وجه الضحية.
في لحظة، رأت ما لم يكن ممكنًا: تجاعيد صغيرة على ظهر يدها، كان قد ظهرت منذ أسابيع، اختفت بكليتها .
كأن الزمن، تلك القوة الصامتة التي تأكلنا كل لحظة، قد ابتلع نفسه وتراجع خطوة إلى الوراء.
شعرت بحرارة تتسلل من الجلد إلى العظم، ثم إلى القلب، ثم إلى شيءٍ أبعد — كما لو أن هناك كائناً خفياً في جسدها، قد استيقظ فجأة.
في اليوم التالي، لم تكن" ما "في البيت الفخم.

انثالت الأسئلة انثيالا من قبل الخدم عن هروب" م" أو اختفائها.
أناخ القلق بكلكله على صدورهم.
لكن "ر" لم ترد إطلاقا بل ذهبت إلى المرآة، وقفت أمامها. لم ترَ وجهها. لم ترَ شيئاً.
ولأول مرة، شعرت أن المرآة تنتظر على جمر الغضا كأنها على طوى شديد.

تحت البيت الفخم، في أعماق لا تصل إليها الشمس كانت هناك دهاليز تنبض برائحة الحجر الرطب، وندوب التاريخ، وأسرار لم تعد تملك أسماء.
ثمة، في قاعة لا يعرفها أحد من الخدم،
حُفِر حوض حجريّ ضخم، كأنه قبر مفتوح، أو مذبح مهجور.
شقّت "ر" طريقها عبر الممر الحجري، حاملة شمعة واحدة بيدها البيضاء، تتراقص في ضوئها ظلالٌ ملتوية على الجدران. وصلت إلى القاعة دون أن تهمس. كانت تعرف الطريق كما تعرف تفاصيل وجهها.
لم يكن الحوض مجرد إناء. بل كان مصنوعًا من صخر أسود، يعح بشقوق دقيقة تشبه الأوردة. جدرانه الداخلية منقوشة بزخارف غريبة: عيون دون جفون، شفتان مزمومتان، وأجنحة محترقة.

في الزاوية، كانت تنتظرها امرأةٌ تُدعى "غ " قابلة عجوز من قرية بعيدة، وجهها كأنه مقدود من جلمود صخر . لم تكن تتكلم كثيرًا، بل تؤدي عملها بصمتٍ مريع، كأنها تعمل لإحياء طقسٍ موغل في القدامة.

وضعت "ر" يدها على الحافة ،خالعة ثوبها كما تخلع الأفعى جلدها.
جسدها، رغم نظافته، بدا كأن شيئًا غير مرئي يكسو إطاره الهندسي. تقدّمت نحو الحوض، بينما كانت "غ" تقرأ تعاويذ غامضة بلغة مسمارية.
أنزلوا جسد فتاة شاحبة، عارية، مُقيدة اليدين، تتدلى كما لو كانت ضحية قربان قديم.
سكينٌ مقوسٌ. شقّ في العنق. الدم يسيل.

كانت "ر" تغمض عينيها بينما يتدفّق الدم في الحوض، ببطء أولاً، ثم كجدولٍ يحتضر.
ما إن أصبح الحوض ممتلئًا حتى نزلت فيه، ببطء، خطوة بعد خطوة، كمن يدخل رحمًا منسيًا.
شهقت، كأنها ابتلعت شيئًا غير مرئي.
الدم لزج، دافئ، أثقل من الماء، يلتف حولها كشرنقة. تغلغلت فيه حتى رقبتها، وأمالت رأسها للخلف. شعرها الأسود انساب كحبرٍ في الحوض، وعيناها مفتوحتان على اللاشيء.
لم تكن تصلي. لم تكن تتأمل. كانت تتحوّل.
مرت دقائق ثم نهضت.
خرجت من الحوض مثل كائن آخر. الجلد مشدود، ناعم، يتلألأ كأن تحته ضوء. العينان هادئتان ، باردتان، كمرآتين لا تعكسان شيئًا.
لم تقل كلمة. لم تلتفت إلى الجسد المسلوب الذي يُسحب بعيدًا.
في كل مرة تخرج من الدم، كانت أكثر صمتًا.
الصمت هنا ليس غياب الكلام. بل غياب الذات التي كانت تتكلم.

