|
داعيةُ اللاعُنف وذوّاقةُ الشِّعر
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 21:23
المحور:
قضايا ثقافية
د. إلهام كلّاب أديبة وناقدة رئيسة جامعة اللّاعنف - لبنان
يومَ افتتاحِ جامعةِ اللّاعُنف وحُقوق الإنسان في لبنان، اعتلى المِنبرَ خطيبٌ، سُرعان ما اجتذب الإنصاتَ والإعجابَ والتقديرَ بأناقةِ الحُضور وتوهُّجِ الفِكر وسلاسةِ الحديثِ ورحابةِ الرؤى الإنسانيّةِ. تعرّفَ الحُضورُ في هذا الالتماعِ الفِكري السريعِ إلى د. عبد الحسين شعبان، وإلى شخصيّةٍ فِكريّةٍ مِحوريّةٍ في هذه الجامعةِ الرائدةِ، حيث نعمتُ أنا بمُشاركتِه، وحيث كان يعلو ليُثمِر، ويَنحني ليُعطي. شكّلَ د. شعبان نموذجًا رياديًّا مُنفتِحًا على كلّ إنسانٍ وكلّ فِكرٍ، في سَعيه إلى المُشترَك الإنساني للثقافات والحضارات، وكانت تشِعُّ منه إنسانيّةٌ فريدةٌ في توقُّدِه الذِهني وحلاوةِ خِطابه، في نهَمِه إلى ارتياد كلّ أفقٍ معرفي، في تجذُّر معرفتِه التُراثيّةِ وأصالتِها، وفي حداثةِ منهجيّتِه وديناميّتها، في تساؤلاته المُتواصِلة وإنجازاتِه الفِكريّةِ المُتوثّبةِ، وخاصة، في توقِه إلى صِياغةِ رؤيةٍ عربيّةٍ إنسانيّةٍ، مُنفتحةٍ مُتجدّدةٍ تواجهُ رُكامَ الخيباتِ والخسائر، ووحشيّةِ الأصوليّات، ودمويّة العُنف، بالمُثابرةِ على خَصبِ الحِوار، وشجاعةِ الموقِف، والتماعِ الأمَل، ووساعةِ القلب... كان د. شعبان داعيةً للاعُنف، عُنف الذات الذي هو انعكاسٌ لفشَلِ غريزةِ الحياةِ، وعُنف الآخرين الذي ينحو لتحويل الضحيّةِ إلى جلّادٍ آخر... دعا د. شعبان إلى اللّاعُنف كمبدأ فِكري "في تناغُم الأرواحِ البشريّةِ وتعاونِها" حسب قول تولستوي، وكمِنهاجِ عملٍ في تحفيزِ طُلّابه على ابتداع الحُلول، وعلى جُرأةِ القيامِ بِمسيرةِ المعرِفةِ، كما حفّز غاندي مُواطنيه الهُنود على "مسيرة المِلح" التاريخيّةِ التي أضحت مِثالًا. إن ما يستوقفُنا في فِكر د. شعبان ومسارِ حياتِه هو الخيطُ السحريُّ المرِن الذي يربُطُ بإبداعيّةٍ وتجدُّدٍ بين ما عاناه، وما تاقَ إليه، وما أنتجَه، وما درَّسه، وما لاحقَه من أحداثٍ وتحوّلات، وبما أصدرَه من كُتبٍ وأبحاثٍ ودراسات...هذا الخيط المُشابه في الميثولوجيا اليونانيّة لخيطِ الإلهة "آريان" الأُسطوري والذي كان يُشاركُها في مُعاركةِ المصاعِب، كما في هزيمةِ الوحشِ الرابِض في كلّ شرّ. كان د. شعبان في دعوته اللّاعُنفيّة يسعى إلى إعادة الإنسان إلى إنسانيّته، وإلى ابتداع رُدود الفِعل، وإلى استقراءِ البُعد الإنساني في شجاعةِ الموقِف ورقّتِه. ومن صلابةِ جُذوره إلى ارتيادِ آفاقِ الإنسانيّة تنوّعت كتابات د. شعبان وتجلّت في وجه طلّي آخر، في محطاتٍ تقعُ بين القانونِ والثقافة، بين السياسةِ والشِّعر، بين إعمال العقلِ وروعةِ الذائقة، بين وشمِ قوانين حمورابي وذائقةِ ملحمةِ جلجامش. يعرفُ د. شعبان أن ما تكتنِزُه ذاكرةُ الإنسانيّة بإجلالٍ وفخرٍ ليس صورةَ البطلِ المُقاتلِ في معاركِ التاريخ، قدر ما هو مُعاناةُ شاعِرٍ وصرخةُ قصائد تسمو على الجِراحِ، تُعانِدُ الموتَ وتُرسّخ بُطولةَ الحياةِ. هو الذوّاقةُ بامتياز والذي حاول الوصولَ إلى أعماق النصّ الشِّعري بأبعاده وإيقاعِه ووقعِه، في انجدالِ القصيدةِ بشاعِرها، والجمالِ بالمُعاناة، والتذوّقِ بالمُشاركةِ والصداقة. توقّف عند القصيدةِ المُتمرّدةِ التي تنسُج من عُمق عذاباتِها وقَطرات عرقِها، الصرخةَ الصادقةَ للحياة في مُقاومتها لعُنف الواقع، الصرخةَ الصادقة للشِّعر... في آخر إصدارته يستعيدُ د. شعبان ذكرى صداقةٍ مديدة مع الشاعِر مظفّر النوّاب، الشاعِر الذي أطلقَ قصائدَه بلهجةٍ محكيّةٍ شعبيّةٍ مُضمّخةٍ بالألمِ والمُعاناة... هو شاعرٌ حُرّ، قاسى كلّ أنواع العُنف، حُكم عليه بالإعدام، حفَر نفقًا للهربِ من سِجنِه وتشرّدَ على مدى أربعين عامًا بين شرقٍ وغربٍ، وكان ينشُدُ وطنَه وشعبَه وهو يُعاني من الغُربة، صادِحًا بِصوتِه العفويّ الصادِق ضدّ الاستبدادِ والعُنف. في كتاب "رحلة البنفسج" يستعيدُ د. شعبان عُنوانَ قصيدةٍ من ديوان الشاعِر مظفّر النوّاب ويُسهم في صياغةِ غِلاف الكتاب الذي يبدو كقصيدةٍ مُفاجئة، قد تكون تعريفًا وثيقًا بالشاعِر والمؤلِف معًا وبعَلاقة الصداقة والمُعاناة والذائقةِ التي ربطتهُما خلال خمسة عُقود من الزمن. ينحازُ هذا العُنوان الموحي إلى البنفسَج، أي إلى زهرةٍ توحي بالرقّةَ والجمالَ، تجمعُ بين تواضُعِ الموقع، وكبرياءِ اللون الذي يُقاربُ أرجوانَ صور، وتفوحُ بعطرٍ أليف هو ضوعُ الشِّعر الذي لا يحبِسُه زمانٌ أو مكان، أكان سِجنًا أو منفى. لكن الشاعِرَ الذي انجدلَت حياةُ د. شعبان بحياته ومواقفِه، وقصائدُه بذائقتِه، وتقديرُه بمحبّته، هو الجواهري. كان الجواهري رائدًا في القصيدة الكلاسيكية وظاهرةً في جزالةِ الشِّعر ورقّةِ الإحساس وجُرأةِ الكلمةِ المُدوّية... مع هذا الشاعِر العراقي، تحالفت معاركُ الحياة مع الصداقةِ، مع الذاكرةِ، مع الذائقةِ، في تاريخٍ نضاليٍ لا ينفصلُ عن تاريخِ العراق. فهو ابنُ مدينتِه النجف وشريكُ منافيه المُتنوّعة ورفيقُ كلّ أحداثِ حياتِه. عايشَه طويلًا وساجلَه طويلًا وأصدر عنه حتى الآن ثلاثةَ كُتبٍ عميقة الغَور، مُرهفة الإحساس ورائدة في انجدال الصداقةِ بالشِّعرِ والنضالِ والمُعاناة والعذابِ والوطنِ والشجاعةِ ومُقاومةِ الظُلم والطغيان. هذه الكُتب هي "الجواهري في العيون من أشعاره"، "الجواهري جدل الشعر والحياة"، و"جواهر الجواهري"، وهذا العُنوان الأخير يسمو بحقيقتِه عن أي تطابُق لُغوي. وأستعيد هنا ما قلته في تقديمي لمفكرنا الكبير د.شعبان في المركز الثقافي العراقي في بيروت في العام 2013 بمناسبة الذكرى اﻟ 16 لرحيل الجواهري: " سأجتزئ وأقول: كيف لحفيد حمورابي ألاّ يكون قانونياً حقوقياً عادلاً عالماً؟ وكيف لسليل ملحمة جلجامش الاّ يتساءل عن الخير والشر وقلق الإنسانية؟ وكيف لنجفي، مشهدي، الاّ يكون فقيهاً متمرساً باستنباط الأفكار والمفاهيم؟ بل، وكيف لا من ولد في النجف الأشرف لأسرة عربية عريقة ودرس في بغداد وتخصص في براغ، وأدار مكتباً قانونياً في لندن وبيروت، كيف له الاّ يكون مواطن العالم ومحامي الانسان في كل موقع؟ من تجذره في بيئته إلى ارتياد آفاق الإنسانية، تنوّعت كتابات عبد الحسين شعبان... ليس في الفكر والسياسة والقانون... بل تجلّت في وجه طلي آخر، في محطات تقع بين القانون والثقافة، بين السياسة والشعر.. بين إعمال الفكر وروعة الذائقة، وهو ما سنستمع إليه الليلة تحت هذا العنوان الثاقب: جدلية الشعر والحياة
