أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - خريف الثورات الكردية: من اتفاق الجزائر 1975 إلى تخلي حزب العمال عن السلاح 2025















المزيد.....


خريف الثورات الكردية: من اتفاق الجزائر 1975 إلى تخلي حزب العمال عن السلاح 2025


عبدالباقي عبدالجبار الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 8342 - 2025 / 5 / 14 - 04:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


اولا : اتفاق الجزائر 1975 – خيانة أم براغماتية؟

في السادس من آذار/مارس عام 1975، وُقِّع اتفاق الجزائر بين العراق وإيران، في خطوة أنهت أزمة حدودية طويلة بين البلدين، لكنها في الوقت ذاته وجّهت ضربة قاضية للثورة الكردية المسلحة في شمال العراق بقيادة الملا مصطفى البارزاني. الاتفاق لم يكن مجرد تفاهم حدودي، بل كان تحوّلًا استراتيجيًا في توازنات القوى، وكانت تداعياته كارثية على القضية الكردية، إذ تخلّت إيران عن دعم الثورة الكردية، وسحبت الولايات المتحدة دعمها السياسي والعسكري لها، مما أجبر القيادة الكردية على إعلان نهاية الكفاح المسلح.

1. خلفية الصراع العراقي الإيراني قبل الاتفاق
منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ظلّ ترسيم الحدود مع إيران موضوعًا شائكًا، خاصة في مناطق شط العرب وخط التالوك. خلال حكم الشاه محمد رضا بهلوي، كانت إيران تسعى إلى بسط نفوذها في الخليج، بينما كان العراق في ظل حزب البعث يحاول تثبيت سيادته على مناطقه الحدودية.

في هذا السياق، كانت إيران تدعم الثورة الكردية المسلحة في شمال العراق كورقة ضغط ضد بغداد، بينما تلقّت هذه الثورة دعمًا محدودًا من الولايات المتحدة في إطار لعبة الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

2. اتفاق الجزائر: البنود والمضمون السياسي
في قمة جمعت صدام حسين (نائب الرئيس العراقي آنذاك) ومحمد رضا بهلوي (شاه إيران) خلال انعقاد مؤتمر منظمة أوبك في الجزائر، برعاية الرئيس الجزائري هواري بومدين، تم التوصل إلى اتفاق ينصّ على ما يلي:

الاعتراف بخط التالوك في شط العرب كحد فاصل بين الدولتين.

وقف دعم إيران للثورة الكردية المسلحة في شمال العراق.

ترسيم الحدود بشكل نهائي في مناطق كردستان ومناطق أخرى متنازع عليها.

التزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر.

الهدف المعلن كان استقرار العلاقة الثنائية، لكنّ الهدف الخفي لإيران كان التخلص من عبء دعم ثورة غير مضمونة النتائج، مقابل مكاسب استراتيجية على شط العرب.

3. الدور الأمريكي: الصمت والخذلان
رغم أن الولايات المتحدة كانت تقدم دعمًا لوجستيًا واستخباراتيًا محدودًا لثوار البارزاني من خلال وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، فإنها لم تتدخل لمنع الاتفاق أو تفرض شروطًا تحافظ على استمرار الثورة الكردية.

بحسب تقارير لاحقة، كان وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر يرى في دعم الكرد وسيلة لإضعاف العراق فقط، لا قضية أخلاقية أو مبدئية. وقد صرّح لاحقًا بجملة شهيرة:

"السياسة ليست عملاً خيريًا" – في معرض تبريره التخلي عن الكرد.

4. النتائج المباشرة على الثورة الكردية
فقدان الدعم الإيراني الكامل خلال أيام بعد توقيع الاتفاق.

انسحاب البيشمركة من مواقعهم في المناطق الجبلية.

قصف وملاحقات من قبل الجيش العراقي ضد المقاتلين والمدنيين.

موجة نزوح جماعي إلى إيران وتركيا.

إعلان الملا مصطفى البارزاني وقف القتال واللجوء إلى أمريكا مع عائلته.

لقد مثّل هذا الاتفاق ضربة استراتيجية للحلم القومي الكردي، وأعاد ترتيب موازين القوى في شمال العراق لصالح النظام البعثي.

5. اتفاق الجزائر: نظرة تحليلية
يصف بعض الباحثين الاتفاق بأنه "خيانة مزدوجة" من إيران وأمريكا بحق الكرد. بينما يراه آخرون على أنه انعكاس واقعي لعجز الثورة الكردية عن الاستقلال العسكري والسياسي في ذلك الوقت، واعتمادها الكلي على دعم خارجي هش.

