رضا كارم
باحث
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 18:13
المحور:
الادب والفن
ما سيعرض في هذه الورقة ليس نقدا أدبيّا ولا تقديما تقليديّا لكتاب أو رواية، بل هو محاولة للتّدرّب على التّفكير انطلاقا من عمل فنّي يُعرض علينا الآن.
يندرج اللّقاء إذن ضمن بادرة فنّية تؤسّس من خلال الرّواية وعبر جسدها لنقاش عمومي يستدرج القارئ إلى غواية النّصّ تقوده شهوة الكشف والوعد بالإلذاذ الفنّي. هل يمكن أن نعتبر هذا الإدراج إعلانا عن براديغم تتحرك ضمنه نقاشاتنا؟ ربّما يكون الأمر أبعد من ذلك.
أشير في البداية أنّ بشير الحامدي قد كتب الرواية والخاطرة والمقال التحليلي والرسائل السياسية أو الردود السياسية المطولة. هو كاتب جال بين قضايا متعددة التزمها منذ بواكير وعيه بالعالم واشكالياته وعلاقات الصراع المتحكمة في مساراته. وينخرط الكاتب في تلك القضايا المتصلة بالحقّ في الثّورة والسّلطة وفي ثورة دائمة من وجهين:
1- وجه أوّل ضمن النطاقات الجغرافية تنتقل خلالها امتدادات التغيير من الحيز المحلي إلى المدى الأممي.
2- ووجه ثان ضمن النطاقات الذهنية تكافح خلالها الثّورة الذّات المستكينة والرّاضية والقنيعَ بما أنجزت، فتتوثّب للسّؤال والشّكّ من أجل تثوير المنجز الذّهني بناء على أسئلة الواقع ذاته.
وضمن هذا الوعي، تجيء نصوص بشير الحامدي إجابة على التزام واسع بدور الذّات في تحرير ذاتها ومجتمعها من كل استبداد وهيمنة وضبط وتوجيه. كما تكتب تلك النصوص ضمن ثنائيّة الظّهور والخفاء. وسنجد صدى لما تقدّم ذكره في "دفاتر خضراء" عندما يستعير الكاتب صورة العصفور الذي يظهر مزهوّا بريشه في لحظات صحوة الحياة فيه، قبل أن يداوم على الزقزقة بعيدا عن العالم متخفّيا ومتشبها بالله المعلّق في أبديّته. يروي الكاتب في دفاتره الخضراء سنة 78 وفي جانفي منه تحديدا، قصّة الانتحار الذي لا ينسى والذي سيعود بعد حين. وقصّة المحترقين من أبناء سيزيف في الملاسين وباب الخضراء وباب الجديد الّذين ينصرفون ويتخفّون حتى يتمكّنوا من العودة مجددا والإعلان عن ظهورهم، وقصّة الشرطي الخانع المعقوفة هامته والذي احترق بدوره واختفى، ولم يحفظ الوجود غير حضور العصفور المرتحل وحيدا والذّي تقتله عينا سيّدته الّتي لم تعد تبصر واختفت.
ويعود سنة 79 ليبني نصّا على صوت خفيّ وذات حاضرة تحاور الصّوت. دعوة إلى الحضور مقابل خفاء داخل الأقبية يعطّل إرادة التّغيير. الصّوت يقاوم السّكون، ولا يعي موقعه داخل الظّلام، ثمّ ينفتح المسرح وينفض غباره فيراهم ثر استفاقته من غفوته فإذا هو معلّق، على أنّ انتصارهم وهم فالرّصاصتان موزّعتان بين جيبه وحقيبته، أو بين رأسه وكتابه، أو بين نصّه المعلن ونصّه النّابت ثورة في جباه القادمين. هي إذن كتابة تتوسّل بدائل متخيّلة وتمنحها للجباه المنحنية في حقولها والسّواعد المثقلة في مناجمها والأيادي المتيبّسة في مطابخها والعصافير المتوثّبة في مدارسها.