في غرفتها الخاصة، أمام المرآة، مباشرة بعد طقس الدم. جلست على الكرسي، شعرها ما زال مبتلاً. الشموع تحترق ببطء، والضوء ضبابي.
> "ليس دمًا... إنه زمن سائل.
هل يفهمون؟ هل يفهم أحد أن ما يسيل من تلك الأعناق ليس الحياة، بل الماضي؟ أن كل قطرة تُنتزع هي دقيقة أُعيد ترتيبها؟ إني لا أقتل، بل أُعيد الكتابة؟

إنّ الجمال ليس نعمة، بل ذريعة. من يراني يقول: يا لها من امرأة لا تشيخ. لكن لا أحد يتساءل: ما الذي دفعها لهذا الجحيم؟

لقد رأيت النساء في الحياة يذبلن، يختفين خلف التجاعيد، يتلاشين في عيون أزواجهن. المرأة حين تشيخ لا يُغفر لها. تُحاكم، لا بالصوت، بل بالنسيان.

أنا لن أنسى ،لن أُنسى.
حين يغطيني الدم، أشعر أنني أعود إلى رحم أكثر قدامة من رحم أمي. رحم الزمن، رحم الموت نفسه. شيء داخلي يُولد من جديد، لكنه ليس أنا تمامًا.
مرآتي لا تعكسني، لأنها لا تجد شيئًا ثابتًا لتعكسه. أحيانًا أرى وجهي، أحيانًا أراها — تلك التي ماتت لأبقى.
هل يمثلني أناها؟ هل ستأخذ مكاني؟
أم أنني أُصبحت مرآةً لضحاياي، وأنا لا أدري؟
لا يهم، الزمن عدو، وأنا اخترت أن أطعنه في قلبه.
هذا كل ما في الأمر.

البيت الفخم الوسيع، منذ تلك الليلة، أصبح جسدًا حيًّا يتنفس من الجدران. كان الهواء أثقل، كأن كل غرفة أصبحت رئة ممتلئة بهمسات لا تأتي من مكان.
"ر" كانت تنام في سريرها الملكي وحدها،
غارقة في وسائد مطرزة بالذهب والظلال. لكن النوم، الذي كان حليفها قبل الدم، أصبح خائنًا.
في البداية، ظنّت أن ما تسمعه هو صوت الريح — لكن الريح لا تهمس باسمها. "ر"
جاء الصوت من خلفها. لا من الباب. لا من النافذة. بل من داخل الغرفة نفسها، كما لو أن حناجر غير مرئية تهمس في أذنيها.
فتحت عينيها.
ثم اتسع حجم الصوت،
"نراكِ."
نهضت فجأة، حملت شمعة، نظرت حولها.
الستائر ساكنة. الأرض صامتة. لكن الهواء يرتجف مثل خطاف مكسور الجناح

وفي الليلة التالية، جاء صوتٌ آخر.
"لن يطالنا الهلاك"
ثبّتت الشمعدان، وتقدمت ببطء نحو المرآة. لا شيء. بياض معتم. الزجاج كأن عليه طبقة من البخار الميت.
لكن شيئًا تحرّك، لم يكن وجهها، بل وابلا من الوجوه.
وجوه متراصّة، متداخلة، شاحبة، تنظر نحوها من الداخل. عيون مفتوحة بلا رمش، شفاه تتحرك بدون صوت. كانت تشبه الأرواح التي غُسلت دماؤها في الحوض. لا تصرخ، لا تبكي، فقط... تنظر.
أرادت أن تصرخ. لم تستطع.
شعرت أن صوتها نفسه لم يعد لها.
فجأة، نطق الزجاج بصوتٍ لا يُسمع بل يُحسّ داخل الرأس:
"دمُنا لا يذوب."
ارتج جسدها. الدم الذي اغتسلت فيه، الذي ظنت أنه محا الزمن، لم يختفِ — بل تغيّر شكله. صار كلمات. صار ذاكرة.
الأصوات لم تكن مجرد هلاوس.
كانت أصوات الدم.
في اليوم التالي، طلبت من الخدم تغطية المرآة.
لكنهم وجدوا الزجاج قد بدأ يتشقق من الداخل.

لم يعد الصمت في البيت الفخم المتواسع صمتًا حقيقيًا. بل صار مثل جلد مشروخ، يتفلت منه شيء ما... كأن الصمت نفسه بدأ يئن. لم تكن "ر" تسمع أصواتًا، بل الأصوات كانت تسمعها. من خلف الجدران، من تحت الأرضيات، من الزوايا التي لا تضيئها الشموع، كانت هناك همسات لا تُترجم — أصوات لا تُشبه أي لسان معروف.

في البدء، ظنت أنها بقايا من ذاكرتها، خيالات مرّت في ليالٍ سابقة. لكنها كانت تستفيق في منتصف الليل، تسمع من المرآة جملة واحدة تتكرر:
"من نحن حين لا يرانا أحد؟"

تخرج من نومها كمن يسقط من منحدر، تفتح عينيها على ظلام لا يخص الغرفة. بل يخصها هي. بدأت الأثاثات تتحرك من تلقاء نفسها — لا بعنف، بل بشيء يشبه... التذكر.

"تذكّري يا " ر"... أنت وعدتِ"
صوت ناعم، أنثوي، لكنه ينتهي بنبرة معدنية كأن آلة تنطق بشفاه إنسان.

كل مرآة في البيت الفخم الوسيع — حتى تلك الصغيرة المثبتة على صناديق المجوهرات — صارت تظهر ظلًّا غير متجانس مع الواقع. ليس "ر"، بل نسخًا منها: امرأة تُضحك طفلًا، فتاة تهرب باتجاه الغابة، عجوز مفقوءة العينين. كانت ترى هذه الوجوه، ثم تَحوّل نظرها إلى داخلها، وتشعر أن الزمن بدأ يتحرك بداخلها، لا خارجها.

في إحدى الليالي، استيقظت على صرخة مكتومة. لم تكن من فم، بل من الجدران نفسها. تبعتها، خرجت من جناحها الخاص، وسارت في الممرات كما تسير في حلم غائم. توقفت عند باب خشبي لم تره من قبل، رغم معرفتها الدقيقة بكل زاوية في البيت الفخم الوسيع.
كان الباب يتنفس. نعم... يتنفس ببطء، كما لو أن وراءه قلبا ينبض.

فتحت الباب.كانت هناك غرفة بيضاء بالكامل. الجدران، الأرضية، حتى الهواء. في وسط الغرفة، كرسي واحد، وفوقه شيء مغطى بقماش أسود. اقتربت. مدّت يدها. رفعت القماش.

كانت هناك مرآة.
لكنها هذه المرة لم تكن صامتة.
لم تر شيئًا يشبهها.
شيء غامض عيناه مليئتان بالصراخ. لا صوت، بل صراخ متجمّد. الشيء الذي ظهر في المرآة فتح فمه، وبدلاً من الكلام خرج منها صدى:
"كل دمٍ هو ذكرى. كل وجهٍ تقتلينه، يظلّ في الداخل." ثم انشقّ الزجاج. ومن خلال الشقوق، خرجت أصوات لا عدد لها، كأن جميع النساء اللواتي ذبحن من أجل تجديد "ر" بدأن في الكلام دفعة واحدة. الصمت انكسر، لا بصرخة، بل بزمن جديد... زمن يتكلم.
لم يعد البيت الفخم الكبير كما كان.
لم يكن أحد يسمع "ر" تتحدث، لكنها كانت تسمع — لا أصوات الآخرين، بل أصواتًا تأتي من اللاشيء: همسات في أذنيها عند الفجر، كلمات غريبة تخرج من لهب الشموع، صرير لا يصدر عن الخشب، بل من داخل الجدران نفسها. وفي بعض الليالي، كانت تسمع صوتًا يشبه صوتها، يهمس باسمها من داخل المرآة.
أصبحت الأبواب تُفتح ببطء دون يد، ويهتزّ الزجاج في النوافذ رغم سكون الريح. وفي زوايا القصر المظلمة، كانت تشعر أن هناك عيونًا بلا وجوه تراقبها، تتغذى على صمتها.

المرايا بدأت تتكاثر. كل سطح زجاجي صار يعكس شيئًا مختلفًا: في أحد الأيام، رأت في مرآة غرفة الطعام صورة فتاة لم ترها من قبل، تنظر إليها بأسى ثم تذوب ببطء كما يذوب الجليد. وفي مرآة أخرى، رأت القصر غارقًا في الرماد، والنوافذ مفتوحة على فراغ يبتلع الضوء.

