أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كشكولي - فارس الروح















المزيد.....

فارس الروح


حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)


الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 23:55
المحور: الادب والفن
    


في كل مرة تتحضر فيها للخروج من غرفة العم أحمد، يجتاحها شعور غريب لا يمكن وصفه بدقة. يمد يده برفق ليحتضن يدها الراجفة، تلمع عيناه بدمعة خافتة تعكس ألمًا دفينًا، وتجتاحها تلك النظرة المليئة بحزن عميق. كأن عينيه تحاولان، بكل استماتة، تخزين صورة أخيرة لها، في مشهد يشبه لوحة قديمة تلاشت ألوانها وسط زحام الأيام. وكعادتها التي أصبحت جزءًا من يومها، تمضي في الطريق الممتد بين برج النور ودار رعاية المسنين في واحة الأمل لزيارته، رحلة باتت جزءًا لا يتجزأ من حياتها، فصل دائم التكرار بلا نهاية. ومع كل خطوة تقربها من غرفته، يطوقها شعور بالغموض والوجل، وكأن كائنًا مخيفًا يزحف داخل جسدها. تهمس لنفسها: هل ستكون اليوم قادرة على أن تجد نفسها في انعكاس عيني العم أحمد؟ أم أن اللقاء سيظل فراغًا شاحبًا ينتظر أن يُشبَع بشيء مفقود؟

في هذا المكان الذي يبدو وكأن الزمن قد تجمّد داخله، تتقدم نحو الرجل الذي كان يومًا كناية عن الصلابة والإرادة. وجهه يحمل نقوش السنين وآثار معارك كثيرة لا يسهل قراءتها بسهولة. تسأل نفسها بصمت: هل تبقى في كيانه ذلك اللهب الذي كان يومًا يحترق بقوة، أم أن رماده يوشك على أن يخبو تمامًا تحت وطأة ما مضى؟

بصوت مغمور بشيء من الرجفة والخجل، قالت: السلام عليك يا عمي أحمد. دار ببطء شديد نحو الصوت، وعينه الوحيدة المتبقية ركزت بتمعن عليها. صمت المكان فجأة وصار الزمن نفسه يمتد بلا نهاية في تلك اللحظة الثقيلة. نظراته التي بدت وكأنها تتغلغل داخل أعماقها كانت مليئة بتساؤلات حبيسة وصمت يعج بغموض مربك، أشبه بجسر معلق بين واقعين مجهولين. خفقت نبضاتها سريعًا وهي تتساءل إن كان يتذكرها بعد كل هذا الوقت. تلك العين التي كانت يومًا مشرقة بالحياة بدت الآن باهتة وكأن الغبار طمس بريقها، مثل نافذة أصابها الضباب ذات ليلة شتوية قاسية.

وفجأة، مثل لمعة برق في عمق الظلام، أضاءت شرارة بعيدة في عينيه، وكأنها انفتاح لذكرى دفينة تأبى أن تُنسى. بصوت يختلط بين الدهشة والحزن قال: من أنتِ؟ هل حقًا أتيت الآن؟ بعد كل هذا البعد؟ كانت كلماته تخترق الصمت المحيط كأصداء تمس وتر قلبها بعنف غير متوقع وكأن صوته قد انتشل هما ثقيلًا كان يجثم على أرواحهما. عيناه تلتمعان بشيء من الارتباك والتوق لاستيعاب اللحظة، وكأن حاجز الذكرى بدأ بالانكسار ببطء. ثم وفي لهجة شارفت على الانهيار همس: ليلى؟ أنتِ هنا... حقًا؟

بهدوء ملأ لحظتهما بصمت حميم، أمسكت بيده المرتجفة، تسيران معًا بخطى وئيدة نحو الحديقة التي تحتضن دار المسنين بأشجارها وأزهارها الصامتة. عيناه بدتا كنافذتين تفتحان على فراغ عميق لا قرار له، كقاع بئر جف ماؤها، ولكنه لم يخسر صدى الحكايات القديمة. تلمست أصابعه، المرتجفة بفعل الزمن، غلاف كتابٍ مفتوح في حجره، كما لو كان يسعى لاستكشاف العالم من حوله من جديد، عبر أطرافه المتعبة. وما إن لامست أصابعه الكلمات حتى ارتسمت على شفتيه رعشة ابتسامة خاطفة، تبعتها همسة واهنة تسللت من بين ثنايا الزمن وقال: "أمي... كانت تحكي لي قصصًا... كلما استطاعت ذلك... كانت الحكايات عالمنا الخاص". هذه العبارة كسرت الصمت الذي يحيط بهما، مثل أمطار ناعمة تفاجئ أرضًا جافة، لتكشف نبضًا من الحزن المكبوت وسراديب الذكريات التي لم تُنسَ أبدًا.