ما بين الخيانة والبراغماتية، يبقى اتفاق الجزائر محطة مؤلمة في الذاكرة الكردية الجماعية.


ثانيا : الملا مصطفى البارزاني – من قائد ثورة إلى لاجئ سياسي

كان اسم الملا مصطفى البارزاني مرتبطًا بالنضال الكردي منذ أربعينيات القرن العشرين، حين شارك في تأسيس جمهورية مهاباد في إيران عام 1946. وبقي رمزًا للثورة الكردية ضد الأنظمة العراقية المتعاقبة، حتى لحظة الانهيار الكبير بعد اتفاق الجزائر عام 1975. هذا الفصل يتناول المسار السياسي والإنساني للبارزاني بعد انهيار الثورة، وتحوله من قائد عسكري إلى لاجئ سياسي في الولايات المتحدة.

1. ملامح شخصية الزعيم الكردي
ولد الملا مصطفى البارزاني عام 1903 في منطقة بارزان شمال العراق، ونشأ في بيئة دينية وقومية محافظة. تميز بذكائه الفطري، وحنكته القتالية، وقدرته على التفاوض، وارتبط اسمه بالمقاومة المسلحة ضد كل محاولات طمس الهوية الكردية.

خاض عشرات المعارك ضد النظام الملكي ثم الجمهوري، واستطاع أن يبني جيشًا من البيشمركة يشكل كيانًا سياسيًا وعسكريًا مستقلاً في الجبال الكردية. تمتع بقبول واسع بين العشائر والأوساط الشعبية، وارتبطت زعامته برمز الأب القومي للكرد في العراق.

2. صدمة الانهيار: الانسحاب والتخلي
عقب توقيع اتفاق الجزائر، لم يكن أمام البارزاني سوى إعلان وقف القتال بعد أن سُحب البساط من تحت أقدام الثورة. قُطعت عنه خطوط الإمداد، وتعرضت قواته لحصار وهجوم منظم من الجيش العراقي، الذي رأى في الاتفاق فرصة لتصفية حساباته القديمة.

اضطر الزعيم الكردي إلى إرسال رسائل إلى العالم يطلب فيها الدعم، لكن الأبواب أوصدت جميعها في وجهه. كتب البارزاني لاحقًا في رسالة شهيرة:

"لقد خُدعنا... ودُفعنا نحو الهزيمة من قبل أولئك الذين وعدونا بالدعم ثم تخلوا عنا في منتصف الطريق."

3. اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة
في صيف 1975، حصل البارزاني على حق اللجوء السياسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، واصطحب معه عددًا من أبنائه والمقربين منه. استقر في شمال ولاية فرجينيا، حيث عاش سنواته الأخيرة في ظل حراسة مشددة.

كان يعاني من أمراض مزمنة، وأصيب بمرض السرطان، وتم نقله لاحقًا إلى أحد مستشفيات واشنطن لتلقي العلاج. وعلى الرغم من غربته الجسدية، لم تنقطع صلاته بالقضية الكردية. ظلّ يكتب الرسائل، ويتواصل مع القيادات الكردية، ويحلل المشهد السياسي حتى وفاته في عام 1979.

4. الموقف الشعبي الكردي من البارزاني بعد اللجوء
رغم الشعور العام بالخذلان والانكسار، لم تتراجع محبة الكرد للبارزاني. اعتُبر الانهيار نتيجة لخيانة خارجية أكثر منه فشلًا داخليًا. ونُظر إليه كضحية لمخططات دولية، لا كقائد مهزوم. بقيت صورته حية في ذاكرة الأجيال، كرمز للوطنية الكردية والنضال الشريف.

5. التأثيرات السياسية للجوء البارزاني
انهيار التنظيم العسكري للثورة الكردية لسنوات لاحقة.

بروز تيارات جديدة في الحركة الكردية، مثل الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني.

انتقال الصراع من الجبال إلى المحافل الدولية والمهجر.

تأسيس مرحلة من التفكير الاستراتيجي حول علاقة الكرد بالقوى الدولية.

لم يكن لجوء البارزاني مجرد هزيمة سياسية، بل تحوّل رمزي في تاريخ النضال الكردي. مثّل ذلك الفصل لحظة ألم ووعي في آنٍ معًا، وطرح أسئلة عميقة حول مدى استقلالية القرار الكردي، وحدود الاعتماد على القوى الخارجية.