"ر" لم تكن خائفة. بل كانت تراقب، كأنها تنتظر شيئًا... أو كأن شيئًا فيها يستدعي ذلك الانشقاق. كانت تعرف أن ما تسمعه ليس جنونًا. الصوت كان يأتي من الداخل، لا الخارج. شيئًا ما انكسر فيها — أو انفتح.
بدأت تخاطب المرآة بصوتٍ عالٍ، تسألها أسئلة لا إجابة لها:
"من أنا الآن؟"
"من المتكلم؟"
"هل أنا التي أسمع، أم أن شيئًا يسمع من خلالي؟"
لم تكن تتلقى جوابًا بالكلمات، بل بأحلام. في كل ليلة، كانت ترى القصر من الأعلى، كأنها روحٌ تطوف، وترى نفسها نائمة، وحولها أشباح مبللة بالدم، تهمس لها بلغات ميتة. وفي الحلم الأخير، رأت الطفلة "ما" واقفة عند حافة الحوض الحجري، تنظر إليها بعين واحدة، والأخرى سوداء كالفجوة.
في الصباح، حين استيقظت "ر"، كانت يدها اليسرى ترتجف، وأذنها اليمنى تسمع طنينًا خفيفًا كصوت نحلة داخل جمجمة. في تلك اللحظة، فهمت أن الزمن لم يعد يسير في خط مستقيم. بل يدور حولها، يراها كفطرٍ غريب نما خارج المعنى.
أصبح البيت الكبير الفخم حيًّا. لا أحد يراه يتحرك، لكنه ينبض، يتنفس، يتذكر.
"ر" لم تعد تبحث عن الشباب، بل عن الصوت الأصلي — ذاك الذي يسبق الولادة والموت والمرآة.
ولما جلست أمام مرآتها تلك الليلة، لم ترَ شيئًا. لكنها سمعت همسة واضحة، قالت:
> "أنتِ الآن أكثر من جسد، أقل من روح. مرحبًا بكِ في ما بعد الزمن."

في الطابق العلوي من البيت الفخم الوسيع ، كانت هناك نافذة واحدة لا تُفتح.
لا أحد يعلم السبب، لكن "ر" كانت تشعر أنها تختلف عن باقي النوافذ. لم تكن مغطاة بالغبار، ولا يعشش حولها العنكبوت. ومع ذلك، لم يحاول أحد لمسها — وكأن شيئًا فيها يفرض الاحترام، أو الخوف، أو شيئًا لم يُسمَّ بعد.
في إحدى الليالي، حين كان القمر مشطورًا فوق الغابة، اقتربت "ر" من النافذة. لوهلة، ظنت أنها سترى الخارج: الأشجار، الطريق الترابي، وربما طيف فتاة تركض. لكنها لم ترَ شيئًا.
النافذة لم تكن تُظهر شيئًا على الإطلاق.
مجرد بياض كثيف، لا يشبه الضباب، ولا الغيم، بل فراغًا محضًا — كأن خلف الزجاج لا يوجد عالم. مدّت يدها لتلمس الزجاج... لم يكن هناك زجاج.
رأت أصابعها تدخل البياض، دون أن يختفِ أثرها، بل تُضاعَف كأنها تنسحب في مرايا متقابلة، إلى ما لا نهاية. حين سحبت يدها، كانت باردة، ومبتلّة، ومغطاة بنقوش صغيرة، كأنها لمست جلد كائن غائب.
منذ تلك الليلة، بدأت النافذة تهمس.
ليست نافذة، بل فما متحركا.
كانت تسمع منها صوتًا يروي:
> "هذا البيت ليس بيتًا. إنه استراحة للعابرين بين الأكوان. أنتِ يا ر وصلتِ متأخرة."
سألت الصوت:
"متأخرة عن ماذا؟"
فأجابها بعد صمتٍ ثقيل:
> "عن موتك الأول."
في الصباح التالي، رأت انعكاسها في المرآة وقد تغيّر. وجهها هو، لكنه قديم — كأن أحدًا استعاره وأعاده متهالكًا. كانت عيناها واسعتين، لكنهما خاليتان من الضوء.
كتبت في دفترها الوحيد جملة واحدة:

"أنا الآن على النافذة، لا داخل ولا خارج. إن فتحتها، قد أخرج من الزمن نهائيًّا."

