أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - عقد في جَوْفِ الجحيم البيروقراطي والدهاليز الورقية المتعفنة














المزيد.....

عقد في جَوْفِ الجحيم البيروقراطي والدهاليز الورقية المتعفنة


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 09:37
المحور: الادب والفن
    


بعد أنْ قضيتُ عَقْدًا زمنيّاً في هذا المَكَان المُوحِش المُسَمَّى "الدائرة الحكومية الفلانية"، حيثُ كان العقدُ الواحدُ يُعادِلُ ألفَ سَنةٍ بِحِساب الزمنِ الإنساني، لِشِدَّةِ بُؤسِ المَكَانِ وحَقارةِ سُكّانه... ؛ كان الجميعُ هُناكَ أشبَهَ بِأشباحٍ تائهةٍ في جحيمِ دانتي، حتَّى أفضَلُهُم كانَ كحارِسٍ لِعالمِ العذابِ، يَحمِلُ سِجلّاتِهِ المُتعفِّنةَ وقَسوتَهُ المُمَنهَجةَ كَسِلسلةٍ لا تنتهي... ؛ نعم هنا يَتَسَاقَطُ الوَقتُ كَرَمَادٍ مِن سَاعَةٍ مَكسورَة، لِأَنَّ السَّنَواتِ العَشرَ هُنا تَزْحَفُ كَأَلْفِ عَامٍ تَعْصُرُهُم أَشْبَاحُ الرُّوتِين… ؛ فَكُلُّ شَيءٍ يَتَنَفَّسُ بُؤساً: الجُدرَانُ تَبْكِي طِيناً أَسْوَد، الزُّملَاءُ يَتَحَرَّكُونَ كَدمَى مَشْدودَةٍ بِخُيُوطِ الحَقَارَة والنذالة ، حَتَّى أَرْقَى الموظفين يَبدو كَحَاجب للمدير العام ينقل اليه الاخبار كما تفعل الجواسيس ، و يَرْصُدُ أَحْلامَ الغَيرِ وَيَدُقُّهَا بِمِطْرَقَةِ الفَرَاغ... , ويَجلِدُ الوَقتَ بِسِياطِ الأوراقِ المُتعفِّنة... , و كُلُّ مَن هُنا يَتَشبَّثُ بِوهمِ السُّلطةِ والنفوذ ... ؛ كُنتُ أَسْحَبُ أَيَّامِي كَسَائِحٍ فِي صَحْرَاءِ المَلَل، حَيثُ اللَّحَظَةُ تَتَحَوَّلُ إلَى جَبَل، وَالسَّاعَةُ إلَى قَبْر... ؛ وأمشي كالمجنون الذي يَرصُدُ دَرَجاتِ انِهيارِ السَّاعةِ والعقل والقيم ، فَاليَومُ هُنا أبطَأُ مِن صُراخِ حَجَرٍ يَغوصُ في وَحلِ الأبديّة ؛ حيث كانت الأيامُ تَزحفُ بِثِقلٍ يُذكِّرُ بِسَاعاتِ الإعدامِ البطيء، أو كَأيّامِ الجُوعِ القاسي الذي يَلتَهِمُ الأحشاءَ قَبلَ العِظام... ؛ حتّى أذِنَ القَدَرُ أخيراً بانفِكاكي مِن هذا القَبْوِ المَسحور والمسكون بالأرواح الشريرة والتائهة معا ... , وَاتَتْ لَحْظَةُ الخَلَاصِ كَصَدْمَةٍ مُبَاغِتَة، فَأَدْرَكْتُ أَنَّ السَّاعَةَ قَدْ تَوَقَّفَتْ ... ، فَرفَعتُ رَأسي مُحاوِلاً أنْ أُلقيَ نَظرةً وَداعيّةً عَلَى أرجاءِ المَكَانِ الكَئيبة... ؛ فَإِذا بِي أُديرُ بَصَري مُجبراً عَلَى تَتبُّعِ الجُدرانِ المُتشقِّقةِ التي تَئِنُّ كَأشلاءٍ حَيّة، وأَعودُ بِالنَّظَرِ مَرَّاتٍ كَأنَّني أَبحثُ عَن شَيءٍ ضائعٍ في لَيلٍ مُظلِم، حتَّى عادَ البَصَرُ إلَيَّ وَهُوَ حسير و يُنْذِرُ بِالإعْياء.