كان صوته المرتجف يبدو وكأنه صفحة متعبة تتركها رياح الخريف في مهبها، يقول بغصة واضحة: "لماذا رحلتِ؟ لماذا تركتني وحيدًا؟ لم نكمل الحكاية بعد... بطلها لم يجد الشمس أبداً... ربما ما زال يبحث عنها". نظراته تتنقل بين أركان غرفته البسيطة التي تثقلها تفاصيل حياته الغنية: كُتب متناثرة، أوراق تحمل خطوطًا متشابكة كأنها مجرى أنهار أفكاره المتمردة. كانت الغرفة صندوقًا لشغفه الدائم بالسؤال والبحث عن الحقيقة بعقل حُر وقلب لا يأبه للعواصف. لقد كان رجلًا رفض المساومة على قيمه، يقف بوجه الزيف وينطق بالحقيقة دون خوف، يحمل مبادئه كأوسمة قديمة يفتخر بها دون ادعاء.

كانت نظراته العميقة تمتلئ بمعانٍ تشبه النجوم التي تتوهج في سماء مظلمة، محتفظة بأسرارها ودروسها. أدرك الحياة على أنها لحظة واحدة فاصلة، تُختصر في صراعه المستمر ضد الجهل والخرافات وكل أشكال الزيف. أمسكت بالكتب التي كتبها من على رف الغرفة، وعرضتها أمامه. اختار أحدها بعناية، وكان بعنوان "أبطالي الخالدون". بيدين متردّدتين، قلب الكتاب ليقرأ ما كُتب على الغلاف الخلفي: "هذا الكتاب يروي وقائع بدأت قبل خمسين عامًا في مدينة القمر المغمورة بالدماء، وكذلك في المدن الشرقية التي شهدت أوجاعًا لا تنسى. ما زالت تلك المآسي تُلقي بظلالها حتى يومنا. تقع علينا مسؤولية أخلاقية تجاه المظلومين. يجب أن نسخر إمكانياتنا بكل إخلاص، ونبذل جهدنا لتعزيز قيم الحرية والكرامة لشعب طالما كابد لعنات السيوف والخرافات وأفكارًا خالية من المنطق عبر العصور. هدفنا الأعظم هو فتح الطريق نحو بناء نظام شعبي ينبض بالحياة ويقوم على أسس العدالة".

امتد النص ليحكي عن شجاعة وصمود "فارس الروح"، أحد أبطال الحكاية الذي لقي حتفه في مدينة القمر. لم تستطع نسيان أحاديثه السابقة حين كان يبوح لها برغبته المُلِحّة أن تأخذه يومًا ما إلى المطار ليعود إلى مسقط رأسه، مدينة القمر. كانت تلك الأمنية تسكن قلبه، تنبع من أعماق شوقه ورغبته الخالصة. ومع ذلك، كان دائمًا يثير في داخلها تساؤلًا عميقًا: هل كان بإمكانه العودة إلى دياره يومًا؟ أم أن كل ما طمح إليه مجرد أحلام متوارية بين طيات خياله؟

الآن، وقد أصبح يعيش محاطًا بذكرياته وقصصه فقط، لم يتبقَ له سوى صور طفولته التي تتراقص أمام عينيه كلما أغمضهما. على وجهه الشاحب ترتسم آثار الزمن، حاملة معها ثقل معاناة السنين التي مضت. في شبابه حين كان مليئًا بالطموح ورؤية واضحة، خاض بحماس معارك مصيرية من أجل حرية المحرومين، وشارك في صنع صفحة من تاريخه بحزم وشجاعة. لكن تلك المواجهة غير المتكافئة مع جبروت الطغيان تركت أثرًا عميقًا عندما انتزع ظلمهم واحدة من عينيه، لتغير تلك اللحظة مسار حياته للأبد.

كان دائمًا ممزقًا بين كراهية الظلم والسعي الحثيث نحو حقيقة مفقودة، حقيقة بدت ككنز غارق وسط أمواج الخداع وجشع المستبدين. أما الآن، فهو يجلس في صمت، عيناه معلقتان بنقطة بعيدة لا تُرى، ويداه الواهنتان تمسكان بغلاف كتاب واهن الحواف. وحدها الذكريات هي التي تتحرك بحرية في ذهنه المعذب، تلوح له كموجة تتمايل في بحر من الماضي، حيث لا قيود ولا خوف.

ما جعل العم أحمد فريدًا لم يكن فقط تركيب العين الاصطناعية التي احتلت مكان عينه اليسرى، بل تلك الشرارة التي لم تفارق نظرته المنبعثة من عينه اليمنى. كانت نظراته تحكي بعمق قصص أجيال كاملة مرت بكفاحها وأحلامها. وبرغم كل التحديات القاسية التي مر بها على امتداد سنوات عمره، بقيت عينيه ثابتتين على هدفه الأبدي: البحث عن الحقيقة. أما تلك القصص المخزونة في زوايا ذاكرته المتعبة، فقد كانت شهادة حية على نضال روحه. نار لا تنطفئ وحب كبير يستمر في توهج داخله بلا توقف.
كانت حياة العم أحمد أشبه بنهر متدفق، حمله من بين أحضان مدينة القمر الهادئة إلى صخب مدينة الأنوار، ثم إلى أراضي الأحلام حيث تتحقق الأمنيات، وانتهى به المطاف على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، في جزيرة السلام. كان كاتبًا ينضح قلمه بألم الإنسان وأمانيه، يخط أحرفه بعناية وكأنها نبض الحياة نفسها. ورغم معرفته العميقة—كما نعرف جميعًا—أن الحياة لا تكتسي دائمًا بثوب السعادة والسكينة، كان يملك تلك القوة التي تعيده للكتابة رغم قسوة ما عايشه.

