أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إلى العدمية الحديثة














المزيد.....

سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إلى العدمية الحديثة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8336 - 2025 / 5 / 8 - 11:48
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
منذ بدايات الفلسفة الأوروبية، شكّل سؤال الوجود (Being) إحدى أكثر القضايا إثارة وإشكالية. لقد بدأ هذا السؤال مع الإغريق، لكنه أخذ طابعًا مختلفًا في السياق الأوروبي الحديث والمعاصر، حيث تمفصل مع تحولات فلسفية عميقة ارتبطت بنقد الميتافيزيقا، وبزوغ الحداثة، وصعود الفردانية، وانهيار المعنى الكلي. لقد سعى الفلاسفة الأوروبيون إلى مساءلة الوجود لا بوصفه معطىً بديهيًا، بل بوصفه مشكلة فلسفية تلامس حدود اللغة، والذات، والعالم، والزمان.

من ديكارت إلى كانط: تأسيس الوجود على الذات

مع الفلسفة الحديثة، وخصوصًا مع رينيه ديكارت، بدأ التفكير في الوجود ينطلق من الذات. في عبارته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود" (Cogito ergo sum)، حوّل ديكارت مركز الثقل من العالم الخارجي إلى الوعي الذاتي. لم يعد الوجود يُفهم بوصفه انكشافًا لكينونة الأشياء، بل بوصفه يقينًا ذاتيًا يتأسس على الفكر. هذه النقلة ستعمق لاحقًا مع كانط، الذي أعاد تعريف العلاقة بين الذات والعالم ضمن نسق نقدي صارم، حيث لم يعد الوجود يعبر عن ما هو موجود في ذاته، بل عن ما يظهر لنا من خلال مقولات الفهم البشري. وبالتالي، أصبح سؤال الوجود سؤالًا معرفيًا وشرطيًا، لا ontologicalًا خالصًا.

هيجل والجدلية: الوجود كصيرورة

جاء هيجل ليعيد الاعتبار للوجود في بعده الكوني والجدلي، معيدًا تشكيل المفهوم داخل منطق تاريخي شامل. فالوجود عند هيجل ليس معطى ثابتًا، بل هو صيرورة ديناميكية تتحرك عبر التناقضات نحو تحقق العقل في التاريخ. وقد صاغ هيجل هذه الفكرة من خلال جدلية الوجود والعدم والصيرورة، مؤكدًا أن الوجود الخالص لا يمكن تصوره دون العدم، وأن الصيرورة هي وحدها ما يجمع بينهما. هكذا، يصبح الوجود ليس حالة ساكنة بل حركة ذاتية للعقل في طريقه نحو الوعي بذاته. غير أن هذا التصور الكلي للوجود تعرض لاحقًا لانتقادات حادة، خصوصًا من فلاسفة الوجودية والتفكيك.

كيركغور ونيتشه: الوجود كقلق فردي وتمرد على المطلق

مع كيركغور، مؤسس الفلسفة الوجودية، يتخذ سؤال الوجود منحىً وجوديًا شخصيًا. لم يعد السؤال عن الوجود يتعلق بالأنطولوجيا العامة، بل بالتجربة الفردية للقلق، والاختيار، والإيمان. لقد رأى كيركغور أن الوجود الحق لا يُدرك إلا من خلال القفزة الإيمانية التي يتجاوز فيها الفرد التناقض بين الزمني والأبدي، بين الإنسان والخلاص.

ثم جاء نيتشه ليقلب الطاولة على كل الميتافيزيقا الغربية. لقد أعلن "موت الإله" كتعبير عن انهيار النظام القيمي الذي تأسس عليه تصور الوجود في الفكر المسيحي والغربي. وفي غياب المطلق، لم يعد للوجود أي معنى مفروض من الخارج، بل أصبح عبئًا على الإنسان الذي عليه أن يخترع ذاته، أن "يصير ما هو عليه". الوجود هنا يتحول إلى معركة ضد العدمية، وضد كل محاولة لفرض معنى خارج إرادة القوة.