ثالثا : حزب العمال الكردستاني – بين الكفاح المسلح وإلقاء السلاح

منذ تأسيسه عام 1978، خاض حزب العمال الكردستاني (PKK) صراعًا مسلحًا طويلًا ضد الدولة التركية بهدف إقامة كيان كردي مستقل أو تحقيق حقوق موسعة للكرد داخل تركيا. لكن بعد عقود من القتال، أعلن الحزب مؤخرًا التخلي عن الخيار العسكري، والانتقال إلى النضال السياسي والمدني، مما أعاد إلى الذاكرة الكردية مشهدًا قديمًا من عام 1975 حين اضطر البارزاني إلى اتخاذ قرار مماثل تحت ظروف مختلفة. فما أوجه الشبه؟ وما خلفيات القرار؟

1. تأسيس الحزب ومنطلقاته الأيديولوجية
تأسس حزب العمال الكردستاني في جبال تركيا الجنوبية الشرقية على يد عبد الله أوجلان ورفاقه من تيار ماركسي ثوري، متأثرًا بالمد الثوري العالمي وحركات التحرر في أمريكا اللاتينية. انطلق الحزب من فكرة الكفاح المسلح بوصفه الطريق الوحيد لنيل الحقوق القومية الكردية في تركيا، التي كانت ترفض حتى الاعتراف بوجود قومية كردية على أراضيها.

انتهج الحزب أسلوب حرب العصابات، وتمركز في المناطق الجبلية الوعرة قرب الحدود مع العراق وسوريا، مستفيدًا من هشاشة الأوضاع الإقليمية.

2. عقود من القتال: المكاسب والخسائر
منذ 1984 وحتى العقد الثاني من القرن الـ21، خاض الحزب صراعًا مريرًا مع الدولة التركية، خلّف عشرات آلاف القتلى من الجانبين، ومئات القرى المهجرة، وتسبب في موجات نزوح كبيرة.

رغم القمع، نجح الحزب في:

فرض نفسه كطرف لا يمكن تجاهله في القضية الكردية.

كسب تعاطف قطاعات شعبية كردية واسعة.

التمدد إلى الساحة السورية والعراقية بعد 2011.

لكن في المقابل، تعرّض لعزلة سياسية دولية، ووُضع على قوائم الإرهاب، وتلقى ضربات موجعة من الجيش التركي والعمليات الاستخباراتية المركزة.

3. إعلان التخلي عن الكفاح المسلح: الدوافع والبيان
في عام 2024، أعلن قادة حزب العمال الكردستاني عبر بيان رسمي استعدادهم للتخلي عن السلاح ووقف العمليات العسكرية ضد الدولة التركية، بشرط فتح حوار سياسي حقيقي يضمن الحقوق الثقافية والمدنية للكرد داخل تركيا.

جاء الإعلان في سياق:

ضغوط داخلية من الشعب الكردي المتعب من الحروب المستمرة.

ضغوط إقليمية ودولية لتصفية بؤر النزاع المسلح.

تغييرات داخل الحزب نفسه، وظهور أجنحة تؤمن بالحوار والمشاركة السياسية بدلًا من الحرب.

تراجع الدعم الأمريكي والغربي بسبب التحالفات الاستراتيجية مع تركيا كعضو في الناتو.

4. التخلي الأمريكي: من البارزاني إلى PKK
كما في عام 1975، لعبت الولايات المتحدة دورًا غير مباشر في إنهاء الثورة المسلحة. فقد خذلت واشنطن ثورة البارزاني عبر صفقة الجزائر، وتكرر المشهد مع PKK حين تخلّت واشنطن عن الدعم الرمزي والعسكري لوحدات حماية الشعب (الامتداد السوري للحزب) بعد تقاربها مع تركيا وحرصها على تهدئة العلاقات الثنائية معها.

وهكذا بدا للكثيرين أن الكرد، مرة أخرى، يُستخدمون كأوراق مؤقتة في صفقات دولية كبرى، ثم يُتركون لمصيرهم.