منذ تلك الليلة، لم يعد للنهار معنى. الضوء لا يدخل القصر. وكل ساعة تمر، كانت تشعر أنها تختفي قليلاً. بدأت تسمع صوتًا آخر، صوتًا أقرب، صوتًا يشبه صوتها... لكنه لا يتكلم، بل يتنفس داخلها.
"ر" لم تعد تسير وحدها. كانت تشعر بأن ظلًا باردًا يسير خلفها أينما ذهبت. كلما التفتت، لا ترى شيئًا... لكن الأرض تحت قدميها كانت تنكمش، كأن شيئًا يهرب من الضوء معها.
كانت "ر" جالسة أمام النافذة التي لا تُفتح، والفراغ الأبيض خلفها يتكثف، ثم قالت بصوت هامس:
> "إذا كنت أنا الظل، فمن الذي يحبسني هنا؟"

لم تكن "ر" تنزل إلى الطابق السفلي أبدًا.
كان الباب المؤدي إليه مغلقًا بسلسلة حديدية قديمة، يكسوها الصدأ، ومفتاحه معلق في رقبة خادمة عجوز كانت تمشي دون أن تتكلم.

لكن في تلك الليلة، وجدت السلسلة مفككة. لا أحد فتحها. لا أحد يجرؤ. ومع ذلك، كانت السلالم المظلمة تبتلع الظل كأنها تتنفسه، تدعوها للنزول لاكتشاف ما نُسي عمدًا.
خطت أول خطوة، فسمعت صرير الزمن.
خطت الثانية، فتوقفت الأصوات في البيت الوسيع.
كلما نزلت درجة، تزايد البرد. ليس برودة الطقس، بل برودة أرواح لم تغادر.
حين وصلت إلى القاع، كانت الرطوبة لزجة، والهواء مشبعا برائحة صدئة — رائحة دم لم يجفّ بعد.
رأت الجدران مغطاة بأحرف قديمة، حروف حُفرت بأظافر. أسماء، تواريخ، كلمات غير مكتملة.
في الزاوية، كان هناك بئر صغيرة. ليست للماء، بل للصدى.
اقتربت، فرأت داخله ضوءًا أحمر، كأن قلبًا يُنَكَّس في سائل أسود.
همست "ر" بداخل البئر:
– "من كان هنا؟"
فجاءها الصوت:
> "أنا."
وسكت.
ثم:
> "وأنا."
> "وأنا."
تكرّر الصوت عشرات المرات.
كلهم "أنا"، ولا أحد يشرح.
نظرت إلى الجدار، فلاحظت شيئًا جديدًا: اسمها.
"ر" منقوش على الجدار، لكن تاريخًا غريبًا تحته:
"ماتت سنة 1892. اختفت سنة 2025."
في زاوية القبو، كان هناك كرسي مقلوب، فوقه فستان قديم مبلّل، وأسفله بقعة دمٍ متيبسة تشبه خريطة قارة منسية.
في تلك اللحظة، شعرت أن قدميها لم تعودا على الأرض.
كانت الأرضية تتحول إلى لحمٍ نابض، والجدران تتنفس، والضوء الأحمر يفيض من البئر ويصعد ببطء إلى عينيها.
وقبل أن تفقد الوعي، سمعت صوت "إدغار آلان بو" يهمس في أذنها، وكأنه هو من يسكن هذا القبو منذ قرن:
> "أنتِ الآن في الصفحة الأخيرة من قصتي.
لكن الحبر لم يسكب بعد.

كانت المرآة دائمًا مغطاة بقطعة قماش سوداء.
قالت لها الخادمة العجوز: "لا تنظري فيها أبدًا، فهي لا تعكسك، بل تستبدلك."
ضحكت "ر" في أول مرة سمعت ذلك.
لكن الضحكة اليوم كانت محنّطة في حلقها.

بعد تلك الليلة في الطابق السفلي، شعرت بشيء يتعقبها. ليس شخصًا، بل انعكاسًا لا يشبهها.
كل مرآة في القصر كانت تُظهرها وهي تبتسم حين تكون حزينة، وتبكي حين تكون صامتة.
إلا تلك المرآة الكبرى في الممر الطويل... كانت لا تعكس شيئًا على الإطلاق.
أزالت القماش.
فانفتحت عين.
لم تكن المرآة سطحًا بل بابًا.
وعينها في الداخل لا تشبه عينها. أوسع. أعمق. مملوءة بغضب عمره قرن.
مدّت يدها نحو الزجاج، فذاب كما يذوب الماء.
لكن يدها حين عبرت، لم تعد يدها. أصبحت أطول، شفافة قليلاً، كأنها تنتمي لعالم مختلف.
وفجأة، سُحبت بكاملها إلى الداخل.
في الداخل، لا يوجد ضوء.
فقط جدران من زجاج تُظهر كل لحظة عاشتها، وكل موت لم تمت به بعد.
ورأت نفسها — نسخًا لا تُعد — تُقتل، تُختفي، تُمحى.