سنة 2010 يحملنا بشير الحامدي إلى التّوراة ويشيّد مع الاله السماوات العلى، لكنّه ينتصف منه ويكتفي بأربعة أيّام ليكتب الرّحيل. تكحّلت وطارت دون أن تنحني للرياح، ثمّ تكحّلت وطارت لى موعدها فوق السّحاب كما ردّد الغمام، ثم تكحّلت في ثالث الأيّام وطارت بعد أن ودّعت من تحبّ مكتفية بكلمات من أجل الحنين وسائرة نحو وجهة بلا وجه عدا حلم الحياة الكبير، وفي اليوم الرّابع وضعت العصفورة كحلها ثم استراحت دون أن تطير. هل هي الحرّية في نصوص بشير الحامدي؟ هي هي الثّورة؟ هل هي الدّلالة مطلقة؟ لعلّ بشير الحامدي يكتب قصّة من الواقع، ربّما كانت ابنته، أو حبيبته، أو ذاكرته، أو صالح مصباح أومحمد عمامي... سيبدو النّصّ حرّا لا ينعقد على عروض ولا يتشكّل في الإيقاع ولا ينضبط لقواعد نظم معلومة. وهل ذكر الكاتب أنّه شاعر؟ أو لعلّه يريد الشّعر من نصوصه هذه، لكنّه يناور بإعلان براءته من الشّعر حتّى لا تلاحقه سهام النّقد الأدبي اللّاذعة فتفسد بناءاته الذّهنيّة ولحظات التذاذه الّتي يحصّلها من فعل الكتابة. هلّا قرأنا نصوصه لفضح نواياه؟
وفي ماي 2010 يعلن بشير الحامدي شتاءه الدّائم مقابل خضرة البراري وجنّات الخلد حيث محاورته. أي شتاء مقابل ربيع الجنّة يا ترى؟ هل صبأ بشير الحامدي فإذا به يكتب نصّ الحوريّات والعسل والخمر الموعود؟ سألته هل هو أخضر أيضا؟ فسكت عنها، وانحاز بعيدا مجيبا القارئ بل أنا متيبّس وفصلي شتاء أجرد وبياض قاتل يمكنه أن يحمل جيشا إلى حتفه كما فعل في ستالينغراد. ليس بشير الحامدي بأخضر إذن، ولكن كيف يكون أبيض بلون الشّتاء؟ وهل يجوز مثلا أن يكون الشّتاء بلون مختلف، بلون أحمر كلون الثّورة مثلا، أو لون الحرّية المحايد، أو لون التّغيير الجذري البارد؟
في الصفحة 60 وبعنوان "الذي يقيم خارج كل الإديولوجيات" يستعيد بشير الحامدي لعنة سيزيف الذي اكتوى مطوّلا بأحكام العقل التّصنيفي الإطلاقيّة. يروي بشير قصّة فكاكه من الإديولوجيا، ويعضدها في كتاباته بالفكاك من أحكام النّقد الأدبي ومصنّفي الأعمال الفنّية. وإذا كان التّصنيف الفنّي حاجة علميّة قواعديّة يتقصّدها النّاقد والقارئ لإحكام صندقة النّصّ وتقييد الرّوائيّ، فإنّ التّصنيف الإديولوجي مازال غريبا يكاد يفقد كلّ معنى. يصيح بشير الحامدي أنت لا تولد حرّا أنت تكون حرّا. الحرّية فكاك من التّصنيف واختيار ومصير ومسار بنائيّ. الحرّية ليست معطى طبيعيّا، الحرّية تشكيل ذو دروب سوسيوثقافية.
دفاتر خضراء هو رحلة في الزّمان ينتقل خلالها الكاتب بين مراحل من عمره. إنّها رحلة مكاشفة تعبّر عن تعاقد بين بشير الحامدي والقارئ. ها أنذا منذ انفتاحي على تجربة الكتابة. هذا ما كنت عليه، وإلى هذا المرتقى حملني قلمي وخيالي ورأسي. أنا الآن مع منتصر السّعيد شخص متجدّد لا أدري مقدار جدّتي لكنّني أثق بقارئ حصيف يناور داخل النّصوص ليكشف جماليّات تجربة روائيّة وفق تقديره الخاصّ.