ضَغَطتُ عَلَى ذاكرتي كَمنْ يَعصِرُ صَخرةً لِيُخرِجَ ماءً، راجِياً لَمسةً مِن نورٍ تُذكِّرني بِجَمالٍ مَا في هَذا العالَمِ البائس... ؛ وحَفَرْتُ فِي أَعْمَاقِ ذِكْرَيَاتِي كَمُتَسَوِّلٍ يَبْحَثُ عَنْ لُقْمَةِ ضَوءٍ بَينَ النِّفَايَات ؛ لَكِنْ لَم تُجِبْني الذّاكرةُ إلّا بِأمْرَين : الأوَّلُ كِتابٌ صَغيرٌ كُنتُ أَخبئُهُ بَينَ أوراقِ المَلفّاتِ، أقرَأُهُ خِلسةً كَمنْ يَتَنفَّسُ سَرّاً في قَلبِ المُستنقَع الاسن بكل القاذورات العنصرية والمناطقية والحزبية ... ؛ والامر الثّاني شَخصانِ... ؛ نَادرانِ كَالنَّجمَةِ المضيئة في لَيلِ الصَّحراءِ البهيم ، ملئا هَذا الجَحيمَ بِكَرَمِ الأَنبياءِ وَلُطفِ الأَطْفالِ، حامِلَينِ مِهَنِيَّتَهُما كَشُعلةٍ في يَدَيْ مُقاوِمٍ... ؛ فقد كانا يُذكِّرانني أَنَّ الإنسانيَّةَ لَم تَمُتْ بَعدُ، وأَنَّ الرُّوحَ العراقية الخالدة قادرةٌ أَن تَتنفَّسَ حتّى تَحتَ أَثقالِ البيروقراطيّةِ الخانِقة... ؛ فقد حَمَلا مِرارَةَ الجَحيمِ بِكَرَمٍ يَشُقُّ السَّماءَ وصبر تعجز عنه الجبال الرواسي ، فَكُنتُ أَراهُما كَجَناحَينِ يَحمِلانِ رُوحي بَينَ زَفراتِ المرضى المصابين بداء التدرن … ؛ أَشهَدُ أَنَّهُما مَسَحا عَن عَينيَّ غُبارَ اليَأسِ، وَوَضَعا قِناعاً مِن أَمَلٍ عَلَى وَجهِ العَمَلِ المَيت وبيئة الامراض المعدية وحاضنة العقد المستعصية ... .
اليومَ، بَعدَ أَن رَأيتُ أَحَدَهُما يَغُوصُ في تُرابِ المَنونِ ؛ اذ صارَ جُثّةً تَحتَ تُرابِ الزَّمنِ القاسي ؛ بعد ان كان كالكوكب الدري الذي ينير لي ممرات ودهاليز الدائرة ... ؛ قَرَأتُ الفاتِحَةَ كَخَيطِ نُورٍ آخِرَ يَربِطُني بِذِكراه ؛ ثُمَّ دَعَوتُ لِلآخَرِ الذي لا زال قابعا في المكان بِأَلّا تَبتَلِعَهُ أَرْضُ البيروقراطيّة والرشوة ؛ وبالفكاك من هذا السجن الذي يقبض نفوس الاحرار كما يقبض عزرائيل ارواح العالمين ... ؛ ثم هَرَبتُ مِنَ المَكَانِ كَهاربٍ مِن سَرابٍ يَلتَهِمُ الأرواح... ؛ لَم ألتفتْ... ؛ لَم أُحاولْ حتّى تَوديعَ الجُدرانِ... ؛ فَكَيفَ أُودِّعُ شَيئاً لَم يَكُنْ لي قَط؟
لَم أُفكر بنظرة وداع اخيرة لِهَذَا العَالَمِ المُنْتِفِخِ بِالكَرَاهِيَة والحسد والتنافس على اتفه الامور ... ، فَكُلُّ شَيءٍ هُنا يَستَحِقُّ النِّسيان ؛ الا ان الذَّاكِرَةَ رَفَضَتْ أَنْ تَمْسَحَ عَنْ عَيْنَيَّ غُبَارَ القُبْح ... ؛ ثم خَرَجتُ إلَى الشّارعِ العامِّ أعدو بِلا وَجْهةٍ، كَأنَّني أَفِرُّ مِن مَوجةِ طَوفانٍ أَو قَطيعِ ذِئابٍ تَنهشُ ظِلالَ الماضي...؛ نعم خَرَجْتُ إلَى الشَّارِعِ أَرْكُضُ كَمَنْ يَجُرُّ خَلْفَهُ أَشْلَاءَ عَقْدٍ مَيِّت، وَأَسْمَعُ صَخَبَ الضِّبَاعِ تُنَادِي بِاسْمِي مِنْ خِلَالِ شَبَابِيكَ المَكْتَبِ المُغَبَّرَة ... ؛ ولَمْ أُوَلِّ وِجْهِي لِلْوَرَاء، فَالوَرَاءُ هُنا لَيْسَ إلَّا كُتلةً مِنَ الظِّلالِ تَبْكِي نَفْسَهَا ... ؛ أَركُضُ كَهارِبٍ مِن وَهمٍ يَلحَسُ أَطرافَ الوُجود، أَتخيّلُ أَنَّ أَصواتَ الزّملاءِ تَنهشُ ظَهري كَضِباعٍ تَتَنادى بِأَسماءِ المَلفّاتِ والمعاملات ... ؛ نعم رَكَضْتُ نَحوَ الشَّارِعِ العَامِّ أَحْمِلُ رُوحي عَلَى كَفَّيَّ، كَأَنَّنِي أَهْرُبُ مِنْ كَائِنٍ فُضَائحِيٍّ هجين يَلْتَهِمُ أَصْوَاتَ المَاضِي وَيَبْصُقُهَا سِرَاباً وفيروسا ونارا ... .



