أوزجان يشار
الحوار المتمدن-العدد: 8344 - 2025 / 5 / 16 - 21:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الماسونية… حين تسلّلت إلى الأفراد لا إلى الشعوب
لطالما ارتبطت كلمة “الماسونية” في الوعي الجمعي الديني بالشبهة والغموض والمؤامرة، ومع ذلك، نادرًا ما توقفت الشعوب طويلًا لتفهم: ما هي الماسونية فعلاً؟ كيف نشأت؟ وكيف تعمل؟
منذ بداياتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ظهرت الماسونية كأندية سرّية للنخب، لا تدخل من باب المجتمع، بل من نافذة النفوذ الفردي: مفكرون، ملوك، فلاسفة، ثوّار، أدباء، وحتى رجال دين. لم تنشأ لتعبّر عن الشعوب، بل لتوجّهها… لا تسعى إلى قاعدة جماهيرية بل إلى تأثير نخبوي يفرض إيقاعه بصمت.
الماسونية، في جوهرها، ليست دينًا ولا حزبًا، بل شبكة أفكار وتنظيمات رمزية، تؤمن بأن العالم لا يُحكم من خلال الشعوب والبرلمانات والدساتير، بل من خلال قرارات فردية حاسمة، يتخذها “من يعرفون الصالح العام”، نيابة عن شعوب غارقة في الجهل، متخبطة في العرقية، غارقة في التطرف، ومُخدّرة بالشعارات.
بهذا المنطق، لا عجب أن تعيد الماسونية صياغة “الدين” نفسه كوسيلة للضبط الرمزي، كما يحدث اليوم عبر مصطلح جديد براق هو: “الديانة الإبراهيمية”.
⸻
أولًا: ما هي الديانة الإبراهيمية؟
مصطلح “الديانة الإبراهيمية” ليس اختراعًا حديثًا، بل مستلهم من الدراسات الدينية المقارنة، ويشير إلى الديانات الأربع: اليهودية، الصابئية، المسيحية، والإسلام، لكونها جميعًا تنحدر من تراث النبي إبراهيم عليه السلام.
في السياق الأكاديمي، استُخدم المفهوم لتقريب وجهات النظر بين أتباع الديانات وتعزيز الحوار الإنساني. لكنه اليوم لم يعد فقط مصطلحًا حواريًا، بل مشروعًا رمزيًا سياسيًا يُعاد تسويقه بغطاء ديني ناعم، ويُستخدم لتمرير سياسات جيوسياسية حساسة.
⸻
ثانيًا: كيف تتقاطع الماسونية مع هذا الطرح؟
منذ بداياتها، سعت الماسونية إلى خلق “دين طبيعي” لا يُلزم أحدًا بعقيدة معينة، بل يُبقي على الإيمان بالإله دون تفاصيل نبوية أو شريعة. في دستور الماسونية الحرة (طبعة لندن 1723) نقرأ:
“الماسوني الحقيقي يمكن أن يكون من أي دين، ما دام يؤمن بعقل أعلى، فليتحد الجميع تحت مبدأ الإخاء، دون نزاع على الأسماء أو الشرائع.”
وفي كتابه الشهير Morals and Dogma (1871)، كتب ألبرت بايك، أحد أقطاب الماسونية:
“غايتنا ليست التبشير بدين، بل خلق منظومة أخلاقية كونية تحترم جميع الرموز، دون أن تلتزم بأي منها.”
وهذا بالضبط ما نراه اليوم في مشاريع “الديانة الإبراهيمية”، حيث يتم دمج الرموز دون العقائد، وتقديم الدين كإطار رمزي لا تشريعي.
⸻
ثالثًا: الاتفاق الإبراهيمي… رمزية مكشوفة
في 13 أغسطس 2020، وقّعت الإمارات والبحرين اتفاقًا للتطبيع مع إسرائيل برعاية أمريكية، أُطلق عليه رسميًا “الاتفاق الإبراهيمي”.
لكن التسمية لم تكن مجرد اختيار لغوي، بل كانت غطاءً ثقافيًا دينيًا لتسهيل قبول الاتفاق، وفتح الباب لتطبيع عميق مع إسرائيل على المستوى الرمزي والوجداني، لا السياسي فقط.
وكما ورد في النص الرسمي للاتفاق المنشور على موقع البيت الأبيض:
“نؤمن بأن هذه الاتفاقيات ستُعزز السلام الإقليمي وتفتح فصلًا جديدًا من التفاهم، معتمدين على الروابط المشتركة بين أتباع إبراهيم.”
هنا تُستخدم الرمزية الدينية كسلاح دبلوماسي ناعم، وهو بالضبط ما دعت إليه الماسونية في مؤلفاتها: “السيطرة من خلال الفكرة، لا من خلال البندقية”.
⸻
رابعًا: بيت العائلة الإبراهيمية… تتويج للفكرة القديمة
في عام 2023، افتتحت الإمارات مجمع “بيت العائلة الإبراهيمية” في جزيرة السعديات بأبوظبي، ويضم مسجدًا وكنيسة وكنيسًا، في مبنى واحد، بتصميم موحد الطراز، دون مئذنة أو جرس أو قبة فارقة.
الفكرة المعلنة هي تعزيز التعايش بين الأديان. لكن الفكرة العميقة هي: تحويل الدين من منظومة إيمانية إلى رمز هندسي منمّق، خاضع للسوق والتأويل السياسي.
وهو ما كان يحلم به مانلي بي هول، المفكر الماسوني الذي قال في كتابه The Secret Teachings of All Ages (1928):
“كل الأديان إشارات رمزية إلى حقيقة واحدة. وما من نبي إلا وكان وسيطًا، لكن الزمن الآن لا يحتاج إلى وسطاء، بل إلى وحدة كونية.”