أخيرًا لا تختلفُ مُقاربةُ د. شعبان للّاعُنف عن مُقاربتِه للشِّعر، في عالمِه الانفعالي وعُمقه الوجودي ورسالتِه الإبداعيّةِ والإنسانيّةِ وتوقِه إلى الحريّةِ والتآخي ومُواجهةِ الظُلم وابتداعِ الفرَح، وتكريسِ الجمال... "الجمال الذي يُنقِذُ العالمَ" حسب قول دوستويفسكي. هو المُفكّرُ والقانونيّ والمنهجيّ المُجدّد وذوّاقةُ الشِّعر والإبداعِ، لا يستوقفُه إلا المُبدعُ الذي وقّع شِعرَه بتوقّد حياته، فانبثقَت قصائدُه من دماءٍ تسمو على جِراحِها ومن نضالِ أمَلٍ وفرح. يلُحُّ د. شعبان على مُواجهة العُنف باللّاعنف. كمن يدرّب عُقولًا على المعرفةِ والمُواجهة والإبداع، ويلُحُّ على مُلامسةِ الشِّعر برقّةٍ وقوّةٍ كمن يقف تحت رِتاج الانفعال... وكمن يصقُل ماسًا... كم هو مُضنٍ أن تحبِسَ الألقَ في مقالٍ.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إيضاح من عبد الحسين شعبان
-
تعديل الدستور استحقاق لا بدّ منه وإلغاء نظام المحاصصة الخطوة
...
-
عصبة الأمم الشرقية: قراءة في آراء سموّ الأمير الحسن
-
بيض الفساد حين يفقّس
-
النجف -خدّ العذراء-
-
عبد الحسين شعبان: سراجُ ضوءٍ لا ينضبُ زيتهُ
-
عبد الحسين شعبان.. صوت العقل والحرية والإنسان
-
حوافر القراءة الإرتجاعية ومخالبها: معاينة في كتاب د.عبدالحسي
...
-
-ومضةٌ من رحلة شعبان مع الجواهري-
-
مظفر النواب وعبد الحسين شعبان و رحلة البنفسج
-
النجف تحتضن ابنها البار المفكر عبدالحسين شعبان
-
عام التنابذ الطائفي: قراءة في خطاب الدكتور عبد الحسين شعبان
-
الدكتور عبد الحسين شعبان: أنموذج للمفكر الحر
-
عبد الحسين شعبان... المثقف النقدي والمشروع الثقافي
-
وطن التغابن -الى د. عبد الحسين شعبان-
-
تحديات بناء الدولة
-
الشعبانية في الواقع والمآل
-
النجف تكرّم مبدعيها - للمفكر شعبان ولدوحة آل سميسم وللنجف ال
...
-
عبد الحسين شعبان: عطاء مميّز في شتى حقول الفكر والمعرفة
-
عبد الحسين شعبان في ثمانينيته
المزيد.....
-
الرهان على الشبان.. رهان البابا الجديد؟
-
ماذا ينتظر العالم من البابا الجديد؟
-
بيل غيتس ينوي إنفاق قسم كبير من ثروته على الأعمال الخيرية
-
نيويورك تايمز: ميلانيا ترامب -تتنصل- من واجباتها كزوجة للرئي
...
-
رئيس الوزراء السلوفاكي يصل العاصمة الروسية للمشاركة في احتفا
...
-
صحيفة: واشنطن قد تخفض الأسبوع المقبل رسوم الجمارك على الوارد
...
-
الخارجية الأمريكية: وقف إطلاق النار لا يزال شرطا لتسوية الأز
...
-
إسرائيل تهدد.. إيران ستلقى مصير -وكلائها-
-
الخارجية الليبية: لا تفاهمات مع واشنطن بشأن الترحيل ولا قبول
...
-
وفاة أميرة من آل سعود
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|