5. أوجه الشبه والاختلاف مع تجربة 1975
المحور تجربة البارزاني 1975 تجربة PKK 2024
السياق السياسي اتفاق بين دولتين (العراق وإيران) تحولات إقليمية وداخلية
نوع الدعم دعم إيراني وأمريكي محدود دعم غير مباشر من قوى غربية
أسباب الانهيار سحب الدعم الخارجي ضغوط داخلية ودولية مركبة
أسلوب التخلي اللجوء السياسي إلى الخارج بيان سياسي واستعداد للحوار
نتائج مباشرة تفكك الثورة الكردية في العراق بروز خيار النضال السياسي السلمي

لا يمكن فهم قرار PKK دون استحضار ذاكرة 1975، فالتاريخ يعيد نفسه حين يتكرر مشهد تخلّي الحلفاء، وتغيّر الأولويات الدولية. إلا أن الفارق الأساسي أن PKK اختار بنفسه هذه المرة طريق التهدئة السياسية، بدلًا من أن يُفرض عليه كما فُرض على البارزاني. وبين الواقعية السياسية والتراجع التكتيكي، تبقى القضية الكردية أسيرة حسابات الآخرين.

رابعا : دروس من التجربتين – إلى أين يتجه النضال الكردي؟

إن التجربتين الكرديتين في العراق (1975) وتركيا (2024) تمثلان محطتين مفصليتين في مسار القضية الكردية، تكشفان عن تشابهات عميقة في مآلات الحركات الكردية المسلحة، كما تثيران أسئلة جوهرية حول جدوى الكفاح المسلح، واستراتيجية الاعتماد على الدعم الخارجي، ومستقبل النضال الكردي بين الواقعية السياسية والطموح القومي.

1. العامل الخارجي: الحليف المتغير
تعتمد الحركات الكردية غالبًا على الدعم الإقليمي أو الدولي في نضالها المسلح، غير أن التاريخ يُظهر بوضوح أن هذا الدعم مرتبط بمصالح الدول الداعمة، لا بعدالة القضية الكردية.

في 1975، تخلى شاه إيران والولايات المتحدة عن البارزاني في إطار مصالح استراتيجية مع العراق.

في 2024، فضّلت الولايات المتحدة الحفاظ على علاقتها بتركيا على الاستمرار في دعم فصائل مرتبطة بـ PKK.

الدرس: لا يمكن بناء مشروع تحرري طويل الأمد على أساس دعم خارجي متقلب، بل يجب الاعتماد على الشرعية الشعبية والتحالفات المدنية الدائمة.

2. الكفاح المسلح: خيار استنزافي أم ضرورة وجودية؟
رغم نجاحه في فرض الاعتراف بالقضية الكردية، إلا أن الكفاح المسلح:

أدى إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة.

سهّل وصم الحركات الكردية بالإرهاب.

أعاق بناء مؤسسات مدنية بديلة.

لكن بعض المدافعين عنه يرونه ضرورة في مواجهة أنظمة قمعية لا تعترف بالحقوق الكردية إلا تحت الضغط.

الدرس: لا يمكن استمرار الكفاح المسلح بمعزل عن مراجعة استراتيجية دورية، وينبغي التفكير ببدائل نضالية سلمية فعّالة تراكم المكتسبات على المدى الطويل.

3. غياب المشروع السياسي المتكامل
كثير من الحركات الكردية المسلحة كانت تفتقر إلى مشروع سياسي واضح المعالم لما بعد السلاح، مما أدى إلى فراغ استراتيجي عند التحول أو التراجع.

الدرس: يجب أن تسبق أو تواكب كل حركة مسلحة رؤية سياسية شاملة تتضمن خطة للانتقال إلى الشرعية المدنية والحياة المؤسسية.

4. التجربة الكردية بين الشتات والتوحد
يفتقر الكرد في كثير من الأحيان إلى وحدة سياسية وميدانية، فالحركات الكردية في العراق وسوريا وتركيا وإيران غالبًا ما تعمل بصورة متوازية لا تكاملية، ما يُضعف التأثير الكلي للحراك الكردي.

الدرس: لا بد من صياغة استراتيجية كردية جامعة، تتخطى حدود الدول، وتبني على القواسم المشتركة دون الوقوع في فخ الصراعات الداخلية.

5. الطريق إلى المستقبل: التحول إلى الفعل المدني
مع تراجع الدعم العسكري، وضغط الرأي العام الداخلي، بات من الضروري أن تتحول الحركات الكردية من البندقية إلى الكلمة، ومن الجبل إلى البرلمان، ومن العزلة إلى الشراكة المجتمعية.

الانخراط في الحياة السياسية.

تطوير التعليم والإعلام الكردي.