كل نسخة تحمل شيئًا مختلفًا:
واحدة تلبس زيّ عام 1850.
أخرى بثوب زفاف مبلّل بالوحل.
ثالثة تمشي مقلوبة الرأس، ورابعة تصرخ بلا فم.
كانت المرآة سجلاً للحيوات الممكنة والمستحيلة، وحبسًا لانعكاسات قررت يومًا أن تتمرّد على أصحابها.
صوت " بو" يعود. دائمًا يعود.
> "عندما تكتبين الرعب، عليكِ أن تموتي فيه مرة على الأقل.
أنت الآن كاتبة، لكنك أيضًا مخطوطة."
صرخت "ر":
– "أخرجني! أنا لستُ إحدى قصصك!"
فأجابها الانعكاس:
> "أنتِ لستِ القارئة، بل الشخصية.
أنتِ حلمُ مرآةٍ لم تجد يومًا جسدًا تسكنه."
وفي اللحظة التي أمسكت فيها المرآة بانعكاسها الحقيقي...
انفجرت إلى ألف شظية.
وخرج من كل شظية وجه،
ومن كل وجه صرخة،
ومن كل صرخة صفحة جديدة
في كتاب الرعب الذي لم يُنته بعد.
في صباح باكر رمادي، طرق ساعي البريد بابها بثلاث نقرات بطي.
كانت الشمس مختبئة وراء طبقة من ضباب داكن، يشبه دخانًا خرج لتوه من رئة جثة.
فتحت "ر" الباب بحذر.
قال ساعي البريد بصوت رخيم بارد:
– "وصل طرد لكِ... لم يذكر فيه المرسل."
كان الصندوق طويلًا، أسود، ومربوطًا بحبل أحمر.
وفي الزاوية العليا من الطرد، وُضعت بطاقة صغيرة لا تحمل إلا كلمة واحدة: "افتحيني".
أدخلته إلى الداخل، ووضعته في وسط الغرفة.
لم يكن مغلقًا جيدًا.
حين لمسته، انزلق الغطاء ببطء... وكان بداخله تابوت حقيقي.
لكن الأغرب...
أنه كان فارغًا،
إلا من مرآة صغيرة ومظروف مختوم بالشمع الأسود.
فتحت المظروف، وجدت رسالة بخط مائل كُتبت بالدم:
> "هذا التابوت ليس لكِ فقط.
بل لكل من قرأ هذه الكلمات.
من دخل هذا الفصل، لن يخرج كما كان.
اجلسي فيه، لتكتبي آخر صفحة."
كانت المرآة الصغيرة موضوعة حيث يوضع الوجه في التابوت،
لكنها لم تعكس سوى صورة إدغار آلان بو.
كان يبتسم.
وكان يكتب.
وفجأة، تحرك التابوت.
لا من الداخل، بل من تحت الأرض.
كأن ما تحته... استيقظ.
صرخت "ر":
– "لستُ ميتة!"
فجاء الصوت من التابوت:
> "لكن الموتى لا يحتاجون إلى إذنٍ ليدخلوا كتابًا..."
وما إن أطبقت الغطاء، حتى اختفت "ر".
وظل التابوت وحده في منتصف الغرفة،
ينتظر... قارئًا جديدًا،
ليكتب فيه سطرًا آخر من الجنون..

كان المساء يقطر حبرًا.
سماء داكنة كصفحة لم يُكتب فيها شيء سوى توقيع الموت.
دخل المحقق "يو" الغرفة كمن يدخل ضريحًا.
شمّ رائحة كلمات محترقة،
وشاهد على الجدار جملة كُتبت كأنها حفرت بالأظافر:

> "أنا الآن داخل الجملة التي قتلتني."
كانت هناك مخطوطة. نصفها مضمخ بالحبر، والنصف الآخر يتغير كل لحظة.
تُعاد كتابته ذاتيًا.
جملة تظهر، ثم تختفي، ثم تعود:
> "أنا إدغار. ولست إدغار. أنا القارئ الذي كتب القاتل."

