أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عبد الحسين شعبان - النجف -شقائق النعمان-















المزيد.....

النجف -شقائق النعمان-


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 22:50
المحور: قضايا ثقافية
    


بقيت أنقّب عن تسمية "زهور شقائق النعمان" ومن أين جاءت؟ فتوصلت إلى أن ملك الحيرة النعمان بن المنذر كان يستلطفها ويوصي بزرعها حول قصره الشهير "الخورنق"، ويأمر بحمايتها، فنُسبت إليه. وثمة أسطورة تقول أن علاقة حب نشأت بين أدونيس وعشتار، وحين قتُل أدونيس بكت عليه عشتار بحرقة ومرارة، وتضرّعت إلى السماء أن تنبثق زهرة من دمائه، وبعد ساعات ظهرت زهرة بلون الدم، وهي زهرة شقائق النعمان وتُعرف أيضًا ﺑ "زهرة النساء" أو "زهرة الرياح" عند اليونانيين، وهي دليل على انبعاث الحياة بعد الموت.
وكنت قد درست في "مدرسة الخورنق المتوسطة" في النجف، التي كنّا نستذكر فيها حكاية زهرة شقائق النعمان، وهي زهرة بقيت أحبها لرقتها وللونها الأحمر القاني المطرّز بالأسود في وسطه، والتي كثيرًا ما كان الأهل يستخدمونها لمنافعها الطبية.
ودائمًا ما يرتبط بذهني أن النجف هي "زهرة النساء"، فهي بوصلتي أينما ذهبت وحيثما حللت، وعلاقتي بها مثل علاقتي بالتاريخ والفلسفة، وأنا مُغرم بكليهما، فالفلسفة هي أم العلوم، أما التاريخ فهو أبوه، والنجف هي الجغرافية الأولى لهذا التعاشق الذي شكّل مجرى حياتي.

مدينة خارج خطوط الطول والعرض
أعتبر النجف خارج خطوط الطول والعرض، وأنجذب نحوها عاطفة، فللقلب أحكامه الخاصة، كما أميل إليها فكرًا، فدروب العقل تهديك إليها، وهكذا يلتقي القلب والعقل عندها.
وثمة حيرة وأسباب حين تكتب عن النجف، وحسب ابن عربي: الهدى في الحيرة، والحيرة حركة، والحركة حياة"، فكل شيء فيها حركة وحياة، وحيرتي في النجف تقوم على عدد من الاعتبارات؛
أولها - أنها صاحبة مقام، وهي تفتح نوافذها ولا تغلقها، بل تترك أبوابها مفتوحة أيضًا، حتى وإن كانت مواربة، فمنها كان يدخل نسيم المعرفة ونور الفكر، مثلما تدخل الشمس والهواء، وهكذا كان الترنح بين اليقينية الإيمانية التبشيرية، وبين التساؤلية العقلانية النقدية المفتوحة، وهي مدينة جدل مثلما هي مدينة علم، وهي مدينة إيمان مثلما هي مدينة سؤال، وبقدر ما هي مدينة يقين فهي مدينة شك.
وثانيها – النجف، مثل كلّ المدن، تنتمي إلى ناسها مثلما ينتمي الناس إليها، والناس هم يصنعون المدن مثلما هي تصنعهم بأرضها وسمائها وشمسها وشجرها ونسائها ورائحتها، والمدينة مرآة الناس مثلما الناس مرآتها، وهذا هو تاريخها بكلّ ما يزخر به؛
وثالثها – أن النجف بقدر ما هي مدينة دينية، فهي مدينة مدنية أيضًا، وكان التفاعل الديني - المدني حتى داخل حوزتها العلمية.
وأشير إلى بدايات القرن العشرين والصراع بين المشروطة (حكم مقيّد بدستور) والمستبدّة (حكم مطلق)، ثم بدأت نواة التنوير من معقل الأحرار في "مدرسة الآخوند" لخمسة شباب كان لهم تأثيرهم لاحقًا مثلوا مرحلة تطلّع إلى الحداثة وهم الشاعر أحمد الصافي النجفي، والسياسي والأديب ولاحقًا وزير الداخلية سعد صالح جريو، والأديب عباس الخليلي، والفقيه سعيد كمال الدين، والفقيه والباحث علي الدشتي (إيراني الجنسية). وهؤلاء شكلوا بواكير حركة التجديد المعاصرة في الحوزة.
ورابعها - المناخ الفكري والثقافي النجفي الذي يمتاز بحيوية، فهي معهد علمي يتّسع للجدل والنقاش والنقد في علوم الدين والثقافة والأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وهو ما ينعكس على الشارع، وتجده أحيانًا على لسان البقال وصاحب المقهى والمعلم والدارس في الحوزة والمثقّف والمتطلّع إلى الحداثة والتنوير.
وكلّ ذلك يتعايش في النجف في هارموني عجيب للتنوّع والتعددية يسير في أزقتها وحواريها القديمة مع أرغفة الخبز والمواكب الحسينية والليالي الرمضانية والمناسبات الاجتماعية والمكتبات الخاصة والعامة وخلايا اليسار والمنشورات السرية والعشق المكتوم والصحن العلوي والسوق الكبير. وتغضب النجف أحيانًا وتتمرّد وتحزن، ولكن غيمها لا يُمطر إلّا علمًا وفقهًا وأدبًا وفكرًا وكرامة وحبًا.
اللغة إحدى أدوات النجف. إنها موجودة ومسموعة في كلّ مكان، حتى في صمتها، فالنجف تتكلّم وتقول كلامًا بليغًا. للحرف جلال في هذه المدينة، كما هي الفاصلة والنقطة، ولعلّي أردّد مع مظفر النواب:

هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق
نأمة في العشق تكفي
نقطة تكفي
فلا تكثر عليك الحبر والأوراق
كل من في الكون تنقيط له إلّا الهوى
فاحذر بالتنقيط (نهوي)
واسأل العشاق
هكذا ينهمر الجمال أمامك ويتجسّد في صور وخيالات وأحلام، وتنبجس الحقيقة، كأنها شلالات حنين، لأن المدن تشبه رجالها، مثلما تشبه نسائها، وبقدر ما في النجف من صبر وصلابة، ففيها براءة ورقة، وبقدر ما فيها من تعصّب وتتطرّف، فثمة فروسية ومروءة ورحمة وتسامح.

النجف في شراييني
لو فتحتم شراييني لوجدتم النجف وأزقتها القديمة تجري فيها، ولسمعتم صوت القرآن يصدح من كل بيت وحارة ومقهى ومحل، إنه صوت والدي عزيز "العزيز" الشعبان الحِمْيَري القحطاني، الذي كنت أستمع إليه صباح كلّ يوم وهو يتلو بصوته الجهوري آيات من الذكر الحكيم. ولرأيتم المواكب الهادرة والمظاهرات الحاشدة والصلوات الروحانية. يتردّد صداها، حتى يُخال إليك أنك تسمعها.
قلت للطبيب الذي أجرى لي عملية القلب المفتوح، حافظ على النجف التي في داخل هذا الكائن الصغير وما فيه من أسرار، فالحب بدأ من النجف، ولا تنس اللقاءات عند شط الكوفة، والأماسي المعطّرة. إنه الفرات العظيم النازل من الأعالي، من تركيا مرورًا بسوريا وصولًا إلى العراق والمتّجه إلى ثغره الباسم البصرة الفيحاء لعناق دجلة الخالد المتّحد مع الفرات في شط العرب، وذلك باجتياز محطات من بينها الكوفة.
كنّا نلعب في ساحة جامعها الشهير "جامع مسلم بن عقيل" مساء الخميسات والجُمع أحيانًا، وكانت مخيلتي الطفلية تذهب إلى الاعتقاد أن هذا الجامع هو أكبر جامع في العالم، كما نسبح في نهرها الجميل، ونأكل التوت من شجيراتها البيضاء والحمراء عند قصر الملك، ونقطف التمر البرحي الذهبي اللذيذ، ونختلي لننظّم الاجتماعات في بساتين آل ماضي بحجة عيد ميلاد أحدنا أو ختان أحد أخوة رفاقنا أو زواج شقيقه الأكبر أو أية مناسبة لنغطّي على خلوتنا السريّة تلك. ليس هذا فحسب، بل نرتّب مواعيدنا الغرامية البريئة فيها أيضًا.
كنت أردّد وأنا في مغتربي ما يقوله الشاعر الكبير بدر شاكر السياب:
الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام، هناك أجمل، فهو يحتضن العراق