كانت ليلى تهمس له دائمًا بأن الحياة لا تتوقف أبدًا مهما بلغ الألم مداه. ربما كانت هذه الحقيقة مرة المذاق أحيانًا، لكنها كانت بالنسبة له نافذة نحو عمق ذكرياته وقصصه التي ظلت تتوهج بالمحبة والأمل. ففي نهاية المطاف، أليس هذا جوهر الحياة؟ رحلة طويلة من الانكسارات والانتصارات، نتعلم خلالها كيف نحافظ على وهج الحب مشتعلاً حتى في أصعب اللحظات.

وسط دموعها الشفافة، عبّرت ليلى عن حقيقة نعرفها جميعًا، ولكن غالبًا ما نتجنبها: الألم، الوحدة، والجراح هي أجزاء لا تنفصل عن نسيج الحياة. لكن هذه الأجزاء لا تصنع الحكاية كلها. حياة العم أحمد لم تكن مجرد مشاهد من المعاناة والآلام، بل كانت رواية مليئة بالشجاعة، التفاؤل، والتشبث بالحلم. واليوم، وهو يقف عند عتبات نهاية الطريق، يبدو كما لو أنه طفل صغير ينادي والدته لأول مرة، يبحث عن شعاع ضوء يكسر عتمة الليالي الأكثر ظلمة في حياته.

لقد كان العم أحمد أكثر من مجرد رجل عابر في تاريخ الحياة، فقد عاش يتيم الأم منذ صغره، ثم فقد والده بعد ذلك بسنوات قليلة. قدّم في شبابه إحدى عينيه قربانًا لمبادئه التي آمن بها بكل إخلاص. عاش مغتربًا لعقود طويلة بعيدًا عن وطنه، حيث كتب بيده المرهقة الحروف التي جمعت بين الواقع والخيال لتُكوّن إرثًا خالدًا لا يزال يتردد صداه.

كان المنفى مسكنه القسري، لكن فكره وكلماته اخترقت الحدود وخلّدت ذكراه للأبد. جسده النحيل، الذي أنهكته الأيام وتشقق كزجاج على وشك الانكسار، قد توقف أخيرًا؛ لكن الضوء الذي أشعلته كتاباته سيظل منارة أبدية تضئ عتمة ليل الإنسانية. العم أحمد لم يكن مجرد كاتب… كان روحًا خالدة تسير بيننا بحروفها.



#حميد_كشكولي (هاشتاغ)       Hamid_Kashkoli#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخليج الفارسي أم العربي، ليست تلك هي المسألة
- التنين الصيني قد يغمض لكن لا ينام
- عبقرية تشيخوف في قدرته الفذة على استكشاف أبعاد النفس البشرية
- الرأسمالية وتطبيع الاستغلال والكوارث الإنسانية
- علاقة الفكر والعمل
- الاستبداد الناعم
- العواقب الوخيمة لمقولة -كيفما تكونوا، يولّى عليكم-
- الساموراي الأخير عربيّا
- التسريبات لا تصدم أحدا قرأ التاريخ
- لم تكن لدى ماركس وصفات الطبخ للمستقبل
- قراءة رواية -الأمّ- في العصر الرقمي
- الحاكم الإله والقانون الإلهي في الشرق
- أسباب التوهم بقوة جيوش الأنظمة الديكتاتورية
- صناعة الاستشهاد
- ديالكتيك الدين ورأس المال
- ابتسامة منكسرة
- الدور الرجعي للمفكر الإيراني علي شريعتي
- دور الفرد في التاريخ، ترامب وبوتين نموذجاً
- رواية مدام بوفاري نقد لاذع للمجتمع البرجوازي الفرنسي
- الرياضة وتوجيهها المعادي للقيم الإنسانية


المزيد.....




- -عرس الجن-.. فنان كويتي شهير يدعو الأهالي لتجنب اصطحاب أطفال ...
- بعد أكثر من 14 عاما من الغياب .. مسرح الغرفة إلى الواجهة مجد ...
- أفلام صيف 2025.. منافسة ساخنة بين توم كروز وبراد بيت وسوبرما ...
- كيف يغير الذكاء الاصطناعي بيئة العمل الصحفي؟
- الوجه المخفي ل -نسور الجمهورية- في فيلم طارق صالح
- -فنان العرب- يتعرض لوعكة صحية ويكشف عن حالته بعد اعتذاره عن ...
- مهرجان كان: الممثل طاهر رحيم يفقد 20 كيلوغراما لأداء دور مدم ...
- شاكيرا تتعرض لموقف محرج على المسرح وتعلق عليه (فيديو + صورة) ...
- دور الرواية الفلسطينية كسلاح في مواجهة الإحتلال
- الشتات الفلسطيني والمقاومة ضد التحيزات الإعلامية في أميركا ا ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كشكولي - فارس الروح