#رياض_سعد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحريات المنفلتة والتدخلات الخارجية : تحديات المرحلة الانتقا ...
- حَفْريَّاتُ الوَهْمِ في صَحْراءِ الوَعْي المُعَلَّب: سُريالي ...
- اعداد ضحايا الارهاب والعمليات العسكرية بين المبالغة والتضليل
- طفولة تحت الأنقاض.. جراح الطفولة تُلقي بظلالها على مراحل الع ...
- تحليل ظاهرة -الزَّعْل- في المجتمع العراقي: جذورها، تجلياتها، ...
- لقاء العيون في زمن متشظٍّ : سردية سريالية للالتقاء العابر وا ...
- التنكر للطائفية : إشكالية الإنكار وتضليل الممارسات الطائفية
- الأصدقاء: عائلة الروح ومرآة الذات
- الابتسامة المزيَّفة: قناعٌ من ذهب وحقدٌ من نار
- التشويه الديموغرافي وصراع الهوية: جرائم الاحتلال العثماني وا ...
- النزاعات العائلية والعشائرية في العراق: جذور التمزق الاجتماع ...
- العراق العلوي يدفع الجزية للحكومة الاموية في سوريا ؟!
- العراق وتنازلات السياسة الخارجية... بين الواقع والمأمول
- التعاون مع الإرهاب لمُكافحة الإرهاب : مُناقضة عَقَليّة أم خِ ...
- السياسة بين فن الممكن وواجب الدفاع عن الأرض: خور عبد الله ال ...
- التيه القيادي: أزمة الهوية والتبعية في الواقع الشيعي العراقي
- مليشيا حرس نينوى والتآمر التركي القديم المتجدد
- ظاهرة الجُعْصُ : حين تتحوَّلُ السجونُ من مراكزَ إصلاحٍ إلى و ...
- سوريا : من الربيع المزيف إلى مملكة الإرهاب
- متى تتعلم ( دونية ) الاغلبية العراقية من تجربة الدرزي قاسم ا ...


المزيد.....




- فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه ...
- الكتابة في زمن الحرب.. هكذا يقاوم مبدعو غزة الموت والجوع
- أداة غوغل الجديدة للذكاء الاصطناعي: هل تهدد مستقبل المهن الإ ...
- نغوغي وا ثيونغو.. أديب أفريقيا الذي خلع الحداثة الاستعمارية ...
- وجبة من الطعام على الرصيف تكسر البروتوكول.. وزير الثقافة الس ...
- بنعبد الله يعزي أسرة الفقيدة الممثلة المغربية نعيمة بوحمالة ...
- فيلم رعب في السينما يتحول إلى واقع (فيديو)
- جوان رولينغ توافق على الممثلين الرئيسيين لمسلسل -هاري بوتر- ...
- هتتذاع النهاردة مترجمة؟ موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 193 عبر ...
- وفاة الكاتب الكيني المشهور نغوغي وا تيونغو عن 87 عاما


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - عقد في جَوْفِ الجحيم البيروقراطي والدهاليز الورقية المتعفنة