تعزيز الحضور المدني والدبلوماسي.

الدرس: مستقبل القضية الكردية يعتمد على نضال مدني منظم، ومشروع إصلاحي من الداخل، لا على رهانات الخارج أو الصدام الدائم مع الدول.

من تجربة البارزاني إلى إعلان PKK، يتكرر الدرس ذاته: أن النضال القومي الكردي بحاجة إلى عقل سياسي بارد، لا قلب ثائر فقط، وبحاجة إلى استثمار الذاكرة من أجل رسم طريق جديد، لا تكرار الأخطاء القديمة.

خامسا : بين التاريخ والسياسة... هل يتغير مصير الكرد؟

في كل مرة تنكسر فيها ثورة كردية، يُطرح السؤال ذاته: هل كُتب على الكرد تكرار المأساة؟ وهل قدَرهم أن يظلوا ورقة في يد اللاعبين الإقليميين والدوليين؟ لكن هذا السؤال لا يكفي وحده؛ فربما آن الأوان لطرح السؤال الأعمق: هل يستطيع الكرد أن يُغيّروا قواعد اللعبة بدلاً من البقاء داخلها؟

1. من ضحايا التاريخ إلى صُنّاعه
طوال قرن من الزمن، تكرّرت ذات الحلقة: نهوض كردي، دعم خارجي، تحوّل سياسي، ثم خذلان. لكن الشعوب الحية لا تعيش على الحنين أو الندم، بل تُجيد التعلم من التاريخ.

لا يكفي أن يكون الكرد على "حق"، بل يجب أن يكونوا "أقوياء بحقهم".

لا يُعوّل على تحوّل الآخرين، بل على إصلاح الذات الكردية: الخطاب، الأدوات، الأولويات.

المستقبل لا يُمنح، بل يُنتزع عبر مشروع عقلاني متدرج، يدمج الواقعية بالطموح.

2. اللحظة الكردية الراهنة: فرص أم مخاطر؟
رغم انسحاب القوى الكبرى من الملف الكردي المسلح، إلا أن لحظة السلام الحالية قد تكون فرصة ذهبية:

في العراق، الكرد يتمتعون بحكم شبه ذاتي وتجربة برلمانية ودبلوماسية ناضجة.

في سوريا، هناك إدارة ذاتية تحتاج إلى تعزيز مؤسساتها وترسيخ هويتها ضمن سياق سوري.

في تركيا، إعلان PKK إيقاف الكفاح المسلح يفتح الباب لمراجعة العلاقة بين الدولة والأكراد.

في إيران، رغم القمع، هناك حراك مدني كردي بدأ يُعبّر عن تطلعاته بوسائل حديثة.

الفرصة الذهبية قد تكون كامنة في الخروج من ثنائية: إما الثورة المسلحة أو الصمت.

3. ملامح استراتيجية كردية جديدة
لبناء مستقبل مختلف، لا بد من:

الاستقلال في القرار السياسي، وعدم ارتهان مصير القضية الكردية للتوازنات الخارجية فقط.

إعادة بناء الثقة بين الحركات الكردية والجماهير، عبر خطاب واقعي وتشاركي.

تعزيز التحالفات المدنية والدولية القائمة على حقوق الإنسان، لا السلاح.

صناعة نخب جديدة قادرة على الجمع بين الكفاءة السياسية والهوية الثقافية.

التفكير الفيدرالي والديمقراطي بدل الحلم بالدولة القومية الواحدة.

4. من الجبل إلى الدستور
تحوّل حزب سياسي أو حركة مسلحة إلى قوة مدنية قانونية هو انتقال شاق لكنه ضروري.

من حمل السلاح إلى كتابة الدساتير.

من "البيانات الثورية" إلى مشاريع القوانين.

من الثورة إلى الاستقرار… لا خيانة في ذلك، بل نضج.

لقد آن الأوان لإدخال الكرد إلى مرحلة الدولة والمواطنة والحقوق عبر السلم والدستور لا الحرب والدم.

سادسا : الدروس والعبر – ما الذي يجب ألا يتكرر؟
مخاطر الارتهان للدعم الخارجي.

أهمية الوحدة السياسية الكردية.

التحول من المقاومة المسلحة إلى مشروع سياسي مستدام.

إعادة بناء الثقة بين الشعوب الكردية والدول المحيطة.

التاريخ لا يرحم من لا يقرأه. والكرد، في قلب الجغرافيا السياسية المتقلبة، بحاجة إلى مراجعة حقيقية واستراتيجية وطنية طويلة المدى.