⸻
خامسًا: من أنور السادات إلى أبوظبي… الفكرة سبقت التنفيذ
رغم أن مشروع “بيت العائلة الإبراهيمية” يبدو وكأنه ابتكار حديث، إلا أن جذوره تعود إلى الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي لم يكتف بالدعوة إلى السلام السياسي، بل اقترح صراحة – بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979 – بناء ثلاث معابد في منطقة سيناء: مسجد، وكنيسة، ومعبد يهودي، ترمز إلى التعايش بين أبناء إبراهيم في أرض النبوة.
وقد قال في إحدى خطاباته البرلمانية:
“نحن أبناء لإبراهيم عليه السلام… نعبد نفس الإله، ونؤمن بنفس القيم… فلماذا لا نعيش في سلام دائم؟”
لكن المشروع لم يُنفّذ بسبب اغتياله وتصاعد التوترات، إلا أن الفكرة نفسها أُعيد إنتاجها بصيغة عصرية في أبوظبي، بعد أربعة عقود، لكن في سياق دولي مؤسسي ومرتّب، يخدم تطبيعًا أشمل من مجرد التعايش.
⸻
سادسًا: ليست الديانة الإبراهيمية هي الخلاص… بل أداة وظيفية موقّتة
من حيث الشكل، لا غبار على الدعوة إلى التقارب والتسامح، لكن من حيث الجوهر، فإن “الديانة الإبراهيمية” ليست دعوة روحية خالصة، بل أداة مرحلية ذات هدف سياسي واضح:
قبول إسرائيل ككيان طبيعي في محيط عربي وإسلامي، عبر غطاء رمزي ديني يُخفف من الرفض التاريخي والعقائدي.
وهذا ما يجعلها مشروعًا له تاريخ إنتاج وتاريخ صلاحية، ينتهي دوره بمجرد تحقيق غايته: كسر الحاجز الوجداني والديني تجاه إسرائيل.
⸻
الخاتمة: اللعب على المكشوف… لكنه تأخّر كثيرًا
ما كنا نراه همسًا صار اليوم معلنًا. وما كان يُدار في الغرف المغلقة، أصبح يُروّج في وسائل الإعلام باسم “الإخاء الإنساني” و”القيم المشتركة”.
لكن الحقيقة الصلبة أن السياسات الدولية لم تعد تنتج عن شعوب، بل عن قرارات فوقية تُساق إلينا ملفوفة في رموز لينة، وتُفرض على شعوب غائبة عن الوعي، أُنهكت بالجهل والفقر والتطرف.
المشروع الإبراهيمي ليس دعوة دينية، بل هندسة سياسية رمزية تسعى إلى إزالة آخر معاقل الرفض العقائدي في العقل الجمعي العربي، عبر أدوات دينية مألوفة تُستخدم لتزيين المجهول.
لقد فهمنا أخيرًا أن الشعوب لا تحكم، بل تُدار. ولا تقرر، بل تُدجّن. وأن المسألة لم تكن يومًا دينًا جديدًا، بل دينًا مُعاد تصميمه لخدمة واقع جديد… والماسونية تتربص في الظل.
في هذا السياق، تصبح الماسونية ليست منظمة خفية بقدر ما هي فكرة تلبّست نخبًا حاكمة، ترى في نفسها المعلم، وفي الشعوب تلاميذ مراهقين يحتاجون إلى إعادة تربية.
وها نحن أمام درس جديد… لكنه هذه المرة لا يُدرّس في المدارس، بل يُفرض على الهويات، باسم “إبراهيم”، والرمز منه براء.
——————
مراجع واقتباسات توثيقية:
1. دستور الماسونية الحرة (Liberal Freemason Constitution), طبعة لندن 1723:
“الماسوني الحقيقي يمكن أن يكون من أي دين، ما دام يؤمن بعقل أعلى، فليتحد الجميع تحت مبدأ الإخاء، دون نزاع على الأسماء أو الشرائع.”
2. Humanum Genus – البابا لاوون الثالث عشر، الفاتيكان 1884:
“الماسونية ليست فقط ضد الكنيسة، بل ضد النظام الإلهي بأكمله، وتسعى لعلمنة القيم واستبدال الإيمان بالإنسان كمرجعية مطلقة.”
3. ألبرت بايك، Morals and Dogma of the Ancient and Accepted Scottish Rite, 1871:
“لا نعترف بدين معين. بل نسعى إلى إقامة فضيلة عالمية، يتساوى فيها الجميع أمام الخالق، دون وساطة، ودون كتب مقدسة.”
4. مانلي بي هول، The Secret Teachings of All Ages, 1928:
“كل الأديان إشارات رمزية إلى حقيقة واحدة. وما من نبي إلا وكان وسيطًا، لكن الزمن الآن لا يحتاج إلى وسطاء، بل إلى وحدة كونية.”
5. نص الاتفاق الإبراهيمي الرسمي – البيت الأبيض، 13 أغسطس 2020:
“نؤمن بأن هذه الاتفاقيات ستُعزز السلام الإقليمي وتفتح فصلًا جديدًا من التفاهم، معتمدين على الروابط المشتركة بين أتباع إبراهيم.”
6. وثيقة الأخوة الإنسانية – أبوظبي، فبراير 2019 (بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر):
“ندعو إلى ثقافة الحوار والتفاهم والتعايش المشترك… على أساس الأخوة الإنسانية الجامعة.”
7. بيانات مشروع بيت العائلة الإبراهيمية – الإمارات 2023:
“معبد يتجاوز الشكل إلى المعنى، ويجمع الرموز الدينية دون مفاصلة، ليكون منارة للتسامح الإنساني والتقارب الثقافي.”
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