منتصر السّعيد المنسيّ
خيري الدبوسي الصوت. صوت يحيل الى الخير المدبّس، خير بدبّوس، خير مسنّن قد يكون مشروطا بخبرة وخز وخبرة ألم. ما الذي يخزه خيري؟ أ هو العقل المتبلّد لمنتصر؟ أ يخز خيري الصّمت فينطقه؟ أم تراه يخز ليؤلم ويؤسّس للشّرّ انتقاما من السّكون؟ هل بات الدّبّوس آلة وخز؟ الدّبّوس واصل بين طرفين متباعدين، وهو في النص يصل بين الذّات والقلم. إنّه نابع من داخل الكاتب، ضربا من الوعي الباطني أو الأنا الأعلى الّذي يتكلّم آمرا ولا ينتظر غير التّنفيذ. وهو كذلك صوت ينبع من الذّات ليخاطبها. بعض من جبريل ومن ملائكة الوحي، شيء من الاتّصال بالغيب، لكنّه اتّصال واع عند الذّات وعجيب مدهش عند من يتلقّى المشهد. إنّه صوت يتسلّل من أعماق الذّهن إلى أعماق الحركة في الذّات نفسها. ذاك الصوت الّي يأمر ذاتا لا تملك من أمرها غير الاستجابة. يذكّرنا خيري بمعنى أن تنقسم الذّات إلى جوهرين منفصلين وتظلّ مع ذلك مدركة للجوهرين، فتتحرّك في انسجام مع هذا النّزوع الانفصاليّ داخلها دون أن تسقط.
يحتكم خيري إلى قوانين واضحة مأتاها الحكمة السّائرة أمثالا بين النّاس كالقول إنّ من يمسك العصا من وسطها لا يكاد يمسك غير عقابه الخاصّ. والشّأن كذلك لمن يجترح نصف حلّ ومن يكسر بعض القشرة الخارجيّة ويتوقّف، ومن يقبل بمنتصف المسافة ومن يقبل بنصف ثورة. يعلّم خيري منتصرا هذا، معنى مراكمة تشكيل المسار نحو التّغيير الكامل وتجذيره حتّى يصبح سبيلا واضحا للمقبلين من الأجيال. "جيلك وجيلي وأجيال بعدنا ستعاني من هذه التّهلكة، حتّى يأتي جيل يكون قد بلغ سنّ الرّشد". (منتصر السعيد المنسي ص 13). يتحدّث خيري عن ذاكرة الشّعب، تلك الذّاكرة الضّخمة الّتي يستحيل إبطال جنونها وحسمها وانتقامها. في كتابه (موسى والتّوحيد) كان "فرويد" يشير إلى أنموذج من الذّاكرة البشريّة الّتي استحضرت موسى ومنحته حضورا جديدا واسما جديدا وصلبا متجدّدا تيمّنا بذاكرة لم تنقض إلّا لتعود.
هل كان خيري فرويديّ الهوى؟ ينبغي أن نسأل منتصر السّعيد وبشير الحامدي ربّما.
يعود ناظم العربي إلى هذا العمل شخصيّة تستحضرها الذّاكرة. لقد قتل منتصر السعيد ناظما في رواية سابقة، وارتحلت الأحداث إلى هذا العمل. يجيء ناظم مضرّجا بدمائه ومعارفه ممتطيا صهوة صوت داخلي يطرق رأس منتصر السّعيد. ليس خيري من يفعل ذلك. إنّه صوت ثان بلا هويّة معلومة ولا حضور طاغ. يستعيد الصّوت ناظما ويذكّر بمقتله ويؤكّد لمنتصر قرب نهايته وحتميّتها. لم يكن ناظم موفّقا في التواصل مع الجيل الراهن، ومع ذلك قتل. قتله منتصر السعيد ثم نال هويّته وعاش متخفّيا. قتله منتصر رأفة به بعد أن دمّر الزّهايمر وجوده فبات دابّة.