وكانت الكوفة "الحمراء" هي ما أقصده، على الرغم من أنني عشت بالقرب من دجلة في منطقة العطيفية ببغداد، وكنت أتمشى يوميًا على كورنيش الكاظمية قرب ساحة الشاعر عبد المحسن الكاظمي، لكن الكوفة ظلّت في خاطري ونهرها ظلّ يلهمني، فمهما اغتسلت بمياه أنهار عظيمة مثل النيل والدانوب والسين والتايمز والراين والفلتافا والليطاني وغيرها، إلّا أن نهر الفرات ما يزال يشربني وأشربه، ومياه دجلة ما تزال تطهّرني، وكلّما شعرت بنكوص أو قلق أو حيرة، أتّجه إلى دجلة لأبثّه لواعجي وهمومي ومخاوفي، وسرعان ما يستوعبني بسحره وغموضه، حيث البهاء والكبرياء والسلام.
حين أشرب أي كأس ماء فإنني أتذكّر الفرات العظيم، وأتقاسم نصفه مع ماء دجلة، ولا أدري كيف يختلط الماء بالماء، وهو ما شاهدته عند التقاء البحر المتوسّط بالمحيط الأطلسي في مدينة طنجة المغربية الساحرة الغافية على البحر.

* مقطع من الكلمة التي ألقاها د. عبد الحسين شعبان بعنوان "النجف خد العذراء"، في الاحتفال الذي أقيم على شرفه في النجف، وتكريمه بحضور نخبة من الشخصيات الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية العربية والكردية، من داخل العراق ومن خارجه، إضافة إلى ممثلين عن المرجعيات الدينية والعشائرية والوجوه الاجتماعية المعروفة في مضافة آل سميسم في 5 آذار / مارس 2025.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شعبان.. شذرات من فكره القانوني والدستوري
- الأوليغارشية الترامبية
- رؤية الدكتور عبد الحسين شعبان إلى قضايا العصر ومشكلاته
- داعيةُ اللاعُنف وذوّاقةُ الشِّعر
- إيضاح من عبد الحسين شعبان
- تعديل الدستور استحقاق لا بدّ منه وإلغاء نظام المحاصصة الخطوة ...
- عصبة الأمم الشرقية: قراءة في آراء سموّ الأمير الحسن
- بيض الفساد حين يفقّس
- النجف -خدّ العذراء-
- عبد الحسين شعبان: سراجُ ضوءٍ لا ينضبُ زيتهُ
- عبد الحسين شعبان.. صوت العقل والحرية والإنسان
- حوافر القراءة الإرتجاعية ومخالبها: معاينة في كتاب د.عبدالحسي ...
- -ومضةٌ من رحلة شعبان مع الجواهري-
- مظفر النواب وعبد الحسين شعبان و رحلة البنفسج
- النجف تحتضن ابنها البار المفكر عبدالحسين شعبان
- عام التنابذ الطائفي: قراءة في خطاب الدكتور عبد الحسين شعبان
- الدكتور عبد الحسين شعبان: أنموذج للمفكر الحر
- عبد الحسين شعبان... المثقف النقدي والمشروع الثقافي
- وطن التغابن -الى د. عبد الحسين شعبان-
- تحديات بناء الدولة


المزيد.....




- دوروف يعلن استعداده للإدلاء بشهادته بشأن التدخل الأجنبي في ا ...
- رئيس الأركان الإسرائيلي يهدد بتوسيع العملية البرية في غزة وي ...
- نائبة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط: نزع سلاح حزب الله يجب أ ...
- ليبيا.. مجلس النواب يحدد الاثنين المقبل جلسة استدعاء لمرشحي ...
- اجتماع بلديات غرب ليبيا يدعو لتغيير الحكومة ويطالب المجلس ال ...
- الدفاع الروسية: إسقاط 15 طائرة مسيرة أوكرانية
- ترامب ردا على زيلينسكي: الرئيس الأمريكي وحده المخول باتخاذ ق ...
- شاهد.. فلسطيني يبصق في وجه ضابطة في الجيش الإسرائيلي.. والشر ...
- 8 أسئلة تشرح تفاصيل ما دار في اتصال ترامب وبوتين
- كوت ديفوار تستعد لاحتضان منشأة أميركية لتشغيل المسيّرات


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - عبد الحسين شعبان - النجف -شقائق النعمان-