**فتح "يو" دفتر التحقيق. لكن قلمه رفض أن يكتب.
كان الحبر يهتز بداخله، كأنه يرتجف.
فهم عندها أن كل من كتب عن إدغار،
أصبح جزءًا منه. وأن إدغار، في الحقيقة، لم يمت. بل توزع في أقلام الآخرين.
في زاوية الغرفة، وُجد كرسي فارغ.
وعلى الكرسي، ورقة بيضاء كُتب عليها بخط "ر":
> "لقد فنيت في الكتابة، والكتابة فنيت فيّ.
أنا الآن قصة. وأنا الآن مقتولة بالحبر."

في تلك الليلة، لم يكن للقمر وجه.
كان مرآة مكسورة، تنزف ضوءًا متقطعًا على المدينة النائمة.
"يو" كان يتنفس بصعوبة.
منذ أن قرأ الجملة الأخيرة في المخطوطة،
شعر بأن هناك جسدًا ما يكتب داخله، صوتًا غريبًا ينمو بين عظامه ويضحك من الداخل.

فتح نافذة الغرفة التي كانت تخصّ "ر"،
فدخلت رائحة قديمة كأنها أتت من قرنٍ سابق.
ثم ظهر إدغار. لم يدخل من الباب. لم ينبثق من الجدار. بل تشكل من ظلٍ مضمخ بالحبر،
قام، تمدد، وتنفس.
كان يرتدي معطفًا أسود قديمًا تفوح منه رائحة الرطوبة والموت.
كأن عينيه كتبتا كل القصائد المنسية.
وجهه نصفه ورق، ونصفه رماد.
قال دون أن يحرّك فمه:
> "أنا لست شبحًا. أنا الحبر الذي كَتبك.
وكل ما تحياه، هو فصل مفقود من دفتر موتي."
ارتجف "يو"، لكنه لم يهرب.
قال: – لماذا أنا؟
– لماذا أكتبك؟
– لماذا تلاحقني؟
فردّ إدغار، بصوت يشبه وقع الأقدام في المقابر:
> "لأنك الوحيد الذي فتح الكتاب من الجهة الخطأ."
> "كل الكتّاب يبحثون عن النهاية…
لكنك قرأت الجملة التي تبدأ من الموت."
ثم اقترب إدغار. لم يلمس "يو"، لكنه دخل فيه.
حلّ فيه كما يحلّ الحبر في الورقة.
في اللحظة نفسها، تحولت عينا "يو" إلى حبرٍ سائل،
وقلبه إلى ساعة ميّتة تدق في زمن غير موجود.
في الخارج،
كانت المدينة نائمة، لكن نوافذها بدأت تُفتح…
وكل من يطلّ منها،
يرى وجه إدغار في مرآته الخاصة.



#فتحي_مهذب (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقاربات هايكوية
- الغيوم ترمي شباكها في الجو
- إلى أطفال غزة
- أطفال غزة
- إلى ملكة
- قراءة الشاعر منصف المزغني
- معركة الروبوتات الكبرى
- دم الفلسطيني أقحوانات ومصابيح
- لماذا حليبك أسود أيتها الحرب
- ما وراء المحدود في نصوص الشاعر فتحي مهذب
- الثلاجة رقم 9
- شذرات من كتاب الشمس
- المجد لتفاحة صوتك الأزرق
- رباعيات
- سكان روحي
- عذابات فان غوغ
- النظر إلى العالم بعين ثالثة
- روائح مزعجة
- البستاني
- بعد الستين


المزيد.....




- اكتشاف أثري تحت الركام.. ما مصير القرى الأثرية بعد سقوط نظام ...
- -القسطنطينية- يفتتح الدورة السابعة لمهرجان -بايلوت- الروسي ( ...
- بيان رسمي بعد نزاع بين ملحن مصري وحسين الجسمي
- من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم ...
- مايك تايسون يتلقى عرضا مغريا للعودة إلى الحلبة ومواجهة أحد أ ...
- من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم ...
- فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه ...
- الكتابة في زمن الحرب.. هكذا يقاوم مبدعو غزة الموت والجوع
- أداة غوغل الجديدة للذكاء الاصطناعي: هل تهدد مستقبل المهن الإ ...
- نغوغي وا ثيونغو.. أديب أفريقيا الذي خلع الحداثة الاستعمارية ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فتحي مهذب - دائرة الأروبوروس