التاريخ لا يعيد نفسه… بل نحن من نُعيده
تجربة البارزاني في 1975، وتجربة PKK في 2024، ليستا متطابقتين، لكن بينهما خيطٌ متصل من الدروس والدماء والأحلام. ما لم يتحول هذا الخيط إلى نسيج جديد من الرؤية والإرادة والعمل، سيبقى التاريخ يعيد نفسه على هيئة مآسٍ لا تنتهي.

فهل يمتلك الكرد اليوم الشجاعة للانتقال من الثورة إلى الدولة؟ من الرمز إلى المؤسسة؟ من الحلم إلى التخطيط؟
هذا هو التحدي الحقيقي… والتاريخ لن ينتظر طويلا

ليست هذه المقالة مجرد دراسة سياسية أو مقارنة تاريخية بين مرحلتين مفصليتين في مسار القضية الكردية، بل هي محاولة لقراءة الواقع بعيون مفتوحة على دروس الماضي وأشباحه.
من اتفاقية الجزائر عام 1975 إلى إعلان حزب العمال الكردستاني في عام 2024، تتكرر الأحداث وتتعاقب الخيبات، لكن الشعوب لا تموت ما دامت تملك الوعي والإرادة."



#عبدالباقي_عبدالجبار_الحيدري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صرخة المرضى في إقليم كردستان: عندما تُباع الرحمة وتُشترى الك ...
- عمليات التجميل في مجتمعنا الكردي: بين وهم الجمال وضياع القيم ...
- سورة يوسف تحت عدسة علم الاجتماع
- الرواتب المعلقة.. أزمة مزمنة بين بغداد وأربيل: إلى أين؟
- الأحزاب التركمانية في الميزان: أزمة القيادة والهوية في إقليم ...
- نحو قلعة نابضة بالحياة: مشاريع استراتيجية لتحويل قلعة أربيل ...
- في عصر الغابة: لماذا يجب على الدول الإسلامية أن تمتلك القوة ...
- تراث كردستان في الميزان: تقرير حول التغييرات الإدارية الكارث ...
- الغش في المجتمع: آفة تهدد القيم والأخلاق
- تحليل نقدي لسوق نشتيمان(بازار نشتيمان) في أربيل من منظور الت ...
- لا حياة لمن تنادي: واقع العراق وإقليم كردستان بين التحديات و ...
- أربيل في ظل الاحتلال البريطاني (1918-1920): قراءة في كتاب -س ...
- إربيل في مرآة التاريخ والفلسفة: دراسة مقارنة بين ابن المستوف ...
- أربيل عبر العصور: من مدينة تاريخية إلى لواء إداري في العراق ...
- دراسة سوسيولوجية لمدينة أربيل: التعددية الثقافية والتحولات ا ...
- -تاريخ اربل- لابن المستوفي: دراسة تحليلية علمية
- أربيل عبر العصور: تطور المخطط العمراني من القلعة إلى المدينة ...
- مقارنة بين مجزرة الكرد في العراق ومجزرة سربرنيتسا في البوسنة ...
- مشروع إعادة تأهيل قلعة أربيل: من الفكرة إلى التنفيذ
- قصور إعادة تأهيل قلعة أربيل: الأسباب والمسؤولية


المزيد.....




- أول رد فعل من ترامب على لقاء الشرع.. شاهد كيف وصفه
- -كان إيجابيًا على جميع المستويات-.. مراسلة CNN توضح كل ما نع ...
- من الطائرة الرئاسية.. فيديو لترامب وهو يشاهد المقالات القطري ...
- استقبال ترامب في قطر بموكب من الجمال وشاحنات -سايبرترك- حمرا ...
- شاهد كيف استُقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في قطر
- ترامب يؤكد أمام القمة الأمريكية الخليجية في الرياض: إيران لن ...
- فرحة وألعاب نارية وهتافات.. احتفالات تعم سوريا بعد قرار واشن ...
- الأيام دول: كيف خرج الجولاني من عباءة -داعش- ليجلس على طاولة ...
- بعد رفع العقوبات.. ترامب يطلب من الشرع تطبيع العلاقات مع إسر ...
- متى ستنتهي الحياة على الأرض، وكالة ناسا تجيب


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - خريف الثورات الكردية: من اتفاق الجزائر 1975 إلى تخلي حزب العمال عن السلاح 2025