هايدغر: العودة إلى سؤال الوجود الأصلي

في القرن العشرين، أعاد مارتن هايدغر طرح سؤال الوجود من جذوره، معتبرًا أن الفلسفة الغربية منذ أفلاطون أهملت السؤال الأساسي: "ما معنى أن يكون هناك كائن؟". في عمله الأساسي "الوجود والزمان" (Sein und Zeit)، فرّق هايدغر بين "الوجود" (Sein) و"الكائن" (Seiendes)، وسعى إلى تحليل بنية "الوجود-في-العالم" (Dasein) بوصفه كينونة الإنسان التي تتميز بالانفتاح على العالم، والوعي بالزمان، والمواجهة مع الموت. الوجود عند هايدغر ليس موضوعًا بل انكشافًا، كشفٌ للكينونة لا يُدرك إلا من داخل التجربة الزمانية للإنسان.

سارتر وميرلو-بونتي: الوجود كمشروع أو تجسيد جسدي

تحت تأثير هايدغر، قام جان بول سارتر بتطوير فلسفة وجودية تركز على حرية الإنسان ومشروعه في خلق المعنى. في كتابه "الوجود والعدم" (L’Être et le Néant)، ميز بين "الوجود في ذاته" (l’être-en-soi) الذي هو وجود الأشياء، و"الوجود لذاته" (l’être-pour-soi) الذي هو وعي الإنسان. هذا الأخير هو كينونة تتميز بالفراغ، بالإمكان، بالسلب، وهي حرة بالضرورة. غير أن هذه الحرية تضع الإنسان في مواجهة العبث، حيث لا يوجد معنى مسبق للحياة، بل على الإنسان أن يبتكره من خلال التزامه.

أما موريس ميرلو-بونتي، فقد ركز على البعد الجسدي للوجود، مؤكدًا أن الإدراك والعالم ليسا منفصلين، بل يتأسسان في جسدية الكائن الإنساني. لقد رفض الفصل الكلاسيكي بين الذات والموضوع، ورأى أن الإنسان يوجد في العالم ككائن متجسد، وأن الوجود لا يُدرك إلا من خلال التجربة الحسية المعيشة.

الوجود كسؤال لا نهائي

يمكن القول إن سؤال الوجود في الفلسفة الأوروبية لم يُغلق يومًا، بل ظل يتجدد مع كل تحوّل فلسفي أو سياسي أو علمي. من التأسيس العقلاني إلى القلق الوجودي، ومن المطلق الجدلي إلى العدمية، ومن التجربة المتعالية إلى الجسد المعيش، بقي الوجود سؤالًا مفتوحًا على المصير، والحرية، والموت، والآخر. إنه ليس فقط سؤالًا عن ما هو موجود، بل عن "كيف يوجد الإنسان"، و"لماذا يجب أن يوجد"، و"أي نوع من الوجود يليق بالكرامة الإنسانية؟".



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة برجسون: نداء الروح في عصر العقل
- ترامب يشعل البحر الأحمر: معركة اليمن بين نيران الهيمنة ومقاو ...
- الصراع الدرزي – الماروني في القرن التاسع عشر: أزمات الهوية، ...
- انقسام الهوية: صراع القيم الدينية والعلمانية في الواقع العرب ...
- توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداع ...
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...


المزيد.....




- ترامب يتبنّى مصطلح -الخليج العربي- رسمياً، ما جذور الخلاف ال ...
- ترامب يعلن عن -صفقة تجارية رائعة- مع بريطانيا ويتحدث عن اتفا ...
- هآرتس عن دراسة: جندي من كل ثمانية قاتلوا في غزة غير مؤهل عقل ...
- الهتافات تتعالى في ساحة القديس بطرس مع الإعلان عن انتخاب باب ...
- العنف الجنسي خلال الطفولة يتفاقم حول العالم
- هل توفر أوروبا -اللجوء العلمي- للباحثين الفارين من ترامب؟
- لماذا يتجاهلون محرقة العرق السلافي؟
- ذكرى النصر.. لقاح ضد جائحة النازية
- ليخاتشوف يؤكد استعداد موسكو لإعادة الوقود النووي الأمريكي من ...
- لرصد حاملات الطائرات الأمريكية.. الحرس الثوري الإيراني يكشف ...


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - سؤال الوجود في الفكر الأوروبي: من الميتافيزيقا الكلاسيكية إلى العدمية الحديثة