قتل الزّهرة أيضا وغادر المكان. ولم تكن الزّهرة غير أمّه. الزّهرة زانية ولذلك قتلت بعد أن قتلت منتصرا عندما ولدته في بيئة اجتماعيّة مجرمة. قتلها قصاصا من قتله. ولد منتصر مقتولا فتنتقم من والدته. وهو اليوم يعيش بذاكرة جريمته هذه مثلما يتلبّس ناظما ويحيا في هويّته متخفّيا من الشّرطة.
كيف يكون السّعيد منتصرا فيه ومنسيّا؟ كيف للنّسيان أن يشكّل ذاتا سعيدة تنتصر فيها الحياة؟ هل كان منتصر سعيدا هو ابن زنا كما علم لاحقا؟
يحلمنا الحوار الباطني إلى تداع للأحداث. يستدرج الكاتب ذاكرة منتصر في الصّفحة 35 ليغوص في أعماق ناظم وحميميّاته. ثمّ يفاجئنا بالعودة إلى منتصر في نهج القاهرة انطلاقا من الصّفحة 44. يبرّر بشير الحامدي انتحال هويّة ناظم من قبل منتصر. فينشئ ما يشبه الجداول الإزائيّة واضعا مقارنات بين الشّخصيّيتين. لكلّ حبيبته ولكلّ مساره ولكلّ طريقه ولكنّهما شخص واحد. تستحيل هويّة ناظم وذاكرته تجربة منتصر ذاته. ولذلك يستنبت منتصر من قصص ناظم قصّة خاصّة بدأت في مطعم في نهج القاهرة وانتهت بالعودة إلى ذاكرة منتصر. وفي تلك اللحظة، لحظة استدعاء الذّاكرة حصل التّطابق بين ناظم ومنتصر.
بوراوي الوكيل قواد نتن قواد بن علي هو الوالد الحقيقي لمنتصر السعيد. المعلّم ليس والد منتصر السعيد. وحدها الوثائق الرسمية من تصنع الحقيقة، ولكنها حقيقة للتداول العمومي وليست الحقيقة كما تعيّنت في التاريخ، ليست حقيقة ما حصل، بل هي حقيقة سوسيولوجية تتلقّفها الاسماع وتتبناها الجموع المنوّمة بمخدّر الدّولة ووثائقها. بوراوي هو الأب، وليس المعلّم. ولكن لا معنى لهذا الأمر طالما أنّ تنشئة منتصر حصلت على يدي المعلّم، وأنّ بوراوي كان لحظة جينيّة عابرة بلا معنى. هل يطرق بشير الحامدي هذا النّقاش المعقّد بين البيولوجي والسوسيولوجي وعلاقتهما بما يكون عليه الفرد لاحقا؟ أي هل تؤثّر الجينات في ممارساتنا وسلوكاتنا وخياراتنا اللونية والذوقية أم وحدها التنشئة الاجتماعية من تفعل ذلك؟
يدفعنا الكاتب نجو أفق أرحب، هو لا يهتمّ كثيرا بنسب منتصر السّعيد. ستخبرنا نهاية الرّواية بأهداف الكاتب. إنّه يخلّص المعلّم من جرائم منتصر ويحيلها إلى حسابات بوراوي. يقتل بشيرالحامدي المعلّم ويحيي المخبر، ثمّ يقتل الأمّ الّتي أجرمت في صناعة "ابن زنا" ويجعل مقتهلها على أيدي ما اقترفته يداها. كيف نفهم هذا وغيره؟ كيف كانت محاورات منتصر السعيد مع أجهزة الدّولة؟ كيف يتصوّر منتصر تلك الأجهزة؟ ما موقع السّجينات والسّجناء فيها؟ والحيّ الشّعبي وانتظارات النّاس من زرقة ابن المعلّم وبوراوي والزّهرة؟ سيحتاج هذا وغيره إلى الانخراط في النّصّ وما تقدّم مجرّد قراءة توحي بالأشياء ولا تقولها.
ورقة عُرضت بتاريخ الثالث من ماي/ مايو 2025 تقديما لكتابين للروائي "بشير الحامدي".
#رضا_كارم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